ويستطردُ الشَّاعِرُ وَاصِفًا صِفَاتِ ولدِ الأجوادِ، مُعِيبًا سبيلَ الطَّمَعِ وَالطُّرُقَ المؤدِيَةَ إليهِ .. حَاثًّا بِنُصْحِهِ الإِنْسَانَ على التَّمَسُّكِ بالقناعَةِ، والرِّضَا بِالْقِسْمَةِ وَالنَّصِيبِ، وإِنْ جَارَ عليهِ الزَّمَنُ فَافْتَقَرَ وَاعْتَوَزَ فَعَلَيْهِ بِالصَّبْرِ الجَمِيلِ، لكَأَنِّي بِهِ يستلهمُ قولَ سيدِنَا يعقوبَ عليهِ السَّلامُ لأَبْنَائِهِ “… فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ” ( يوسف: 18 ) أو قولَهُ تعالى: ” فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلاً ” ( المعارج: 5 ).
إِذْ يقولُ:
نَصيب كِلّْ حَيِّ مسجلَّه بْملفَّهْ * توكَّل على مولاك خير وكيل
طريق الطَّمَع يا صَاحبي مَحْرَفَّهْ * إن جاك الزَّمَان الصَّبَرْ راه جميل
ثم يُفَسِّرُ الشَّاعِرُ مُرَادِفَ كَلمَةِ (أجوادي)، الْمُنْسُوبُ إلى الأَجْوَادِ نَسَبًا وَأَفْعَالاً، فهوَ الإِنْسَانُ الشَّهْمُ الصَّادِقُ في أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، يُرْخِصُ رُوحَهُ ذَودًا عَنِ الشَّرَفِ، حِينَ يُفَرِّطُ النَّذْلُ الوَضِيعُ في شَرَفِهِ وَكَرَامَتِهِ نَظيرِ قَلِيلٍ من مَتَاعٍ زَائِلٍ بِاتِّبَاعِهِ طَرِيقَ الطَّمْعِ الْمُهْلِكَةِ الْمُضِلِّةِ:
كلمةْ أجوادي راه مُرَادِفَّهْ * إنسان شهم صادق قول وامفاعيلْ
وهو شَدِيدُ عزمٍ، ذو قدرةٍ عجيبَةٍ على الصَّبْرِ في وجْهِ أعدائِهِ في حَالِ اعتدائِهِم وتغلُّبِهِم عليهِ، لا يضعفُ في المواقفِ الحَاسِمَةِ ولا يَلِينُ، أمَّا إذا كانتِ الْغَلَبَةُ لهُ فلا يَحْقُدُ ولا يتشفَّى بِخَصْمِهِ المغلوبِ، وبقلبِهِ الكبيرِ يرحمُ عَزيزَ القَوْمِ إن وقعَ بينَ يديهِ ذَلِيلاً، مُستهديًا في هذا الْخُلُقِ الإنسَانيِّ العَظِيمِ بِحَدِيثِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ: ” ارحموا عزيزَ قومٍ ذلَّ “:
شديد عزم لا يضعف ولا يتهفَّى * ويصمد أمام الدَّايلين إن ديل
وإن كان دال لا يحقد ولا يشفَّى * ويرحم إن جاه عزيز قوم ذليل
ثم يُوضحُ الشَّاعِرُ مُعَادَلَةً حياتيَّةً فَحْوَاهَا أَنَّ الأَيَّامَ دُولٌ يُدَاوِلُهَا اللهُ بَيْنَ النَّاسِ:
ليَّام كَفَّتين إن كان زادت كَفَّه * على وزن كفه عندهن تمييل
وإن كان استون في ثقل وإلاَّ خِفَّه * تقادن وصار لوضعهن تعديل
ثُمَّ يُبَيِّنُ أَنَّ الدُّنْيَا دارُ غُرُورٍ، فَيَحُثُّ الإِنْسَانَ العَاقِلَ عَلَى عَدَمِ الرُّكُونِ إِلَيْهَا، وَالافْتِتَانِ بها، والتَّعُلُّقِ بِمَلَذَّاتِهَا الزَّائِفَةِ الزَّائِلَةِ، فَهَنَاؤُهَا مَتْبُوعٌ بِالشَّقَاءِ، وَفَرَحُهَا زَائِلٌ بِالْهَمِّ وَالنَّكْدِ، فَالْعَاقِلُ لا يَحْزَنُ إذا أَعْرَضَتِ الدُّنْيَا عَنْهُ، وَقَسَتِ الأَيَّامُ عَلَيْهِ، وَلا إِنْ ضَحَكَتْ لَهُ سُرَّ، مَخْدُوعًا، بِهَا، وَسَعُدَ، مَوْهُومًا، بِجَمَالِهَا الخَادِعِ المرَاوِغِ:
الدُّنْيَا غروره ما يدوم تَرَفَّهْ * لا ترتبط بالفانية بالحيل
أحيانًا هناها بالشَّقَا اتكفَّى * وأوقات النَّكَد بالفرح فيه تزيل
لا إن جَتْ عليك تحزن وتقارفَّهْ * ولا مْعَاك ضحكتَّا عليك تخيل
وهذي نصيحة في علل مُقفَّى * خذتني بعيد وما نريد نطيل
وَبَعْدَ أَنْ سَاقَ نَصَائِحَ حِكميَّةً قَيِّمَةً في حِدِيثِهِ الشِّعْرِيِّ المقفَّى، يَعُودُ لِسَرْدِ فَضَائِلِ أَبْنَاءِ الأَجْوَادِ مُفَصَّلَةً مُوَضَّحَةً، بَعْدَ أَنْ فَرَغَ مِنْ إِيضَاحِ صِفَاتِ وَلْدِ الأَجْوَادِ العَظِيمَةِ:
نعاود علي مضمونها وْهَدَفَّهْ * فضايل ضنا لجواد بالتَّفصيل
لجواد عرقهم حَتَّى إِنْ صارت جَفَّهْ * يطول في الثَّرى يصمد زمان طويل
خير من بعض مِ التَّمَر طِيبْ حَشَفَّهْ * لجواد انخلتِّم غالبه النَّخيل
والأجوادُ يبقى أَثَرُهُم حَيًّا، ويظلُّ ذِكْرُهُم عَطِرًا، فأولادُهُم الَّذِينَ نَشَؤُوا على الفَضَائلِ، وَتَرَبَّوا على العَادَاتِ الحسنَةِ يُحْيُونَ بزينِهِم مَآثرَهُم الخَالِدَةَ، ويُبْقُونَ صِيتَهُمُ الْعَطِرَ الطَّيِّبَ. وَالشَّاعِرُ لشدَّةِ تأثُّرِهِ بكرمِ ونخوةِ الأَجْوَادِ، يرى أَنَّهم يَتَفَوَّقُونَ على غيرِهم حَتَّى بِحَشَفِ تمرِهِم على جيِّدِ تَمْرِ الآخَرِينَ؛ فَإِنَّ نَخْلَتَهُمْ تَتَفَوَّقُ عَلَى سَائرِ النَّخِيلِ، وفي هذا مَعْنًى مَجَازِيٌّ، وَتَلْمِيحٌ ذَكِيٌّ؛ فَتَمْرُهُمْ – وَإِنْ كَاَن حَشَفًا – يَسْتَفِيدُ مِنْهُ القَاصِي وَالدَّانِي، أَمَّا تَمْرُ الأَنْذَالِ فَيَفْسُدُ دُونَ أَنْ يَنَالَهُ أَحَدٌ.
ثمَّ يضيفُ فَضَائِلَ أُخْرَى لِلأَجْوَادِ؛ فَبُيُوتُهُم نُزُلٌ مَفْتُوحَةٌ أَبَدًا لِلْغُرَبَاءِ الَّذِينَ تُلْقِي بِهِمْ عَصَا التِّرْحَالِ عَنْدَهِم، وَتَرْمِي بِهُمُ السُّبُلُ فِي مَضَاربِهِم، كَمَا أَنَّ آبَارَهُمْ عَلَى الدُّوَامِ مُهَيَّأَةٌ لِعَابِرِي السَّبِيلِ دَوْنَ مُقَابِلٍ:
لجواد لِلْغَريب اللِّي أصداره دَفَّهْ * من غير دفع مال بيوتم هوتيل
وأبيارهم منافز مِ العَطَش في النَّفَّهْ * لعابر السَّبيل مْشرَّعات سبيل
وقد تَتَغيَّرُ الحَالُ؛ فَيَخْلُفُ الأَجْوَادَ خَلْفٌ غَيْرُ صَالحٍ، فَيَقِلُّ كَرَمُهُم وَشَهَامَتُهُمْ عَنِ السَّلَفِ الْكَرِيمِ الْمُبَارِكِ، فَيَجِدُ لَهُمْ مُبَرِّرًا بَأَنَّ طَبِيعَةَ الْحَيَاةِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى التَّغَيُّرِ تَقْتَضِي ذَلِكَ أَحْيَانًا، فَتَتَغَيَّرُ الأَخْلاقُ وَالسُّلُوكِيَّاتُ، وَتَتَبَدَّلُ النُّفُوسُ والضَّمَائِرُ، وتَخْتَلِفُ الْمُعَامَلاتُ من جِيلٍ إِلَى جِيلٍ:
وبين لصل والخِلْفَة اللِّي خَلَّفَّهْ * الأَحْوَال تَّغيَّر بين جيل وجيل
وَأَحْيَانًا يَفُوقُ الخَلَفُ السَّلَفَ في طَبِائِعِهِ الحَمِيدَةِ، وَسَجَايَاهُ الزَّكِيَّةِ:
وأحيانًا بْزين تفوت زين سَلفَّهْ * تردع لطبعه لوَّلي وتميل
وَقد يَخْرُجُ الْخَلْفُ عَنْ مَنْهَجِ السَّلَفِ، فيتغيَّرُ بعضُ ما تعارفَ عليهِ النَاسُ؛ كما الأَرْضُ تُغِيِّرُ نَبْتَهَا:
ومرَّات تحصل للعقابي شَفَّهْ * حتَّى لرض صار لنبتَّا تبديل
لَكِنَّ الشَّاعِرَ، بِحَسَبِ خِبْرَتِهِ وَمَعْرِفَتِهِ فِي الحَيَاةِ، يُؤَكَّدُ أَنَّ لِكُلٍّ مِنِ الرَّأسِ (الأجوادي) والذيلِ ( النذيل ) مَكَانَةً مَعْلُومَةً، وَمَقَامًا مَعْرُوفًا:
ولكن بها بلكل اللِّي نِعْرِفَّه * الرَّاس راس ما يخلف مكانه ذيل
وَالأَثَرُ الطَّيِّبُ الصَّالِحُ يُبْقِي أَثَرًا طَيِّبًا صَالِحًا بَعْدَهُ:
السَّيل جَرَّته في لرض ما تَّخَفَّى * وخلفةْ خْيار النَّاس جرَّة سيل
وَبَوَاكِيرُ الرَّبِيعِ تَلُوحُ لِلنَّاظِرِ مِنْ بَعِيدٍ بِظُهُورِ أَزَاهِيرِهِ، وَتَفَتُّحِ أَوْرَادِهِ، كَمَا يُقَالُ في المثلِ العامِّيِّ: (الرَّبيع من فم البيت يْبَانْ):
وَمَارَةْ الرَّبيع اللِّي جلس في الرَّفَّهْ * مْعَ فمِ البيت يْشاهد الزغليل
لَكِنَّ تَغَيُّراتِ الزَّمَانِ وَتَقَلُّبَاتِهِ لا تُؤَثُّرانِ فِي الزَّيْنِ، وَلا فِي الرَّدِئِ، فَكُلٌّ مِنْهُمَا مَاضٍ على مَنْهَجِهِ، مُحَافِظٌ عَلَى مَا جُبِلَ عَلَيْهِ مِنْ خُلُقٍ وِسُلُوكٍ وَطَبَائِعَ:
ومهما الزَّمان تصيرله من لَفَّهْ * الزَّين زين ديما والنَّذيل نذيل
وَيَضْرَبُ الشَّاعِرُ مَثلاً وَاقِعِيًّا يَدْعَمُ بِهِ صِدْقَ دَعْوَاهُ؛ فَالْجَمَلُ مَهْمَا ضَعُفَ وَأَصَابَهُ الهزَالُ حَتَّى يَجْعلُهُ يَسْقُطُ مَيْتًا، فَلا يُمْكِنُ لِعِظَامِهِ الْكَبِيرَةِ أَنْ تَمْلأَ القُفَّةَ، وَالشَّاةُ مَهْمَا أُوتِيَتْ مِنْ قُوَّةٍ فَلَنْ تَتَمَكَّنَ مِنْ حَمْلِ مَا يَحْمِلُهُ الْجَمَلُ، وَمَقْصَدُ الشَّاعِرِ تِبْيَانُ أَنَّ الأَجْوادَ مَهْمَا قَسَتْ عَلَيْهِمُ الأَيَّامُ، وَتَبَدَّلَتْ أَحْوَالُهُم، وَتَغَيَّرَت ظُرُوفُهُم سَيَظَلُّونَ فِي مَقَامِهِمُ الْعَالِي، وَمَكَانِهِمُ الْمَرْمُوقِ، مَثْلَمَا هِيَ الحَالُ عِنْدَ الأَنْذَالِ الَّذِينَ لَنْ يُغَيِّرُوا طَبَائِعَهُمُ الدَّنِيئَةَ، وَأَخْلاقَهُمُ الْوَضِيعَةَ بِمُرُورِ الأَيَّامِ، وَتَبَدُّلِ الْحُقُبِ وَالأَزْمَانِ:
وَحَتَّى لو اضعف لشقر مدورم خِفَّهْ * وطاح مِ الجفا فوق الوطاه هزيل
هَشِيمَةْ أعظامه ما تجي في الْقَفَّهْ * والشَّاهْ لو تَقَوَّتْ ما الحمل تشيل
في المختتمِ،،،
من خلالِ سبَاحتِنَا في رحابِ القصيدَةِ الباهرَةِ نلحظُ الملحوظَاتِ التَّالِيَةَ:
لقد تجلَّت في القصيدةِ براعَةُ الشَّاعِرِ في التَّصْويرِ الدَّقيقِ، وَجزالَةِ الأَلْفَاظِ، وَقُدْرَتِهِ على توظيفِ الأَمْثَالِ الشَّعْبِيَّةِ المتدَاوَلَةِ دونَ تكلُّفٍ بِأُسْلُوبٍ رَاقٍ رَائِقٍ شَائِقٍ، كما ظَهَرَتْ بَرَاعَتُهُ في سَلْسَلَةِ المآثِرِ، وَالرَّبْطِ الْعَفْوِيِّ بينَ الأَبْيَاتِ، وَاعتمَادِ الأَسْلُوبِ الدَّائِرِيِّ المحكمِ مما جَعَلَ القصيدَةَ تَدُورُ في دَائرَةٍ وَاحِدَةٍ مُحْكَمَةِ النَّسِيجِ، بَاهِرَةِ الأَضْوَاءِ.
والقصيدَةُ جَامِعَةٌ مَانِعَةٌ؛ إذْ أنَّ الشَّاعِرَ لم يتركْ مَأثرةً ولا محمَدَةً ولا صِفَةً وَلا خُلَّةً للأجوادِ إِلاَّ وَأَوْرَدَهَا ذِكْرًا في تصريحٍ مَشُوقٍ، أو إِشَارَةً في تلميحٍ ذَكِيٍّ؛ مما أَسْبَغَ على القصيدَةِ رِدَاءَ الإِحَاطَةِ وَالنُّضْجِ وَالاكْتِمَالِ، وَجَعَلَهَا أُنْمُوذَجًا رَائِعًا لِلْقَصِيدَةِ الشَّامِلَةِ الْوَافِيَةِ، قَصِيدَةً مُثْلَى صَالِحَةً لأَنْ تُدَرَّسَ لِنَاشِئَةِ الشُّعَرَاءِ الشَّعْبِيِّينَ، وَوَثِيقَةً أَمِينَةً لِمُحِبِّي الأَجْوَادِ، وَالْمُعْجَبِينَ بِذِكْرِهِمْ وَسِيَرِهِمْ، يَتَلَذَّذُ بِهَا أَهْلُ العُقُولِ، وَطُلَّابُ الْحِكْمَةِ، والبَاحِثُونَ عَنِ الْمَوْعِظَةِ.