يتفق الجميع تقريبا على ان المسرح هو أستاذ الشعوب وسيد الفنون , فالمسرح بوسعه ان يحتضن كل الفنون فوق ركحه , فالشعر والسرد والتشكيل والموسيقى والإضاءة والحوارات والأزياء والتنكر والرقص والتمثيل والحركة , كلها عناصر يمكن للمسرح ان يحتضنها , هذا في العموم .
وتنشيطا لذاكرتنا المسرحية وانطلاقا من دورها الذي ألزمت به نفسها , أقامت الجمعية الليبية للآداب والفنون مساء الثلاثاء الأول من مايو الجاري ندوة بعنوان ” مصطفى الأمير كاتبا مسرحياً ” تُليت فيها ثلاث ورقات بحثية تناولت سيرة وتجربة الكاتب المسرحي والمخرج والممثل الراحل مصطفى الأمير .
أفتتاح الندوة جاء عن طريق عضو الجمعية ومدير الجلسة الكاتب مفتاح قناو الذي نوّهّ في كلمته الأفتتاحية بدور الراحل في مسيرة المسرح الليبي الذي توزع وقتها ما بين توظيف المسرح العالمي والعربي حتى جاء الأمير ليمنحه هويته الليبية الخالصة بأعماله التي تخوض في الشأن المحلي وتستثمر اللهجة العامية.
أولى الورقات كانت بتوقيع الناقد وأستاذ الفنون ” أحمد عزيز ” وبعد التحية للكاتب الراحل شرع في قراءة ورقته النقدية التي ركزت على عدة نقاط تميز بها مسرح الأمير , واتخذت لها عنوان ” الحوار عند مصطفى الأمير ” وقبل أن يدخل في صلب الموضوع ويشرع في تحليل المسرحيات ويسرد بعجالة نُتفاً من سيرة الأمير وطفولته في المدينة القديمة , تحدث عن العوامل التي شكلت وعيه الفني وعن ذلك الزخم الأجتماعي والثراء العاطفي والوجداني الذي كان متاحاً له والذي انعكس تالياً في مسرحياته فالواقع – والكلام للناقد أحمد عزيز – هو المرجعية الأولى للأمير , هذا بالإضافةِ إلى خلقه للواقع من خلال معالجاته التي قدمها في مسرحه وأشار الباحث من ضمن ما أشار له ك إلى مسألة الأستطراد في الحياة وفي المسرح الأمر الذي اعتبره عنصرا مزعزعا للبناء الدرامي والخط العام للمسرحيات وكذلك اعتماده الكبير على الحوار الذي كثيرا ما اخترقه وخرج عنه الممثل الكبير والكاتب المسرحي محمد شرف الدين رفيق الأمير , فالنص عند الأمير بحسب الباحث مليء بالتلميحات الركحية لأنه الكاتب والمخرج في ذات الوقت , فالأمير كان يكتب نصوصه بعقلية الكاتب والمخرج لا الكاتب فقط ومسرحياته تُكتب مباشرة للتمثيل بعكس مسرحيات عبدالله القويري مثلا التي تُكتب للقراءة ويتم إدخال تعديلات عليها بالضرورة لو رُشِحت للتمثيل بينما تُمثل مسرحيات الأمير مباشرة وما ينقص النص يكمله هو كمخرج بالحركات والإيماءات وغيره من الحيل الإخراجية , ذلك انهُ قد يتجاوز بعض التفاصيل ولكن الإخراج يكملها , هذه خاصية تحدث عنا الباحث بإسهاب وهي الحوار ثم انتقل إلى الخاصية الثانية والمتعلقة بالتوظيف المبالغ فيه والأعتماد الكبير على الأمثال والتعابير الشعبية في كل المسرحيات تقريبا التي كتبها واعتبر الباحث أن هذا الأمر طبيعي لأنه جزء من ثقافة ذلك الزمن وانعكاس جلي للواقع الذي يزخر بالأمثال والحكم حتى أن العناوين لم تسلم بدورها من هذا التأثر فحملت بعضا منها مثل :-
اللي تظنه موسى , و الجنازة كبيرة , وقبر مشيد , و عكوز موسى , و حلم الجعانين , ويلا حظ هنا الأكتفاء بالمقطع الأول من المثل السائر تحفيزا للمتلقي وإمعانا في الرمزية , كما ركز مسرحه على شخصيات معينة وساعده إجادته للغة الإيطالية في تطوير أدواته والحصول على أفكار جديدة قام باستنباتها في المسرح الليبي وأضفى عليها الطابع المحلي , قبل أن يختتم الباحث هذه الإضاءة بالإشارة إلى أن الأمير صنيعة نفسه في مجال المسرح إذ لم يتلقى تعليما أكاديميا ولوجود إرادة حقيقية للتفوق والإبداع انطلاقا من العشق والإخلاص لما يحب قدم الجديد والمتميز الذي تأسست عليه بالتأكيد بعض التجارب اللاحقة .
مختار دريرة من ناحيته وهو الباحث التالي تلى السيرة الذاتية للراحل فعرفنا منه انهُ من مواليد سنة 1924 في أحد بيوت زنقة الريفي التي تقع في الجوب الغربي للمدينة القديمة قرب كوشة الصفار وجاور عائلات طرابلسية عريقة .
ثم قرأ الباحث ما أسماه , مقدمة ضرورية لمن يريد أن يدرس المسرح الليبي تحدث فيها عن حاجة المسرح لجهود النقاد والباحثين وتجميع كل الجهود المشتتة في كتب تؤرخ للحركة المسرحية , واستعرض في سياق حديثه العديد من المؤلفات التي رصدت وحللت المسرح الليبي وعلى رأسها الجهد التجميعي الذي قام به الأستاذ نوري عبدالدائم ” مائة عام على المسرح الليبي ”
وكان الامير قد التحق صغيرا بكُتاب الزرقاني وأمضى ثلاث سنوات بالمدرسة الاسلامية العليا ولاحق المستجدات المسرحية في ميلانو وأغرم بالسيرك وحلم بأن يمزج ما بينه وبين المسرح .
وعدّدَ الباحث الفرق المسرحية التي انضم لها الامير وعمل فيها ككاتب وكمخرج وكممثل صحبة أسماء مهمة سطعت في سماء المسرح وكانت الفرقة القومية محطته الأخيرة رفقة الممثل محمد شرف الدين .
و إلى جانب عمله كصيدلي بالصيدلية المركزية وعدة صيدليات أخرى يمتلكها الإيطاليين في ليبيا لإجادته الحديث باللغة الإيطالية عمل في المسرح , وتفطن الباحث إلى ما تفطن إليه الباحث الذي سبقه من استثمار الأمير للحوار في مسرحياته واستخدامه للأمثال الشعبية والتعابير الدارجة واشتغاله على الرمزية .
وانتقل الأمير إلى رحمة الله تعالى في 28 – 4 – 2006 ودُفِنَ بمقبرة سيدي بوكر بمنطقة الظهرة .
عبدالله هويدي الكاتب المتخصص في الكتابة عن المسرح صاحب الورقة الثالثة بدوره تناول مسرح الأمير من ناحية اهتمامه بقضايا المرأة الليبية التي رأى انها تعاني تهميشا وظلما اجتماعيا ومسرح الأمير انتصر بلا مواربة لقضايا المرأة ولحريتها وكان له دور في ما حصلت عليه من مكتسبات وامتيازات لاحقاً .
كما تنبه الباحث إلى نقطة مهمة وهي أن كل كُتاب المسرح في فترة ازدهار الأمير خرجوا من تحت عباءته وأن تأثيراته عليهم كانت واضحة ولأنهم قاموا بتقليده .
وفي كتاباته المسرحية انتصر للمرأة وطالب بإتاحة الفرصة أمامها للإبداع وكشف عن قدراتها المطموسة .
وعرفنا من خلال الورقة البحثية كذلك بان الأمير ترجم المسرح الإيطالي الذي كتبه لويجي بيراندللو وكارلو قالدوني , كما عرَّجَ على الملاحظة التي أدلى بها الباحث السابق من ان الأمير كان يكتب للعرض لا للقراءة وهو الأمر الذي يمثل – من وجهة نظر الباحث – تأكيد للحقيقة التي تقول بأن العرض المسرحي سبق النص المسرحي تاريخيا .
ومن خلال مشروعه الذي استمر لستون عاما أستطاع الأمير – كما افترض الباحث – أن يعلق الجرس في رقبة القط بلفت أنظار المجتمع إلى قضايا المرأة .
إلى هنا تنتهي ورقة الباحث عبدالله هويدي الذي لا يزال يضج بالحيوية ويتقد بالنشاط رغم كبر سنه حفظه الله , ومع أنها ورقة قصيرة تلك التي قرأها بعجالة مع بعض التعليقات إلا أنها اختزلت في طياتها الكثير وكانت مكثفة إلى أبعد حد وأغنت كثيرا عن بعض الكلام الذي لا لزوم له .
وقبل أن يُفتتح باب النقاش تم بث الحلقة الأخيرة من مسلسل ” عائشة وسليمان ” المسموع الذي يناقش قضايا اجتماعية ملحة وقت تسجيله وهو العمل الذي كتبه الأمير بالمشاركة مع الممثل محمد شرف الدين .
ولم يُفوت الروائي أحمد ابراهيم الفقيه فرصة حضوره للفعالية ليدلي بشهادته التاريخية حول الراحل الذي اعتبره نابغة في مجاله لأنه انطلق من اللا شيء تقريبا ليصير شيئا معتبرا , وهو بحسب تعبير الفقيه نبات من نباتات ارتوت كثيرة بعبير وعبق وقوة هذه الأرض لتكون حالة من حالات التجلي والفن والإبداع والتمثيل واعتبر أن ما قدمه مدرسة استجابت لمعطيات الواقع , واستحضر في سياق حديثه بعض المواقف الطريفة وأثنى على الراحل الأمير الذي عشق المسرح إلى الحد الذي كان معه مستعدا لان ينفق عليه من ماله الخاص دون انتظار مقابل , ذلك أنه كان يمول نشاطاته المسرحية من جيبه , وهنا دعا إلى تجميع أعمال الفنان وما كتب عنه لتوثيقه والحفاظ عليه .
كما اعتبر المتداخل اللاحق وهو الأستاذ البوصيري عبدالله أن الأمير هو المؤسس الحقيقي للمسرح الليبي لأنه واصل العطاء وخلّفَ أثراً حتى بعد وفاته وظل باقيا , ورصد ثلاث نقاط مهمة في كتاباته المسرحية أولها انحيازه للفقراء والمنتمين للطبقات الدنيا في المجتمع واعتماده على الموروث الشعبي الطرابلسي على وجه الخصوص في مسرحه وإبرازه للخلل الأجتماعي من خلال الصراع الذي كان يديره بين شخصياته التي تكون في الغالب من عائلة واحدة كون مسرحياته تدور داخل البيوت الطرابلسية .
أبن المُحتفى به كانت له كلمة قرأ من خلالها رسالة كان قد تركها أبيه وجال بنا بعد ذلك في استعجال في دروب ومنعرجات سيرة والده الذاتية ومالَ ناحية تجربته المسرحية التي تداخلت مع سيرته , وتحدث عن اصطدام والده بالسلطة وسفره إلى مصر وصداقته للفنان المصري فريد شوقي , كما استعرض من خلال جهاز العرض المرئي بعض الصور التي يظهر فيها والده منفردا وفي صحبة آخرين من اصدقائه والمقربين منه في أماكن ومناسبات مختلفة ليختتم بمقولة يوسف القويري ” أن المجتمع المتخلف يقذف بطلائعه نحو المنفى ” في إشارة إلى ما عاناه والده في سبيل تبليغ رسالته الفنية .
فيما أفصح الاستاذ عبدالرزاق العبارة عن أمله في أن يُدرس مسرح الأمير من ناحية نضجه وتطوره إذ لم يبقى هذا المسرح بحسب رأيه مستقرا وأنما أخذ يتطور رويدا رويدا إلى أن وصل إلى ما وصل إليه من نضج .
وليصحح بعض الحقائق التاريخية باعتباره شاهدا عليها وصاحب ذاكرة حديدية لا تطرح شيئا من مخزونها من الذكريات – أدام الله عليه هذه النعمة – تدخل الأستاذ امين مازن .
أما صاحب المداخلة الأخيرة المخرج محمد المسماري فتحدث من جهته ومن منطلق تخصصه كسينمائي وأستاذ جامعي عن بعض النقاط الفنية مثل كتابة النصوص المسرحية للمشاهدة وهو الأمر الذي تفطن إليه الأمير مبكرا , وأشار الباحث إلى مدرسة تأسست في فرنسا ستينيات القرن الماضي تقريبا ونادت بالكتابة المسرحية لغرض المشاهدة .
ويُذكر أن قناة الجوهرة المسموعة كانت حاضرة لهذه الفعالية وقامت بتسجيل فقراتها من ألفها إلى ياءها لبثها وإتاحتها مسموعة لمن لم تسنح له ظروفه الحضور شخصياً .
وهنا تحديدا أعلن الأستاذ مفتاح قناو عن نهاية المنشط الذي استمر لساعتين متواصلتين حفلتا بالحوار الجاد والنقاش المثمر والمتعة أيضاً.