من رسم مرح المصراتي
قصة

ما كتبهُ القادم من أعتاب نفسهُ على مذكرته وما سيحكيهِ لي لاحقًا وهو يفرغُ الكأس في جوفه

في مذكّرة من نوعية “مولسكن” الفاخرة، كتبَ في أولى صفحاتها:
“من المفترض أن يبتدأ هذا السرد من المشهد الذي التقيتُ فيه مع الشهيد وهو مغطًا بالدم، ولكن هناكَ أشياء ينبغي عليّ سردها قبيلَ ذكر ذاكَ المشهد الذي يُعتبرُ جوهر هذهِ الحكاية. فالانسان عادةً ما يتخيّل الواقع تحتَ تأثير الحشيش أناسًا بالقرب منه، أو يتحركون قرابةً منه أو حتى يتحدثون إليه، لكن سرعان ما يكتشفُ الحشّاش انّ هذهِ مجرد هواجس لا صحة لها. الحشيش بشكل عام وعوالمه تأخذ الانسان إلى عوالم داخلية وارهاصات مبالغ فيها وهواجس أخرى تجعلهُ يفكّر في تفاصيل صغيرة حدثت لهُ في حياته أو في طفولته، وان أضفتَ إليها بعض الموسيقى فإنّ هذا الجو الساحر سيصيرُ بقدرة قادر نوعًا من الإدمان. بالنسبة لي شخصيًا أدمنتُ اللحظة التي تأخذكَ لها هذهِ العشبة: انشقاق اللحظة والشعور بالخفّة والسفر العميق في أرجاء المخيّلة وتشابك الأفكار وعدم القدرة على التحدّث لكائن من كان نظرًا لصعوبة تجميع تركيزك عندَ نقطة محددة أو فكرة واحدة، بالإضافة إلى ذلك، تساعدُ العشبة السحرية هذهِ المرء على التصالح مع نفسه واكتشاف بعض الجوانب الطيّبة والمشرقة في داخله. إنّها تعطي الفرد نوعًا من النعومة كالتي نجدها في الطقوس الدينية. هذا بالنسبة للحشيش، ولكنّي في نهاية المطاف، اضطررتُ لتركهِ لأسباب اقتصادية وبتّ أحاول استرجاع هذهِ اللحظات بإغماضي لعيناي والاستماع للموسيقى محاولاً استرداد تفاصيل ما صغيرة في حياتي، إلاّ أنّ ذلك لم يساعدني البتّة لأنّ نوبةً من الكساد والكآبة باتت تجتاحني، ذلكَ أنّ العقل ليسَ مخدّرًا وبالتالي تذكّري للتفاصيل المؤرقة من حياتي تجعلني أتحسّر عليها لا الاستمتاع بالعودة لها كما يحدثُ حينَ أكونُ متصندلاً. كما أنّ طقوس لفّ البافرا بحدّ ذاتها ممتعة: فرك العشبة وخلطها بالتبغ ثمّ لفّها في ورقة رزلا وحرق جانبها كي تصيرَ أنحف ويصيرُ طعم الحشيش أنقى ثمّ اشعالها والسفر في العوالم المؤرقة”.

يستمرُ في الكتابة، بقلمٍ أسود وخطّ مرتعش:

“من المفترض أن تبدأ هذهِ الحكاية من تلكَ اللحظة التي ودّعتُ فيها صديقي البرازيلي “فرناندو”. كانَ أخرَ يومٌ لهُ في لندن، وفي الغد كانَ سيسافر إلى البرازيل. بدأت على وجهه ملامح السعادة لعودته إلى قريته الصغيرة القريبة من سان باولو. دعاني فرناندو لتناول البيرة في حانة سولزبري ومن ثمّ تدخين بعض البافرات. وافقتُ على الدعوة على مضض. لم أكن قد خرجتُ لسهرة طويلة مطنطنة منذُ زمن بعيد. أخر سهرة مطنطنة كانت منذُ عامٍ مضى. خفتُ أن تؤثر نفسيتي المدمّرة على مزاج السهرة التوديعية ولن تساعدني للخروج من حالة الكآبة والزهد الذي بتّ أحياهُ مؤخرًا، لكنّني ولشيء ما في داخلي قررتُ الاحتفال: “فانتاستك” وافقتُ على دعوة فرناندو، ثمّ تنفستُ الصعداء”.
ذاتَ مساءٍ لندني، التقيتُ بهِ في حانة سولزبري. كانَ يجلسُ خارج الحانة يلفّ سيجارته، وكنتُ أحملُ في يدي مذكرته “مولسكن”، عندما رأني أحملها، ابتسم وأنحنى برأسهِ ليتمّ لفّ سيجارته. جلستُ قرابةً منه، وضعتُ المذكّرة على الطاولة بيننا، وبدون أي مقدمات قال لي:
“لو قدّر لي أن أكونَ وسط حرب حارقة قاتلة من أجل هدف الا وهو التحرّر، لما رفضتُ ذلك. عطشان للدم من أجل حرب تحرير، لأن أكونَ من هؤلاء الذينَ اندثر دمهم من أجل فكرة سمّيت “الوطن”. ما هو الوطن أصلاً سوى رسم للوحة جغرافية، وما هو الموت إلاّ عبارة عن نهاية لعالم ما يقوّدُ لعالم أخر علّهُ لا يكونُ حقيقةً، بل محض أسطورة ما تقع بينَ طابقين من واقع وخيال. ليسَ الموتُ ما يُشغلني. في الأشهرُ الأخيرة باتَ الموت فكرة أشبهَ بحيوانٍ أليف قدّر لهُ أن يكونَ صديقًا. منذُ اشتعالِ البلاد ضدّ النظام الشمولي، باتَ من الصعب استدراك المواقف، وكما كانت الحياة بمرادفها المشبوه ليسَ سوى مسألة عبث بالنسبة لي، إلاّ أنّ اشتعال البلاد باتت كأنّها استرداد لحياةٍ مؤقتة الا وهي استرداد لفكرة لطالما كفرةُ بها: أقصدُ فكرة الوطن. منذُ اندلاع الشرارة الأولى صارَ المهجر الذي كانَ “وطنًا” بمحض المصادفة، ليسَ سوى مكانٍ غريب، صارت الحياة غريبة والزمن تقلّص ليسيطر على فكرة واحدة مفادها العودة كَي أصيرَ مشروع “شهيد”. لطالما أرهقتني هذهِ الفكرة. صارت هي كلّ شيءٍ. عدم القدرة على النوم، العمل، الدراسة ولا أحدَ بالطبع من الرفاق كانَ بامكانهِ استيعاب شعوري. حياتي توقفت عندما اشتعلت فكرة الثورة.. وحينَ تحرّر الجزء الشرقي من البلاد، دارَ بي الزمن. تركتُ العمل، الدراسة الشقة المريحة وقررتُ الالتحاق بسريب موضة شهيد القضية”.
مدّ لي سيجارة كانَ قد لفّها للتوّ، أخذتُها منه ورميتُ بطرفها في فمي وأشعلتها… وضعَ يدهُ على المذكّرة أمامهُ وتحسّس جلدها الرطب، ثمّ قال:
“كلّ الأحداث التي تلت ذلك غير مهمّة، والملخّص هو أنّني لم أنظم لصفوف المقاتلين وفضلت تلك الرغبة هاجس ليسَ أكثر. باتَ شعوري مبتورًا واصلاً حدّ عدم القدرة على احساس موت الحياة داخلي. لم تبقى سوى الفكرة وحسب”.
قالَ لي وهو يتحسّس مذكرته، أنّ رفيقهُ قال لهُ يومًا:
“تخيّل، بعدَ حياتك وكتاباتك ودراستك وانفتاحكَ على الثقافات العالمية والفلكورية، وصداقاتك وعذابك ومغامراتك، وعشيقاتك وما قرأته من كتب في الأدب والتاريخ والسياسة وعلوم النفس والاجتماع وروايات الحرب وقصائد رامبو ويوليسز لـ جويس وكوميديا دانتي الإلهية وآلان غينسبرغ الذي تحفظ قصائدهُ عن ظهر قلب.. تخيّل بعدَ كل هذا، تذهبُ في أخر الأمر إلى مصراتة لتقاتل، وعلى حين غرّة تأتيكَ رصاصة غادرة تقتلك”. قلتُ لهُ: “لا يهم، في الأخر متّ من أجل قضية”، ضحكَ محدّثي وقال: “المشكلة لا تكمنُ في الرصاصة التي ستقتلك، ولكن في الشخص الذي سيرمي الرصاصة لتقتلك. سيكونُ هذا الشخص في السابق سائق تاكسي او حافلة لم يكمل تعليمه، بدين الجسد، في أواخر الثلاثينات، أصلع الرأس، غليظ الحواجب، ولا يعرف عن الحياة شيئًا، وقضى معظم أوقاته في الشرب والحشيش واغتصاب الأطفال..”، ثمّ أضاف: “ولنتخيّل أنّ اسمهُ مصباح (وهو اسمٌ مضحك عندَ الليبيين لبداوته) ومصباح هذا يمسكُ سلاح ويضرب في الهواء بشكل عشوائي، وفي لحظة ما خرجت من سلاحه رصاصة طائشة أصابت رأسك وقضت عليك… يعني حياتكَ كلّها تعب واجتهاد لتكون نهايتكَ برصاصة مصباح. هاه!”.
ثمّ أطلقَ ضحكة ارتجّت لسمعها الكأس نصف الفارغة أمامه، ثمّ سكتَ للحظة وبانت على وجههِ ملامح الجدّية، فأستطردَ قائلاً:
“هكذا صارَ للحشيش طعمٌ مختلف، سحرهُ الكامن في أعقاب الخيال. أن أرى نفسي مثلاً بالزيّ العسكري، وجهٌ نحيف، ملتحي وقبّعةٌ غيفارية والدمُ يقطّر من جسدي على الأرض.. في أحيانٍ أخرى، بعدَ عدّة بافرات، أذهبُ إلى البعيد جدًا. لرؤية صور ما لطرابلس في عصرها الذهبي قبيلَ حكم العساكر لها. أتعمّق في البحث عن صورها القديمة. شوارعها، ميادينها، جوامعها، كنائسها وباراتها. الأسماء القديمة لمناطقها ومسارحها. يُخيّل لي أنّهُ كان من الواجب (ان كانت هنالك عدالة على الأرض) أن أعيشَ تلكَ الحقبة حتى وان كان العربي مثلي فيها مواطن درجة ثانية. أمامَ الديكتاتوريات ووحشيتها باتَ الاستعمار فكرة رومانسية وباتت أمجاد الأجداد مثيرة للضحك والسخرية”.
رفعَ الكأس ودفعَ بالشراب مرةً واحدة في داخله، ثمّ وضعَ الكأس على الطاولة وأنحنى إلى حقيبته. أخرجَ منها ظرفًا بنّيَ اللون وأخرجَ منه عدّة أوراق وصور، من بينها بطاقة “بوست كارد” عليها صورة سوق المشير بطرابلس، مسحَ على الصورة بيده وزفرَ ثمّ رفعَ عيونه إليّ وقال:
“هذه المدينة ترهقني وتثيرني كامرأة عارية تحاول الحفاظ على أنانيتها وجذب الأنظار لها. تثيرُ في هذا العشريني الذي أمثّلهُ. هذهِ التائهة كما يحلو لي تسميتها، علّ رغبتي في نكاحها هو الذي جعلَ دواخلي تموت وتصيرُ تلكَ الأحاسيس جافة. يومًا ما، عندما كانَ الديكتاتور يملكُ الأرض وماعليها، تخليتُ عن فكرة العودة لها. أمنتُ في يومٍ من الأيام أنّ الديكتاتور سيموت ليأتي ابنهُ من بعدهِ ثمّ حفيده وأنّ هذه الأرض لن تصيرَ صحبتي يومًا. بعدَ اشتعال البلد اختلفَ الأمر، باتت المدينة أقرب. هل هذا شعور بالذنب؟ لطالما كانَ الحشيش وحدهُ، هذه العشبة، هي الحافلة التي تأخذني إلى تلكَ المدينة التائهة في وقت رمى أولاد القحبة أوراق عبوري لها على وجهي، في يومٍ من الأيام”.
يستمرُ صديقنا في الحكي، وهنا انعرجَ عندَ نقطة مهمّة شدّتني ماليًا. كنّا قد دخلنا إلى الحانة. طلبنا بيرتين وجلسنا عند طاولة بالقرب من النافذة.. الكلّ يعرفهُ في هذهِ الحانة. بدأ لي كما لو أنّهُ رجل عجوز اعتاد ارتياد الحانات من الصباح حتى أخر الليل رغمَ أنّهُ لم يتجاوز الثانية والعشرين من عمره بعد. الكلّ يعرفه هنا: عاملات وعمّال الحانة وزبائنها والطبّاخين. الكلّ يسلّم عليه والكلّ يعرف حكاياته. أدركتُ أنّهُ يسكرُ طويلاً هنا، ولعلّ الكلّ يعلمُ ما أصابهُ من حزن وكآبة.. شعرتُ بالشفقة عليه. التفتَ لي قائلاً بعدَ أن شربَ نصف الكأس:
“عندَ لقائي بـ فرناندو في الحفلة الوداعية التي أقيمت على شرفه، حدثت الكثير من الأمور والتفاصيل التي لا جدوى من حكيها الأن. لهذا السبب لن أسرد الحديث الطويل اللا مجدي أثناء لقائي به وأصدقاء أخرون. لن أحكي عن الأفكار التي راودتني أثناء شربنا البيرة والأشواط واحدة تلوَ الأخرى ثمّ بضعة بافرات خضراء وبراير أخرى وسامبوكا. كلّها تفاصيل لا طائل منها.. الرقمُ ليسَ مهمًا لفداحته”!
ثمّ انطلقَ يسردُ على مسامعي تلكَ الأسطورة:
“التقيتُ بهِ وأنا في طريقي من بيتِ فرناندو في كينتش تاون ويست إلى محطة هامستد الغربية مرورًا بـ كوينز بارك وكيلبرن هاي رود. كنتُ سكرانًا، متصندلاً من تأثير الحشيش. رأيتهُ يقفُ بجانب سور حديقة “كوينز بارك”، بالزيّ العسكري، وجهٌ نحيف، ملتحي وقبّعةٌ غيفارية. شعرهُ مشفشف ونحيف الجسد. وجهه مغطًا بالدم، وحينَ اقتربتُ منه اكتشفتُ أنّهُ قد أضاعَ ذراعهُ اليمنى وأنّ هنالكَ ثلاث ثغرات في جسده ينسكب منها الدم. كانَ ينظرُ لي باستهزاء.
“ارتحتَ الأن؟ أردتني أن أصيرَ هكذا، هنذا الأن دون ذراع والثقوب تملأ جسدي”.
قال يحدّثني: “وأنا تحتَ أمطار الرصاص رافعًا سلاحي محاولاً الانقضاض على فريستي والهجوم، مفكّرًا، حاولتُ أن أرفعَ رأسي لرؤية ان كانَ هناك مصباح.. ربما هناك في الجهة المقابلة عشرات أو مئات المصابيح الذينَ سيقتلوني بعدَ لحظات. الرجال بجانبي يملئون مخازن الكلاشنكوف ويفرغونها ويعيدون ملئها وافراغها. انهم ينتظرون حتى ينهي العدو الرصاص الذي بحوزته كَي يهجموا عليهم. فكّرتُ في الرجل الذي بجانبي. نحيفُ الوجه وقصير القامة، يجلسُ متربّع القدمين، يستمتعُ بتعبئة الرصاص ثمّ سحبهِ من المخزن ووضعهِ على الأرض، ثمّ يقومُ مرةً أخرى بملئه، ثمّ سحبهِ. طريقة جلوسهِ على الأرض وهو يقومُ بهذهِ اللعبة الغريبة جعلتني أفكّرُ في نفسي عندما كنتُ في طرابلس أشاهدُ الرفاق وهم يفرغون التبغ من السيجارة ثمّ يخلطونه مع أعشاب الحشيش ويعيدون ملئهُ”.
لو قدّرت لنظرية نيتشة “العودُ الابدي” أن تكونَ حقيقية، وأنّ حياتنا ستبدأ من جديد لحظة موتنا، هل سيكونُ بامكاننا تغيير قرارات مصيرية، كالجرح البليغ على جسده؟
“أنتَ تستحق ذلك” أخبرته وأنا امرّ بجانبه وأتجاوزه مكملاً طريقي، رأيتهُ لا يزال يمشي بمحاذاتي فواصلت: “كانَ يجب أن تموت، أن لا تموتَ وحسب، بل أن تضربك قاذفة أر بي جي وأن لا يعثر إلاّ على رأسكَ مثلاً”، أخبرته ذلكَ وأنا أتدعدع في مشيتي. يمشي هو بمحاذاتي ويحدثني عن اللحظة التي أصابتهُ قذيفة أر بي جي فأندثرَ جسده ولم يبقى منه سوى الرأس. التفتّ لهُ وتأملتُ رأسه الذي يحمله بينَ يداه فشعرت بسعادة. كم يجعل الموت والدم لحياتنا طعم أخر.
لم أستطع التعبير عمّا حكاه. شعرتُ للحظة ما أنّهُ قد فقدَ عقلهُ ولكن لا شيءَ حقًا يوحي بذلك. حتى أنّهُ شربَ كأسين بيرة فقط ولا أظن ذلكَ كافٍ ليسكر ويبدأ في رمي الأساطير والأكاذيب في وجهي هكذا، مستخفًا بذلك بعقلي. لكن قدّرَ لي أن أصدّقه. شعرتُ أنّ وراء هذهِ القصة حكمة ما أو ربما هو يحدثني فقط عن هواجسه في تلك اللحظة التي كانَ منسطلاً وسكرانًا فيها.
لقد كنتُ سعيدًا لرؤيتي لهُ يحملُ رأسهُ بينَ يداه، ولكنّني ساعدتهُ لاحقًا ليرتدي رأسه. مسكتهُ بينَ يداي ومن حقيبتي أخرجتُ شريطًا لاصقًا وثبّتُ رأسهُ على عنقه وأحكمتُ الصاقه، ثمّ طلبتُ منه أن لا يحرّكَ رأسهُ كثيرًا كي لا يسقطَ منه. هزّ رأسهُ موافقا فوقعَ رأسهُ على الفور على الأرض وتدحرج إلى الطريق العام. ضحكتُ لدى رؤيتي لهذا المشهد (ههههههههههههههههـــ…
ههههههههههههههه..
..ــهههههههه)، وهو أيضًا ضحكَ لذلك. كانَ صدى صوتهِ قد اخترقَ هدوء الشارع وصمته.. ولكن فجأة، دونَ أن نعلم، مرّت سيارة مسرعة فدعست على الرأس وتهشّم. لم تقف السيارة لدى دعسها عليه. انطلقتُ مسرعًا رفقة جسده الذي لم يعي ما حدث فأضطررتُ لمسكهِ من ذراعه. حاولتُ تصليحَ الوجه ولكن كانت تلكَ مسألة صعبة، ثمّ بدأت الثعالب بالقدوم نحوي، تريدُ التفاوض معي بشأن تسليم الرأس مقابل تركي وباقي الجسد وشأننا، ودون أية مقاومة تركنا الرأس وأنصرفنا، من سيهتم برأس معفوس عليه على أية حال؟ أعلمُ أنهُ رأس شهيد، ولكن ليس باليد حيلة، ولذلك مسكتُ ذراع الجسد المتبقية وأنصرفنا، بينما ازداد عدد الثعالب حولَ الرأس.. كنتُ أستمعُ لصوت أسنانهم وهي تلتهم الدماغ.
التفتَ إلى ناصية البار وطلبَ من فتاة ذات شعرٍ أحمر أن تملأ لهُ الكأس. اسمها نيكول، قالَ لي ثمّ تابع قائلاً أنّ لها صدرٌ جميل وأنّها ذاتَ يومٍ تعرّت أمامه. ابتسمتُ له وكنتُ لا أزالُ مشدوهًا بما قالهُ لي. وقفَ من على كرسيه وسألني ان كنتُ أملكُ أربعة جنيهات ليشتري كأسًا، فأخرجتُ له ورقة فئة خمسة جنيهات وأعطيته اياها، فذهبَ إلى ناصية البار وأخذَ كأسهُ ثمّ بتّ أسمعُ ضحكتهُ الصاخبة من حينٍ إلى أخر وهو يتحدّث إلى نيكول. بعد دقائق عادَ إلى الطاولة وقال أنّهُ أعطى ما تبقى من الخمسة جنيهات بقشيشًا لـ نيكول. كنتُ قد بدأتُ أشعرُ بقلق وجودي اثرَ سماعي لقصته. شعرتُ بفراغ يكبرُ في داخلي ليحدث فجوة عميقة. كانَ قد بدأ يحدّثني عن تفاصيل ما حول الجسد الذي مشى معهُ الطريق كله. قال:
لم أحتمل فكرة أخذ هذا الجسد معي إلى البيت والاعتناء به، خاصةً أنّهُ كانَ لا يزالُ ينزف بشدّة، ولهذا السبب قررتُ التخلّص منه. كنتُ قد مسكتُ بذراعهِ ومشيتُ مطوّلاً حتى وصلتُ إلى محطة ويست هامستد، إلاّ أنّ المحطة كانت مغلقة وكانَ عليّ الانتظار حتى الصباح. لم يكن هناكَ الكثير من الوقت للإنتظار، فالساعة كانت قرابة الرابعة والنصف، وفي الخامسة والربع ستفتحُ المحطّة أبوابها، ولذلك قررتُ التخلّص من الجسد بسرعة. كانَ الأمرُ بسيطًا جدًا: بالقرب من المحطة كانَ هناكَ محلّ بيع شاورما، دخلتُ المحل وسلمتُ على صاحبه، قلتُ له أنّ الغدَ سيكون سبت وفي مساء السبت سيكونُ معظم زبائن المحلّ من السكارى الذينَ لا يفقهون في استلذاذ اللحم بقدر رغبتهم في الأكل وحسب، حرّكَ الرجل رأسهُ ايجابًا، فواصلتُ الحديث قائلاً أنّني أملكُ هذا الجسد الذي برفقتي وقد فقدَ رأسهُ وليسَ هناك أي داعٍ للاحتفاظ به ولهذا فإنّني أودّ أن أهديهِ اياه، وبالقليل من التقطيع سيكونُ جاهزًا لوضعهِ في ماكنة الشاورما ولن يجدَ الزبائن السكارى فرقًا بين طعم لحم الحيوان ولحم الانسان… ضحكَ الرجل ومدّ يدهُ مصافحًا يدي ويد الجسد الفاقد لرأسهِ، ودعتهما وأنصرفت.
خرجتُ من حانة سولزبري وفي نيّتي أن أتقيأ ما شربته وما أكلتهُ اليوم كلّه. وعندما وقفتُ في طريق فيكتوريا المؤدي لـ كيلبرن هاي رود ومنهُ إلى ويست هامستد، قررتُ الذهاب إلى محلّ الشاورما. لم تكن الطريق طويلة، فبعدَ اربعة عشر دقيقة وجدتُ نفسي أقفُ في المحل.. طلبتُ سندويتش شاورما، التهمتهُ نصفهُ وأنا أدخل المحطة، وأستلذيتُ بنصفه الأخر وأنا جالسٌ في القطار في طريقي إلى ستراتفورد حيثُ أسكن. كان طعم الشاورما عادي جدًا.. لحم حيوان.. رفعتُ رأسي فكانَ محدّثني يجلسُ قبالتي.. قلتُ لك.. قالَ لي… لا فرق بين طعم لحم الانسان ولحم الحيوان.. ثمّ انطلقت منهُ ذاتُ الضحكة العالية، وخلعَ رأسهُ هو الأخر.. وضعهُ جانبًا على الكرسي، ثمّ مضى شاردًا. رأسهُ أمامي وقد أغروقت عيناهُ بالدموع ضاحكًا.

مقالات ذات علاقة

بقعة..!

المشرف العام

زهرة الرِيْنش

أحمد يوسف عقيلة

التاسعة مساءا

محمد المغبوب

اترك تعليق