ثمة أشياء نفقدها تدريجيا كل يوم نفقد شيئا منا نعيش خارج حواسنا بالكاد نتلمس طريقنا أو نسمع خطواتنا. نكبر ونكبر ربما. لا شيء ينادينا سوى صدى الظلال البعيدة وشيء من الخذلان وكثير من الانكسارات. نعبر الرحلة سريعا نبحث عن ذلك الضوء في نهايتها لنكتشف أننا انعكاس له. تبدأ الرحلة وخلفنا طريق مغطاة بغطاء رمادي بمقعدين أماميّين ومقود القدر يقودنا نحو طريق آخر نتجه نحو رحلتنا بفرح الأطفال في مرات و انكسار الكبار في لحظات. مثل سكون المقابر ليلا تنتهي الرحلة.
كنت أنا وأخي قيس ننتظر يوم الخميس بفارغ الصبر بمجرد أن ننتهي من وجبة الغداء حتى ننادي لأمي ونطلب منها ثمن البيجو خيمة (جنيه) (يا أمي عطينا جنيه منمشو لخوالي) وبالقرب من عمارات التعليم نقف على ناصية الشارع بداية شارع (المطبات) حاليا. وما هي إلا ثوان و تمر مجموعة من (البيجوات)، (نركبوا) من عمارات التعليم إلى حي المقاوبة، وكأننا في رحلة إلى مدينة لبدة، لم يكن بحوزتنا إلا 2 دينار (زوز جنيه) وكرة البلاستيك التي كانت وقتها مثل كرة أديداس، كان دائماً في انتظارنا ابن خالي جمال فهو من عمرنا كنا نشترك في حب انتر ميلانو ورونالدو داليما كنت أحمل ألبوم الصور الخاص به، حتى (الحسٍّان) نقوله رقم 1 زي رونالدو.
يوم الجمعة في حوش خوالي يختلف عن بيتنا كثيرا؛ لأن حوش خوالي له رائحة خاصة بيت دافئ كالبيوت القديمة، رغم أنه مفتوح من فوق مثل أي بيت قديم، يختلف عن بيتنا له رائحة خاصة ذلك الحصير والفراشات والتلفزيون الأحمر الصغير المفضل عند جدي كنت دائما أترجم له أحداث المسلسلات رغم معرفته ببعض الكلام عن طريق حركة الفم، نخرج من الباب الخلفي” الباب الصغير” والذي يفتح على مجموعة من المنازل القديمة، حوش شويقير وعيت شاحوت وعابدي والأشلم والقزيري، كانت هناك عادة تشي بالوعي الجمعي للمجتمع وهو مناداتنا بأسماء أمهاتنا، ما إن أخرج أنا وأخي قيس حتى تبدأ بسماع حوااااااء يا حواااااء ونرد نحن أيضا باسم أمهاتهم.
بعد عودتنا من الصلاة نجد حنتي فاطمة تنشر الغسيل الذي كان كله يكسوه اللون الأحمر، الجوارب الحمراء والقمصان الرياضية الحمراء، هذا خالي عادل الذي كان يلعب في الفريق الأول للكرة الطائرة بنادي السويحلي (عادل تنتون) لاعب مركز(3/6)، أذكر تماما غرفته الخارجية المستقلة المليئة بصوره مع الفريق والميداليات والكؤوس. لازلت أذكر سطل الحديد الصغير المليء بالماء الدافئ، موس الحلاقة والمرآة الصغيرة إنه موعد حلاقة وجه خالي محمد الكبير في العائلة.
سوق الخضراوات (المنقوش) وذلك المحل الصغير محل عمي حمد بوكر بعد جلسات طويلة يجلسها جدي جمعة مع شيابين الشارع سفرة النحاس التي لا تعرف وجهها من قفاها تحط على مطابتها طواسي صغيرة يسكب فيها الشاهي الأحمر أو بالأصح الشاهي الأسود المطبوخ ويختم جدي جمعة الهدرزة بشراء الخضراوات والفواكه الصيفية التي ينوع منها لأنه يعرف أننا موجودون. وأعود معه لكي أحمل معه الأكياس لأنه لا يستطيع حملها رغم قلتها بعدما كان يشتري (بالقابية) هذا كان قبل أن يسقط من على دراجته ويصاب بكسر في منطقة الحوض من يومها. لم يعد يقود دراجته ولم يعد يشتري الخضراوات من سوق (الخضرا المنقوش) واستبدل ذلك بالشراء من محل عمي حمد بوكر الصغير.
لم يكن هناك شيء ينقص حوش خوالي، كنا نأكل كل شيء نحبه رغم معاش جدي التقاعدي الصغير وخالي سليمان موظف البلدية البسيط لكننا كنا نجد كل شيء. فطور حنتي فاطمة الصبح لعب كرة القدم (بين الحيشان) الألعاب في جردينة المقاوبة، فطور شهر رمضان (مهلبية حنتي)، كل شيء له طعمه الخاص.
انكسار جدي جمعة هو بداية النهاية، لم تحتمل عظام جدي وفي سنه الكبيرة هذا الكسر، لم يتماثل للشفاء سريعا وظل فترة طويلة بالعكاز( القيلة) …. صوتها لا يزال في مسامعي إلى الآن. سنواته الأخيرة بعد هذا الانكسار ازدادت انكسارا وألما وحزنا، بدأت صحته تتراجع، ووزنه يتناقص شيئاً فشيئاً لدرجة تغير ملامحه.
في أسبوعه الأخير (شتاء 2007) كنت قد عدت من إجازة في الإسكندرية سمع بأنني سأزور طبيبا متخصصا في الربو الشعبي رغم أنه فقد شيئا من ذاكرته إلا أنه سأل عن صحتي (إلفان إلفان) هذا نطق اسمي لجدي الذي فقد القدرة على الكلام من طفولته بعدما سقط على رأسه من ظهر عمه.
رحل جدي جمعة تاركا لنا قلبه الكبير وشخصيته البسيطة الطيبة، جدي جمعة شخصيته البسيطة الطيبة، تجاعيده الطاهرة عيناه الكبيرتان المتسعتان الواضحتان اللامعتان رائحته الزكية قبعته البيضاء، نشاشته الخضراء نظراته الثاقبة وقلبه الدافق المحب رحل جدي تاركا رحلة حب طويلة مليئة بأجمل الذكريات، مرت سريعا مثلما مرت ذكريات رحلة البيجو خيمة سريعا.