إشبيليا الجبوري – العراق
مرت بسكينة وصمت الذكرى الـ 12 لرحيل الأديبة “عاشقة الليل”، الشاعرة العراقية المبدعة نازك الملائكة (1923 ـ 20 يونيو/حزيران2007) ـ رحمها الله تعالى ـ حاملة “شظايا ورماد” بـ”قرارة الموجة”، عازفة معاني العود شعرا، بالصبر والجلد مقابل إبداع بيان الحدس وبرهان الإبداع وعرفان الذائقة ، جرأة الشعر وشغف الكلمة و دقة رسو المعنى والتجديد، رافق الشعر جذوة عزفها لآلة العود، وحدة هشيم ليالي شظايا رمادها، إن صح القول، لنشاط ميلها الفني كعازفة عود شاذرة فيه طيبا وجمالا مباركا، ومكانة درسه استذاقة اللحن، مكانة الشعر الحياة، انغامه معاني بوتقة ألسنتها، فنون اقلامها الادبية، ما يمكننا القول ذلك بالمناسبة، بمثابة أحد نشاطها الخاص، وكان كل ما أرادت التسمع منه تقييد فكر، أو أتساع تصور، أو تخليد حكمة، أو تثبيت مأثرة، أو اظهار ابداع وعبقرية في دقة الاحساس ولطف التصور، واتقان التصوير والتصوير، أنشأت في ذلك منه أبياتا أو قصيدة، فلا تكاد تجاوز اناملها شفتي اوتاره حتى يتلقفها الكلم والنظم سماعه فيطيروا بها كل مدار، أحوال مطار، فكان الشعر وحده هو أخص مؤلفاتها، وهو تاريخها، وهو مظهر نبوغ فكرها.
ثم حافظت لكل ما تحتفل به لنفسها من فهم إلى العلم والحضارة. ثم جاءت اصدارات رياح التغير، ما بعد الحرب العالمية الثانية، ومحك كنفها التعليمي الذي يتيس فيبه النقد كما يعد فيه اختيار مفاضل الرأي، وتأسيس قواعد اللسان والفكر فيه، تضمنه طراز علم ومعرفة، فنلقتها من العزلة عن الأمم والناس إلى السفر والانتقال لمخالطتهم، فكان جرأ تلك المخالطة مع ما أفادوها، واستفادوا من حول بها من النباهة أن أخذت موهبة السليقة تضعف، وأخذ اللحن والوهن يتسرب واللحن إلى سماع ألسنتهم يخطأ، وأخذ الطعن يهدد اللغة وآثار المعرفة ويتطاول إلى التراث والفكر نفسه، فأن مدارها على الأبداع والعبقرية وهما بالصنع العربي الادبي القويم الفصيح دام قائما بين ميلاد ميولها الفنية هيبة، فنهضت كتاباتها، معرفة وجمالا، يتسقى إلى ألسنتهم لمقاومة ذلك الخطر فدونوا حسن اللغة وآثار وأسست بفصاحتها قواعد وقيدت شوارد، اعتنت بحفظها، أهمها، عنايتها بتراث وتاريخ أمتها، ما نهض صحة نبعه المعين، مد معرفة جذور نبوغ اللغة وقواعدها، وأشرفها صفة على انتخاب المحك الذي تتيسر به نقد الحكايات والقصص عن احوال الاقدمين، فكانت تصغي من لهم حسب معانيها لسان فصيح في التراث والتاريخ، تدنوا من القواعد والاسس الشاردة، المعاني المتأبية، عهدة وجود، من الادباء والعلماء لا شعرا أو حكاية فحسب، بل إن تضمنتها عن بدءوا من نسب إليها القربى، بتشجعها على نقده فان وجدته كما تعهده من الشعر القريض الملفت، أو الحر ـ الحداثي صحة التجديد، أو كما يعرفون من طراز من نسب إليه وثقوا به متابعة وتحديث، تدوين الشعر أبيات المعاني، ونبع يلهم عندهم أصدق الشواهد الحداثية على تطوير أساليب الفنون رفعة للأدب، أو صياغة مفيدة نافعة للشعر و إلا نبذوه كشعر مصنوع غير مجدد أو يحرف فيه الأصيل. ما جعلت تجربتها ذلك دليلا على اختلاق ذاك الخير الابداعي بخبر عبقريتها أصدق الشواهد وأنصع المكابدة إلى الحياة نفسها فصاحة وابداع في ديوانها النبوغ “شظايا ورماد”.
نتلمس فيه، الزمن الذي يعيش فيه الإنسان، ذاتها، زمن ميلاد وانتقال نحو حقبة جديدة، من أتصال وانفصال الروح عما كأنه العالم الذي حد وجودها وتماثلها فيه، إنه زمن القلق، والضجر واللامبالاة الذي يداهم ما ظل باقيا ومستمرا من ذلك الماضي والإحساس الغامض بمجهول قادم، هي الإشارات المبشرة بأن شيئا آخر مختلفا يتهيأ. إن هذا التفتت من الانكسارات يوقفه رمادا من شظايا طلوع الشمس التي تحاول النفس “الإرادة الجبارة” أن تبني صرح العالم الإنساني الجديد، صرح نضوح حداثته.
وحول ذات الأمر يمكن أن نفهم لم علينا أن نفعل أشياء في هذا العالم وكأنها مرتبطة بالحداثة أو على ان الحداثة مرتبطة بوعي تاريخي يجعل من الحاضر الجنين الحامل باستمرار للمستقبل بأزهى مما كان، هذه وقف نلحظها في أنفاس شاعرتنا حين تتوقف بنظرتها الفاحصة لقيمة وعمق التراث والتاريخ لأمتها، وأن نظرتها نظرتها للحداثة في رفضها لنماذج محددة فإنها تعلن انفصالها عن التقليد وعن الماضي كقدم اصطلاحي، لمجرد أنه ماضي، إذ هي تتعارض مع من لم ينبغي أن يكون لدينا عليه قدم رفض صداقته وتطلعاته، للدلالة على أنه رفض ديمومة الآمال والأحلام. ألن يكون من الأجدى أن نفهم سيل وصيرورة تثبت قدرة الإنسان وجذري استطاعة كينونته في حركة التاريخ وتعافي ما نؤوب إلىه من زاوية قصية من العالم أي ديمومة هذا التمرد الخلاق الذي يتشكل في كينونة وعي الإنسان، بذاته داخل التاريخ،، حيث يصير صخبه وتناقضاته من اقترابه إلى التلاشي نحو شدة التعلق بالجديد،؟ غير أن شاعرتنا بالوعي التاريخي ورفضها الثبات مع القدم، أخذ لها أن تجعل إرادة الانفصال عن القديم حاضرة بكثافة غايتا، بلورة الحداثة كحاضر مستديما للمستقبل من ثم يكون في وسعنا أن نتبرأ من الثقافة والمطامح المتعارضة بذات التاريخ والديمومة للدلالة: حينها استشعرت ما قد يؤوب نشأة من جهود، ستخسرها في حركة انفصال صيرورة كل شيء، ولن نحوز شيئا حاضرا في المقابل، بلورة رؤية جديد للعالم، تجعل من هذه الإرادة تطلعات جديدة لا سابق لها يمكن أن تخلخل بنية العقل ورؤية الإنسان التقليدية للعلاقات بين الأشياء وطبيعة النشأة بصفة عامة، لكن إثبات قدرة الإنسان وتجذر حداثة الكونية حوله، إذ أي شيء هذا الذي يرجى أن يجنى من هذا العالم؟ أثمة أناس يعتبرون الظفر بشيء من التغيير أمر تافه، أ تجاوز الحداثة هي نتاج فهم تعساء بلا رجاء ووحيدون دوما في تخلخلات وعرضة ضحية هزات وتقلبات للعالم. الشعور الشديد “لشظايا ورماد”، كوبرنيك الشعر، على المستويات الابداعية المجتمعية والفكرية الثقافية، تخللتها هزات وتقلبات عضوية، نحن كثيرا من بعضنا بعضا! ومع ذلك، لو كان واحدنا صريحا تماما تجاه الآخر، وكنا إذ ذاك نطالع في أغوار أنفسنا، فأي قدر هذا الذي سنراه من مصيرنا؟
ومما أسلفنا ذكره، يظهر لنا تصور بسيط عن إضاءات وامضة، مثل محاولات للانفلات من التقليد: فسمة الحداثة الإيمان بقيمة الإنسانية، حيوية تتجلى، فيه من محتوى الإبداع مفهوم يتراوح بين التأكيد على احتواء الإنسان من تناهيته وعلى تأكيد فاعلية، إرادته المتعالية، قيمة، مركزه الجديد، طموح يشرف عن تموضعات كادت أن تبتعد عنه المحمولات بحامل تخيلها. شاعرتنا كانت نظرة التحول في قراءة على إننا مفرطو الوحدة في الحياة إلى حد ينبغي أن لنا أن نسأل عنده إن لم تكن وحدة ما يميز بالانفتاح على المستقبل بإظهار قراءات متعددة عن الحداثة، وعلى بداية تخفف المرحلة التاريخية بالموت رمزا مطلقا لوجودنا البشري، بمعنى أن يصبح الحاضر أيضا يمكننا خلاله بالانفتاح على المستقبل، وعلى بداية مرحلة لها صفات تاريخية متجددة بأناسها من عطاء، فالحاضر يصبح مرحلة انتقالية مستدامة، مرحلة انتقال تتلاشى في الوعي بالتسارع، مفموما بالزمان الدائري المتبع فلسفيا على حاضر له قواعده الخاصة في نوابض منظمات تسارعه. لكن أمن المستطاع أن يكون في اللحظة الأخيرة لها أن تتخذه عزاء لما فيها منه؟ هذا الاستعداد للعيش والموت لشاعرتنا في المجتمع دلالة على عوز عظيم رغم مفهوم التقدم. مما يجعلنا الوقوف عندها في نظرة متقدمة الابعاد بتمثل الزمن والتاريخ الوجود الخاص عندها. من الأجدر بالتفضيل النهوض على أساس تجربتها ألف مرة من أن تموت وحيدة في مكان، في التاريخ ونظرية التقدم الحر، حين بدأ الأخذ بالاقتناع بفكرة التقدم المناهضة تماما للرؤية القديمة للزمان الابداعي والعبقدية في الرؤية الدائرية للإبداع.
وما يمكن استجلاءه هو أن مفهوم البنية الابداعية للشاعرة هو مفهوم إنساني للتقدم، يرتبط بفكرة مفادها أن الإنسان فاعل مهم في التاريخ، كما فكرة الكتابة عن ذلك؛ تطلب منها بفكرة “التفاؤل بالمستقبل”، ومن ثمة في الحداثة التي ستعكس على الإنسان العراقي والعربي بوجه عام هذا النزوع نحو التقدم بإنسانية مطلقة. فالحداثة بالنسبة لشاعرتنا إنما هي قيمة تستمد معها من ذاتها الابداعية واستمرار ذاتها كحركة دائمة موجهة بخير الإنسان ومدارها ليس عملية التقسيم ذاتها، وإنما عملية التقدم النقدي التي ترافقها، إنها دلك المستوى الذي غدت فيه حادثة، تنعكس على الإنسان الحديث، قيمة، أصبحت عليها أكثر رقي بقيمها الأساسية التي أحيلت كل القيم الأخرى تتضمنها في بنية قصائدها الى دورتها الزاهية، الزمان الدائري بذاتها.
ومن معينها الشعري والأدبي: شعريا: كـ(عاشقة الليل، 1947)، (شظايا و رماد، 1949)، (قرارة الموجة، 1957)، (شجرة القمر، 1968)، (يغير ألوانه البحر، 1970)، (مأساة الحياة وأغنية الإنسان، 1977)، (الصلاة والثورة، 1978) وأنشطة لكتابات آخر. ونقدية أدبية: كـ(قضايا الشعر المعاصر، 1962)، (التجزيئية في المجتمع العربي، 1974)، (سايكولوجيا الشعر، 1992)، (الصومعة والشرفة الحمراء، 1995)،…إلخ، بالإضافة إلى(مجموعة قصصية: الشمس وراء القمة، القاهرة، 1997).
أما بعد
و ليسمح لي القارئ العربي الكريم ـقارئ موقع طيوب البلدـ الليبي تحديد، والناشط العمومي كقارئ، أن أنطلق من هذه البداية، لا لبداية مسيرتها الادبية العمومية والأكاديمية، والابداعية المميزة، بل الانطلاق لمنجزها، الوجود السابق في شهرتها، على إصدار مطبوعاتها الغنية عن التعريف، بل يمكننا الوقوف بالتساؤل عما لحق باحتفال بها، قائما بين الناس، استحضار لنشاطها الإبداعي، هي بمثابة المنجز الحافظ لكل منجز، طالما مستقرا بين عفاف مسيرة ذاكرة حاضرة الناس، ومساس حافز للحياة العمومية والمحافل الاكاديمية والادبية بالعراق، المنطلق، وهي أرض ميلاد الشاعرة، وسيل سنين أوجاع غربتها، خارجه،. حيث حققت شاعرتنا واديبتنا العراقية شهرة سابقة على إصدار ديوانها الشعري ( شظايا و رماد، 1949)، بل أثار انتخابه إشكالات عويصة إلى يومنا هذا، عما كان له النجاح غير العادي للكتاب من إضافة إبداعية وتدوين المعنى، إثار فكرة مدهشة، ستكون فيما بعد، له بعدا فنيا ابداعيا مميزا في الشعر العربي عامة، سيكون مما لولا النجاح السابق عليه، والذي عرفته شاعرتنا كإنسانة، إذ أن هذا التفوق الأخير حمل “صدق وجدانها الإنساني” هو بمثابة تأكيد لنجاح تجربتها الشعرية في نجاح الديوان، وهذا على الأقل ما كان يعتقده الزملاء والطلبة لها، وكذلك النقاد (بغض النظر عن الضغائن والدسائس) أنداك. ولا يتعلق الأمر فقط بالتأثير الخاطف والعاجل لمؤلفها، الطفرة الابداعية الشعرية، ولكن وعلى الخصوص، بتأثيرها الفائق والمتميز الذي أنعكس تفوقه على المدى البعيد، إذ اخذ تداوله، لهفة فكرية نادرة، حراك قيمة ثقافية، هي الإصدارات النقدية التي يمكن أن تضاهيه شهرة مرت من قبل. وهذا على الأقل ما كان يعتقده متابعيها، وما نتلمسه نحن من دراسات عظيمة، جمة كتبت متضمنة هذا النجاح للكتاب، ومحتواه الابداعي، الأهم.
لقد كانت هذه الشهرة الأولى، التي انطلقت متضمنة لشيء من الدهشة والغرابة، ولربما كانت أكثر دهشة من شهرة عبدالقادر رسام أو صافي النجفي في بداية العشرينات أو من شهرة فائق حسن أو البياتي والسياب خلال العقد الأخير من الخمسينات، فهؤلاء كانوا أيضا مجهولين لدى عامة القراء، بالمعنى الشائع للكلمة، وكانوا مع ذلك لهم دور فاعل، وهم يمارسون تأثيرا رائعا عليها.
غير أنه في حالة اديبتنا اللامعة (نازك الملائكة)، لم يكون هناك مرتكز تستند عليها الشهرة، فلم يكن هناك أي مجدد أو حداثي مكتوب، باستثناء بعض قطوفات الهوامش والمسودات العابرة التي كانت تتناقلها الأيادي، وتتداولها كما لو أن هذه الكتابات كانت تعالج نصوصا حداثية مبلغة بمواكبة معارفها على الصعيد الثورة الحداثية العالمية في حينها، ولا تتضمن أي أي ميل مذهبي يمكن تقوم به الكتابات للإشارة عن الإعلان عنه وتبليغه. لم يكن هناك سوى أسم، ولكن هذا الأسم كان يطوف بكل انحاء البلاد وخارجه، عربيا كبيان خبر الملك المفاوض المتبصر المتكتم.
لقد كان الأمر يتعلق بشيء آخر، مخالف لـ”دروس الجلسات الحوارية/الصالونات” المتمحورة صنواتها حول الحداثة والعلم والتعلم والمرأة ومسيرة التنمية الادبية والثقافية من نشاطاتها “التأثير العائلي المباشر” من طرفها، كما هو الشأن مثلا، بالنسبة لحلقات “والدها، أو، الاقرباء والاصدقاء المعروفين للعائلة”، فهذه الحلقات المعرفية، ضمن الصالونات الثقافية، من أقربهم إليها ثقلا اجتماعيا وثقافيا، تحتمي منه وراء هالة السر الذي تدعي أعضاء الصالون الثقافي دون غيرهم. وبالنسبة هنا، لهذه الحالة التي تهمنا لم يكن هناك سر، ولم يكن هناك مريدون، لهذه الكلمة الأخيرة من معنى. فأولئك الذين بلغهم النبأ، كانوا يتعارفون الخبر فيما بينهم بدون شك، لأنهم جميعهم من المقربون من الزملاء والطلبة والمهتمون بمجال الأدب والثقافة واهل العلم معرفة، وقد حصلت بالمناسبة صداقات وتبادل أفكار ورأي فيما بينهم، بل سنلاحظ فيما بعد، المشاركة في تشكيل أنشطة داعمة لمواقف وطنية وقومية تحررية من جمعيات هنا وهناك، لكنها لم تصل مطلقا إلى مستوى “الحلقة التنظيمية” السائدة بالمعنى المعروف اليوم، ولم يكن هناك أي أيديولوجية متسترة النزعة. إذن من الذي تلقى الخبر بانتشاره؟ وما أصل ما يحمله هذا النبأ من صناعة وراءه؟
المعروف بعد انتهاء العالمية الثانية، كانت المعاهد الاكاديمية العراقية، تعرف مرورها بحالة غليان وتفشيا مبالغا من القلق، لم يرتقي طبعا إلى التمرد، غير أنه طال النشاط الأكاديمي للأساتذة، والفورة الثقافية للطلبة، وشمل جميع مناحي الجامعات والكليات والمعاهد بأقسامها، التي لم تكن مجرد تأهيل مهني فحسب بل شملت الجميع. فالشعر وباقي فنون الأدب التطبيقية لم تكن موردا للرزق، بل كانت بالأحرى مادة ثقافة البائسين الحازمين، ولأنهم كذلك فقد كان من الصعب إرضاءهم. فهم لم يكونوا طامحين أبدا إلى نيل الحكمة، كما معروف بين من تأهل في زمن المأمون أو العهد اليوناني القديم. وكل ما كان يهمها وشغلها الشاغل أمر حل جميع الألغاز، كان يتوفر تشكيلة وفيرة بسياق التصورات حول العالم والحداثة السائدة، التي يمكن منها المطابقة لها وعليها؛ فللقيام بالاختيار هنا، لم يكن المرء في حاجة إلى أنتشار التعليم وتعليم فنون الأدب والفلسفة والاقتصاد والسياسة ونظم الشعر فحسب. بل أكثر من ذلك، لقد كانوا يجهلون ماذا يريدون، نتيجة المعوقات والصعوبات في الصيغ الفلسفية الصادمة، والعلمية المتأزمة، فالأوساط الأكاديمية كانت تعرض بشكل عام، إما مدارس تعليمية، مثل معاهد التعليم العالي الحديثة، أو القانون أو الطب أو بعض التخصصات الحديثة…إلخ، و إما التاريخ القديم من حيث تتوزع فيه التخصصات في خصائص أقسامها الداخلية بمنهج التفكير التحديثي/التجديدي (كما يروق للبعض تسميته) مثل تاريخ فلسفة العلوم، ونظرية المعرفة الاسلامية وعلم اللغة والجمال والاخلاق والمنطق والنقد وتاريخ الفن العام…إلخ، تحت مظلة التحديث/التجديد، ولم تكن بالتأكيد المواد التخصصية محفورة وملقنة بشكل جيد، بل كانت مفروغة من جوهرها إطلاقا، بفعل تفشي القلق والضجر العام الجديد والمربك.
مقابل هذا النشاط الذي يبدو على أية حال مريحا، كما يبدو أسلوبها متينا، برز أنداك عدد قليل من المتمردين قبل ظهور (نازك) على الساحة. فمن ناحية الأسبقية الزمنية، محاولات منهم القبض على مفاتيح، غير أن محاولاتهم كانت مفرغة من جوهرها بفعل ضجر لا يحد. وخاصة من لهم الفضل عضوية المشاركة في تأسيس مجلة (شعر) وقتئذ الذي سيطلق عليها بحاضنة التجديد إلى الأشياء ذاتها، وهو ما كان يلفت إليه كحشد شاغر، لما يعني حركة تجديد لإملاء الفراغ، ولترك النظريات والكتب العقيمة جانبا، التي أنهكت قيم العقل وسببت إقامة أزمة حادة للمعرفة اثر اندلاع الحرب العالمية الأولى/الثانية، والهدف أن تجعل الشعر ابتغاء علم ومعرفة وابداع صارم يفرض نفسه إلى جانب الفلسفة إبداعا إلى جانب التخصصات الاكاديمية الأخرى من نقد والنشاط ماله جانبا مريحا بإبراز الرأي والحكمة والنفاذ إلى الإنسان على ظهوره “الآس” الأسبق الاهتمام في الشعار المرفوع.
دون شك، كان هذا الشعار ساذجا جدا ربما، وفاقدا لكل نية في سياق التمرد المعني في الشعار، غير أنه بمثابة الانطلاقة التي ستستند عليها (شاعرتنا المبدعة: نازك الملائكة) في البداية وملازمة السياب عنه فيما بعد.
وكانت بنازك أيضا، دافع الشخصية المتمردة عن وعي وانتماء إلى تقاليد لقيم إضافية غير التقليد الشعري ـ أو التقليد الفلسفي الابداعي فيه. حيث ظبت لمدة طويلة كما نعلم، تبحث وتجمع، كما تعمقت علاقاتها بمحدد العلاقات مع من لهم اهتمام بالتجديد بأواصر الصداقة، لأن التمرد الذي كان يطبع مسعاهم في الفترة الأخيرة من تلك الفترة، كانت تهيم شاعرتنا باعتبارها لمست مسعا فلسفيا نحو التجديد، وبشكل جذري إلى ذات الأشياء، لغرض أن تترك الهرطقات والمسميات الفارغة من تلقين معنى الشعر، وغرس سمة تجديد أسلوب نظم الشعر الحياة، بعيدا عن وسط ثرثرة المتداول أكاديميا للنظرة السائدة حول الشعر. مما شكل مسعى ابداعيا عبقريا بشكل جذري.
…. يتبع
________________________________________________
* كتبت هذه الورقة، والتي كان تم تقديمها لمركز نادي ثقافي عربي للجامعة (….) بالقاهرة، والمشاركة جاءت بدعوة، احياء تاريخ ذكرى وفاة الشاعرة الـ 12، و المنعقدة بتاريخ 20 حزيران 2019.