جلست “هوكاً” تحاور صديقة لها من جبال الثلج في كنف هادئ بعيد عن الخطاب والأنظار وفيه شئ من الضوء … مباشرة ، طفقت “هوكا” تقول لصديقتها :
إن المشكلة لدينا تنحصر في أننا نكره البداية ونكره الآخر المختلف عنا فكرياً ونحب بعض الحقيقة ولا نحبها دفعة واحدة .. وتبغ الفوضى يفتت رئتنا .. هكذا بإيجاز نعيش – فدعيني يا صديقتي من جبال الثلج أفصل لك هذه الطلاسم بكلام بسيط ..
عندما يفحم رجل الدين عندنا فرداً ملحداً أو صاحب ديانة مغايرة أو أي شئ مغاير تقوم الدنيا ولا تقعد .. ويقال أن ديننا دين عقل ومنطق وعندما يفحم الآخر رجل الدين عندنا .. عندها وعندها فقط تباغتنا أشياء وصموها لنا باسم الشهبات وحيل الشيطان وقائمة تطول .. فهنا لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يعترف رجل الدين بقصوره المعرفي أو قصور اعتقاده أحياناً إزاء حجج العقل وبياناته .. فدعيني يا صديقة أعترف لك – وهذا سر بيننا وعهد أن لا تخبريه لأحد – إن هذه التي يسمونها بالشهبات هي نتاج عقل لنستكين أمامه ولا نستطيع أن نتعاطى معه حوار المعرفة .
فدعيني يا صديقة تقطن الثلج أوصيك ثانية ، إن ما قلته لك يموت بيننا خطابه .. فالحقائق يموت أصحابها في الأقوام البدائية ، فمنذ البداية قلت لك إننا نكره البداية علناً ونكره الآخر المختلف عنا فكرياً ونحب بعض الحقيقة ولا نحبها دفعة واحدة .. وأنا على ثقة من أنك ستحفظين السر لأن الثلج علمك معنى البياض .
تعجبت صديقتها التي سمعتها حتى النهاية ، فهي تكره أن تقاطع أحداً قبل أن ينهي حواره – هكذا علمها سيد الثلج .. ثم سئلت “هوكا” والحيرة والارتياب يمزقانها إرباً من وجع ما سمعت ” أيعقل هذا !؟ ..
نعم يعقل .. أجابت “هوكا” ! .. ثم تابعت بقولها .. ليس هذا فقط .. بل عليك أن تجلسي وتحكي رأسك بأظافرك حتى يتصبب دماً من حرثك إياه بأظافرك المتسخة ليتورم ويقطع من المرض ، قبل أن تفكري في شئ اسمه الخاص ، فليس ثمة شئ اسمه خاص لدينا .. فنحن نعيش سوية ونأكل سوية ونأتي مرحاضاً واحداً ونحك رؤوسنا جميعاً حتى تقطع من الورم قبل نفكر في صنع حوار فيما بيننا .. إن المشكلة لدينا كما أسلفت – إننا نكره البداية علناً ونكرهها خفية ونكره المختلف فكراً ونكره الحقيقة دفعة واحدة .
فماذا سأقول لك ؟
يا صديقة تقطن الثلج
إن رؤوسنا متورمة
من فرط الحك
وإننا نزرع أزقة
رسمها جدنا العفن
ونغتال من يرشق
العفن بسؤال
إننا يا صديقتي
يصفعنا كف الريح
وتتلقفنا أمواج التيه
حتى صرنا نصدح
بضوء الليل
رجل الدين صفع العيد
بالوعظ والنذير
والقوم في التيه
صغوا عيداً
والأمير للسماء
يبني داراً
وغرفاً للشبق تمتد
وكل يرقص في أحناء الزيف
التاريخ يتصبب عرقاً
أخزاه ما نفعل !
الشاب جد
دون لحية ولا جلباب
يرتدي بنطالاً
لكنه جد
أحمق كالعادة
عيناه شرر
تقدح بالجهل
الوقت خريف
والقوم براعم في أرض النيف
الوقت خريف
والكلام معبأ بجماجم أغراها
الموت في أرض الريف
الوقت خريف
والمرأة فنجان العيد
يا صديقة تقطن الثلج
أرهقنا سدنة أفاقون
بالإرث صداحون
في قولهم بيع وشراء
وكفر مكنون
يا صديقة تقطن الثلج
إننا رؤوس متورمة
من فرط الحك
أو روث كائن
أعياه الدنف
إلهي ..
زباه قد بلغ السيل
يكفي تحاوراً
في جنح النفس
صديقتي ..
سيف نحن علينا
لا يعرف غمد
قطيع من فقر الذات
صديقتي
سأجترح لك حواراً
من قطع اللانفس
كي نداول جلستنا
بالسمر وبهجة النفس .
أيعقل هذا ! ؟ .. تساءلت الصديقة ..
نعم يعقل .. أجابت “هوكا” ! .. ثم تابعت بقولها .. ليس هذا فقط ، بل عليك أن تسفي أرطالاً من البلاهة وتموتين ألف مرة وتحكين رأسك خمس مرات وتحكينه من وجع المزق قبل أن تفكري لحظة واحدة أن تجدي في حياتك فعلاً واحداً يزكيه منطق .
فالمشكلة لدينا – كما أسلفت – إننا نكره حيز الحقيقة ونكره ذاتنا حباً لذاتنا ونأبى إلا أن نشرب من معين الحنق .. فدعيني يا صديقتي أفصل لك ما أقول .. أرضنا تغص بدور الدين حتى لا تكاد تفيض ولدينا عشرات الوعاظ .. لدينا الكثير . .!
ولدينا خرق مكين في آذاننا منذ ملايين السنين ، فدعيني أقول لك سراً آخر .. نحن ، لا نستمع لشئ لأن آذاننا مثقوبة والواعظون لا يستمعون إلينا لأنهم أيضاً ذوي آدان مثقوبة .. لا أحد بإمكانه أن يستمع لأحد .
لا أحد بإمكانه أن يخبر الآخر بأزمة الثقب المتفشية فينا منذ ملايين السنين
.. لذا فدور الدين هي الكائن الوحيد الذي فك أبجدية اللعبة المحزنة وهو الوحيد الأكثر علة من وجع الاكتشاف ..
.. إنها مساحة تتخلق في حنايا اللامعنى .. يقول النبأ التاريخي
.. تتابع هوكا حديثها لصديقتها :
لا تسأليني يا صديقة تقطن الثلج كيف تكاثرت هذه الدور رغم علتها ورغم ما يعتري أصحابها !
.. أساس المشكلة أن النتف الكائناتي تحب أن تتفاخر فيما بينها بتشييد هذه الدور ، وأصل الحكاية – كما تروي الأسطورة – أن واعظاً أراد أن يغري الكائنات بالفضيلة فأشاع بينهم أنه من يبني داراً للسماء كفته الآلهة شر الخسارة .. أساسها طمع وكفى .. تقول القراءات .. عجيب أمركم .. أردفت صديقة هوكا ، ثم تابعت هوكا بقولها لصديقتها :
تئن ديار السماء
من جلابيب الزبد
مثقلة بأقتعة الزهد
يذبحها النزق
جلجلة السماء
من أوردتها
تنزفه أنيناً
وتأبى الأفك
لكنها أبداً
بقت الوسيلة
وبقت الأفق
تصيح هي :
أيتها الكائنات
أطلقوا سراحي
لأكتب استطالتي
دون ركض
تئن من وجع الكشف
وتختال في الأفق
تنادي إلا لها
في هدأة ليل مستطر
إلهي .. إني شاهدة
أنهم أفاقون زناة
منافقون .. كتبوني دون رغبة
دون حبو
وأخمدوني
بأسماء نسلهم العرجاء
ليزرعوا الطمع ..
إلهي :
كيف أقنعهم بأنهم قدح من شبق ونبيذ
إلهي يربكني ما أرى
إني مقرورة حد الفاجعة
.. مبقورة أتمرغ في كتل من صمت .
فور انتهاء هوكا من كلامها ألقت بسؤال في منتهى الحدة إلى صديقتها بقولها : كيف هي حالك ؟
مباشرة ودون تردد باشرت الصديقة في الإجابة على سؤال هوكا بقولها :
– لقد عملت جاهدة أن أجعل من الهدوء والبرد مفردة صحيحة كاملة غير مسبوقة أو ملحوقة بعلة وقد جربت ذلك تكراراً وأخطأت كثيراً ، لكنني كنت أجرب وراهنت على تجربتي في ذلك غير مبالية .. وكذلك أصدقاء الثلج فعلوا .؟ .. بنسب متفاوتة لكنهم فعلوا ! وأحلت صراخ الشكوى المنبرية وخطاباتها جانباً وطفقت أحتفل حتى النخاع بحرث الجليد ونحت الصخر بأعضائي وجعلت من عرقي ضباباً مخلوع الرائحة .. وراهنت على ذلك .. وكذلك فعلت كائنات الثلج .. وبقيت أفرط في تقسيم اللحظة وأفرط في البحث عن بقايا الجلود وظل الضباب وراهنت على صهر كل هذه الأماني لأخلق منها كائناً ينطق بها جميعاً .. وكذلك راهن الأصدقاء .. وفكرت كيف أكتب ديوان اللحظة ؟ .. وكيف ألعنها وكيف أقبلها ؟ فكرت كثيراً وقلبت السؤال وقلت في نفسي .. هل أنا بحاجة إلى كتابة اللحظة بوسائل هي امتداد لوسائل كونية أزلية وثورت في ذلك على نمطية الوسيلة ودفعت الثمن باهظاً ! واتكأت أخيراً على ذاكرة السؤال من جديد .. وكذلك اتكأ الأصدقاء .
.. من يومها وأنا أعيش وذبح الأسئلة يلاحقني دون كلل .. فأعود وأحرث الجليد وأقتنص ظل الضباب وألعن اللحظة وأقبلها !
ثم قالت .. هكذا أعيش يا هوكا !! هكذا أعيش !
فهل علمت !!