الكاتب الصادق النيهوم (تصوير: فتحي العريبي).
المقالة

العوده الى بنغازى

فى سبتمبر 1968 كتب الصادق النيهوم مقالته العودة الى البحر ونشرها فى صحيفة الحقيقة فى بنغازى. صدرها بقوله: (النعش مجرد وسيلة اخرى من وسائل المواصلات. لكنه اكثرها راحة واقلها تاْثرا بحوادث المرور). كان هاجسه الموت. ثم قال فيها.. (فاْين الطريق الى افريقيا؟ اْين سوق الظلام وتجار القماش والاكفان وعربات الكارو والنخل واكواخ الليبيين اللاجئين.. فها نحن قد وصلنا يامدينة الملح وخنقنا التراب بين جدران الصفيح المهترئه وتساقط الاطفال الموتى بين اقدامنا وضعنا هدرا فى اْفواه العجائز المحطمات القلوب.. فافتحى لنا ذراعيك المالحتين) بعد اْن اشار الى اْن (الموت يمشى فى عرق العالم مثل بغل برى. الموت اْخونا فى الرضاع).

الكاتب الصادق النيهوم تصوير: فتحي العريبي
الكاتب الصادق النيهوم
تصوير: فتحي العريبي

بعد ستة وعشرين عاما من هذا المقال فتح القبر رقم 144 فى الهوارى جنوب المدينة صدره للنيهوم القادم عبر البحر واحتواه. كانت بنغازى هواه.. ومحطته الاْولى والاْخيرة : مشاغباته. مداعباته.اْصدقاؤه. ذكرياته. بداية توقد  موهبته الكبيرة مثل النار. لم يكن النيهوم فى جيله عاديا. لم يكن صدى فى قعر بئر لاْخرين. كان صوتا مؤثرا وبعض الاخرين كان مجرد صدى واضحا له. وفى غربته التى طالت عن بنغازى. عن الوطن كان ثمة محطات اْخرى لكنها كانت تتوقف على الدوام فى المحطة الاْولى.. سباخ بنغازى. البداية والنهاية. من الملح الى الملح. كل خطوة هناك تجره خطوتين الى هنا.. الى بنغازى.
حين ولد عام 1937 توفيت والدته مبروكه الصنهاجى ولم يفتح عينيه عليها.فقدها منذ ولادته. وهنا تولاه بالرعاية خاله محمد ادم الصنهاجى الساكن فى ضاحية سيدى حسين الى عام 1945. كان قد بلغ الثامنة من العمر. عاد الى والده رجب عبدالرحمن النيهوم البحار الذى طاف اْرجاء العالم وعرف موانيه ثم كان ضمن الشباب الليبى مع مجموعة من اْبناء مدينته الذين التحقوا بالجيش السنوسى الذى تكون فى الكيلو تسعه غربى القاهرة عام 1940. كان رقمه فى الجيش (8932) والناشط خلال فترة الحراك السياسى فى الاربعينيات فى رابطة الشباب ببنغازى والنقابى المكافح بعد الاستقلال من اْجل قضايا العمال بلا توقف.  وكان سوق الحشيش عالم النيهوم الجديد بعد تلك الضاحية.

عاش النيهوم ظروف مجتمعه المكتظ بالعادات والتقاليد المختلفة. مدينة تعانى الجوع والحاجه واْيام مابعد الحرب العالمية الثانية الفاصلة فى تاريخ العالم والمنطقة والوطن. ومشاهد الخرائب والمبانى المهدمة فيما كانت كسرة الخبز حلما لايضاهى والحصول عليه اخر النهار يتم بصعوبة بالغة. وفى تلك الظروف مع اْفراد جيله الذين انتظمهم نفس العقد الاجتماعى والمستوى المتقارب تعلم وثقف نفسه وكانت حصيلته من هذا الواقع وهذه الظروف المحزنة تجربة مهمة من المعرفه والموهبه. والاْسفار..والحزن اْيضا على واقع بعيد يقبع خلف البحار ويرزح تحت التخلف.

كانت بنغازى – مدينة الملح – فى قلبه. وملحها على شفتيه يتذوقه بلا توقف. الملح والمرارة. ورنغم مناكفته لها.. وسخريته مما يدور فيها الا اْنها ظلت لديه ذات قيمة غاليه. كانت هى الوطن. وفى وجهها الاخر كانت هى ليبيا الاْم التى تجمع الجميع بلا فرق. السباخ والواحات والاْرياف والشواطىْ والحقول والاْطفال والتلال والعجائز والتاريخ والهوية والتراث. ومنها.. من هذه الخصائص شملت بعده الانسانى كاتبا ومثقفا يتعاطف مع قضايا البشر فى افريقيا واسيا واوروبا نفسها. فى فلسطين وفيتنام وكوبا والصين وبغداد ومراكش وعدن. المواطن هناك مثل المواطن هنا فى بنغازى.. فى ليبيا. ولم يكن فى ذلك منتميا سوى للاْنسان اْينما كان. الانسان هو الجوهرة. لم ينتم النيهوم الى تنظيم فكري اْو جهوى اْو دعوة سياسية اْو حزب يفصل مقاسه على الاخرين. الاْنسان اْكبر واْوسع. الانسان الذى كرمه الخالق وجعله خليفة له فى اْرضه الواسعة. الانسان الذى ينهض كل يوم ليؤسس منارات الخير والرشاد.

قال النيهوم ذات مرة: اْنا يربطنى بوطنى قلبى وساعى البريد. ذلك كان سلاحه فى الغربه. وقد كتب بشوق اْيضا فى احدى رسائله فى يناير 1967 الى صديقه زايد العمارى: (اْنا بخير. وليس لدى ما اْشكو منه على الاطلاق. ولكنى اْتمنى اْن تتاح لى الفرصة لكى اْرتبط باْصدقائى فى ليبيا اْكثر. فكل رسالة منكم تساعدنى على تركيز اْشواقى فى لحظة متزنة من الذكريات. وهذا اْحسن دواء للغربة ولحالة الشوق المرهقة). الوطن البعيد وساعى البريد والذكريات والغربة والشوق خطوط فى حياة النيهوم. بنغازى باْزقتها.. بمقاهيها واْيام الدراسه والاصدقاء وبحر جليانه وقاريونس وسوق الحشيش وكل اْبعاد المدينة الصغيرة قبل اْن تتلوث بالمال والعلاقات الجديدة والمفاهيم. كانت شيئا اخر للنيهوم. قطعة منه. قضية يومية فى الغربة. كانت تجسد له وطنا كاملا لديه. لامفر.

فاجاْ النيهوم الكثيرين بموهبته. ومضى بقوه. وصدم المجتمع الساكن بافكاره ونقاشاته وكتاباته وقلده الكثيرون واْضحى يمثل لهم عادة يوميه فى القراءه من خلال الحقيقه. وفى جانب اخر اشتعلت الغيره والحسد والحرب. لكنه ظل صامدا ومشى يعبر الدروب بشجاعه. وعندما صدع باْرائه الجريئه فى الستينيات الماضية. ثم اعاد النظر فى جملة من تلك الاراء والمواقف الفكرية الصادمة.. لم تكفره دولة المملكة الليبية ولم تسحب جواز سفره ولم تمنعه من الدخول الى ليبيا ولم تفصله من عمله وكان معيدا فى الجامعة ولم تمنعه من الكتابة ولم تحجر عليه اْو تقيد حريته اْو تضيق على عائلته فى بنغازى اْو تلاحق اْيا من اْصدقائه اْو قرائه اْو تغلق صحيفة الحقيقة. ومن ناقشه على صفحات الصحف كان ذلك يتم بطريقة شخصيه واجتهاد فكرى ودينى ضمن براح الحرية والراْى. حتى الجامعه الاسلاميه انذاك لم تلوح له بالتكفير او الوعد بجهنم اْو ترميه بالزندقه والالحاد. وكذا دار الافتاء اْو النائب العام كان ثمة هامش رائع فى النقاش واحترام الاراء. واذا.يهكان بعض الشيوخ فعل ذلك فهو تم انطلاقا من موقف شخصى بحت. لم يكن باْسم الدولة اْو مؤسساتها الرسمية المتعددة. وكان يمكن للنيهوم اْن يمضى بمحاولاته وبمشروعه اْو فكرته ويطرح الكثير رغم الاْخطاء والالتباسات ويتجاوزه الى خطوات افضل لكنه واجه سوء الفهم والنوايا والخلط والاتهامات المشوشة خاصة فى الجانب المتصل بالسياسة. فى تلك السنوات سبق النيهوم الكثير من الكتاب العرب الذين قالوا وكتبوا ماسبقهم اليه.
وكانت بنغازى شاهدة على ذلك. وكان الصادق يحاول الاصلاح والتنوير والتغيير الى الافضل بواسطة الوعى والمعرفه وشرف الحوار. وكانس يرى فى الاسلام دين التقوى والمساواة والعدالة. وان المسلمين انحدروا الى مهاوى التاْخر ولم يلتزموا فى الغالب بسماحة الاسلام اْو ياْخذوا باْسبابه العظيمة التى تقود الى الحرية.. حرية الانسان والفكر والعقل والانطلاق   وركنوا الى الاستبداد السياسى والدينى والاجتماعى فاْضروا بالاسلام ضررا بالغا. لقد استشرف النيهوم  منذ الستينات مايحدث اليوم فى وقت مبكر وحذر منه. كان يعتبر  اْن اْساس الاسلام العدالة والتقوى والحرية للبشر ولافرق بينهم الا بالعمل الصالح. اْن  تكرار الدعوة بالعودة الى الاسلام شيْ طبيعى ولايختلف عليه اثنان لكن الاسلام لم يتاْخر حتى يتقدم المسلمون عنه. اْن الاسلام فى موقع التقدم ولم يصلوا اليه. والواضح كما نرى اْن بعض الحركات الاسلامية المعاصرة لم تستفد تجاربها ولم تفسح المجال رحبا اْمام الكفاءات والخبرات الجيدة التى تعج بها فى الاقتصاد والعلم والفهم والثقافة والفكر والتسامح والتقنية.. وغيرها فيما فتحت الابواب واسعة امام القاصرين وذوى العقول المتحجرة فى الغالب فوقعت الكارثة وصار المزيد من التخلف والتعصب وتاْخرت كثيرا عن الاسلام كما اْراده الله.

المسلمون الان فى حرب اسلامية – اسلامية. مذاهب وفرق. جماعات تتقاتل. دماء تسيل باسم الاسلام طوال اليوم.  الصورة عن الاسلام مشوهه فى العالم. لم يعد المسلمون مثلما كانوا. بنغازى لم تعد مثل اْيام الصادق وجيله. لم تعد المقاهى والجامعه والحكايات واحترام الاراء والكتابه وشرف النقاش. لم تعد وكذا مدن العروبة والاسلام. ان الحزن يغلفها.. يدب فوق جدرانها مثل النمل. اسطورة الحزن بنغازى. مثل حلب. مثل صنعاء. مثل الموصل وماحولها. مثل  اْى شى. لا فرق. ولامفر. التخلف والتعصب والتربص يضرب المنطقة وينتهى بها الى الموت. الاسلام اْكبر واقوى. لكن المسلمين صغروا وتاْخروا وتخلفوا عنه منهجا ينظم حياتهم ويهدى بالتى هى احسن. اللغة والفكر اْساس الاسلام. الكلمة.. اقراْ. الحرية والعدالة.

وكان النيهوم هاجسه الموت. يرتعب منه فى حكاياته وكتاباته وكل شىْ.. رغم السخريه ونكاته اللاذعه ومواقفه الجريئه. كان الصادق شجاعا من البداية الى النهاية. من الملح الى الملح مواطنا مثقفا ورائعا وفنانا رغم انف الشامتين والحاقدين والناكرين لدوره الثقافى والفكرى وهم من اْبناء وطنه واتهاماتهم له بالمجان. هل كانوا وهم الاقزام اْبدا على مقدرة لمواجهته بالكلمة والفكر بمثل مايقولون لو كان حيا؟ لا اْظن!! هل يستطيعون نكران هذا الدور واْنه سيظل مؤثرا فى الحياة الفكرية والثقافية الليبية.. ثم العربية؟ لا اْظن اْيضا!!

اْن تاْثيره سيقوى وهو ميت اْكثر منه حيا. خاصة لدى الاجيال الجديدة التى بداْت فى قراءته عن وعى والاختلاف معه عن فهم. الاجيال التى تسخر من طواطم الثقافة وصنائعها. اْجيال النيهوم القادمة فى ليبيا ودنيا العرب. لقد كان النيهوم باْيجابياته واخطائه والتباساته موهوبا رغما عن الاقزام ولا يستطعون النيل منه. فالجودة تطرد الرداءه ولو بعد حين والموهبة الصادقة ترمى بالفاشلين.

فى 15 نوفمبر 1994 رحل الصادق النيهوم فى غربته التى طالت. كانت الاجواء الى وطنه مغلقه. عاد فى نعش عبر البحر من مالطا الى طرابلس. العودة الى البحر.. ومنه الى بنغازى.. الى مقبرة الهوارى.. الى القبر 144 جنوب المقبره. كان المطر يتساقط. طارت بضعة طيور وصفقت باْجنحتها  ثم لامست بريشها بعض القبور. والسماء  تمتلىْ بالغيوم. رحمة الله تعم كل شىْ. النيهوم اْسطورة بنغازى وبنغازى اْسطورة الحزن القديم!!

_______________________

 نشر بموقع ليبيا المستقبل

مقالات ذات علاقة

تشريح الكمبرادور.. تكريس الظربان!

حسام الوحيشي

عثرات المطيع

محمد دربي

الرسم الساخر .. الفن المغبون

إبراهيم الصادق شيتة

اترك تعليق