خيرية فتحي عبدالجليل
حطام طائرة حربية في صحراء شاسعة ممتدة، خلفها الفضاء يشتعل بألسنة اللهب والحرائق والرماد ، يتصاعد الدخان الكثيف في السماء ، ورائحة البارود والاحتراق تنتشر فيما أخذت عاصفة رملية هوجاء تكتسح المكان ، تحجب الرؤية وإلى جانب الحطام جنديان أهم ما يميزهما ملابس الجنود ..أشلاء متناثرة ، جثث لم يتبق من معالمها شيء ، والصمت القاتل يهيمن كالغول الشرس على المكان .. أحدهما تحرك .. حاول النهوض ولكنه سقط متهالكاَ ، نظر حوله بحسرة قاتلة ..رمق الأفق بعينين غائرتين ، هز رفيقه الأخر وتساءل
- ترى هل فيه بقية من حياة ؟
شفتاه اللتان شققهما الجفاف ترتعشان .. أنه لا يقوى حتى على الكلام… بصعوبة بالغة تمتم الرفيق بهذه الكلمات
- ماء .. أريد بعضاَ من الماء أرجوك .. !
نهض الجندي الأول بمشقة بالغة حاول أن يصل إلى هيكل الطائرة المحطم بحثاً عن الماء ، تعثر بجثة متفحمة ، سقط بجانب ساق مبتورة ، وقف ، بحث كالمجنون وكم كانت فرحته عارمة ودهشته كبيرة عندما وجد برميلاً صغيراَ كاد أن يجن ولولا قواه المتهالكة لرقص من شدة الفرح ولصرخ بأعلى صوته الواهن من شدة السعادة .. ولكنه اكتفى بعناق طويل للبرميل وكم كانت خيبته قاتلة عندما فتح البرميل وملأت رائحة الوقود المكان .
عاد إلى رفيقه .. انتابته هسترية من الضحك .. ضحك وضحك .. ضحك كثيراَ .. ثم سقط متهالكاَ .. دفن رأسه بين يديه وبكى بمرارة .. نظر إلى السماء والدموع تملأ عينيه وتوسل إليها أن تمطر ولكنه وجد شمساً حارقة ساخطة تتوسط السماء وكأنها تنظر إليه مبتسمة ساخرة وشعر بأن خيوطها الذهبية سياط من الجحيم .. !
تذكر رفيقه .. نظر إليه ثم وقف جرّ قدميه إلى حيث بعض النباتات الصحراوية الجافة أنتزع بعضاَ من الأوراق والأغصان .. حاول أن يمضغ وعاد إلى رفيقه .. هزه هزات متوالية سأله ..
- هل تستطيع مضغ هذه الأوراق ..؟ أرجوك حاول .. إنها جافة .. ولكن شيئاَ أحسن من لا شيء .. اطمئن يا صديقي سيبحثون عنا … لا بد وأنهم في طريقهم إلينا .. تماسك واستند إلي … سندخل إلى حطام الطائرة .. هناك المكان أخف حرارة … ولكن يا لله يا رفيقي حرارتك مرتفعة جدا .. تماسك لا تيأس سننجو بأذن الله .
رد الرفيق
- لا لا تهمني حياتي.
أخذ يسترجع ذكرياته خصوصاً تلك الذكرى الأليمة ، ثم هتف
– هل سيغفر لي أخي إساءتي إليه .. أذكر ذلك جيدا لقد تناقشنا حول موضوع .. كان نقاشاً عادياَ ولكن سرعان ما تحول النقاش إلى جدال ثم إلى معركة كلامية .. على إثرها ترك أخي البيت غاضباَ مني وكنت أنا المذنب ولكن …
رد الجندي الأول
- إنك محموم .. أرجوك اهدأ ……………!
عاد الرفيق يقول
- جاء أخي إلي البيت بعد ذلك بحث عني أه كم كنت عنيد .. لم أقابله .. ذهبت إلى الحرب جئت إلى هذا المكان اللعين .. أوه ياليتني قابلته ..
رد الجندي
- سيغفر لك أنا واثق من ذلك .
فجأة تهلل وجه الجندي .. لمعت عيناه تعلقت بشيء ما في الأفق ارتعش وصاح بصوت واهن ضعيف مخاطبا رفيقه ..
- ألا تسمع شيئا .. ؟ أرجوك أنصت إنها وقع خطوات لابد وأنها خطوات أمي جاءت بطعام الغذاء .. كم أنتِ رائعة يا أمي ولكن هل نسيتي كوب الماء المعتاد ؟
رد الرفيق
- يا إلهي إنك تهذي .
بدأ العرق يتصبب بغزارة من جبيته ولم تكن حالة رفيقه بأحسن من حالته إلا انه بدا متماسكا قليلا .. وعند حلول الليل بدأت الحمى تخف وطلب من رفيقه أن يجلب له ورقة صبار أراد أن يكتب لأمه .. !
- سأله رفيقه أتملك قلما .. ؟
- أجاب سأكتب دون قلم .
وشرع الجندي في كتابة الرسالة إلى أمه
وعلى ورقة الصبار حفر بأظافره
” أمي العزيزة ……….. لا تتصوري مدى سعادتي الآن .. وأنا أودع هذه الحياة راحلاَ إلى حياة أخرى هادئة حيث لا قتال .. لا دمار .. لا حرب … ولكن إذا وصلتك رسالتي .. فلا تبكي يا أمي ولا تذرفين الدموع .. وصيتي إليكِ أن توزعي الماء .. أسقي الناس … الجيران .. الأطفال .. أسقي كل شيء .. أسقي الدنيا .. لا تتركي شجراً يابساَ أو أنسانا يشكو الظمأ أو أرضاَ تشكو الجفاف .. أريده يوما رائعا .. أريده عيدا للماء ..وعندما تتساقط الأمطار بغزارة تذكري أن أبنك قد مات ظمئان عطشان جائع وحيد في صحراء قاحلة واطلبي من أخي أن يسامحني ويغفر لي ..
ذيل نهاية الورقة بتوقيعه الخاص .. ثبتها في رمال الصحراء وسقط فاقد الوعي .
وتولت العاصفة الرملية الهوجاء التي ثارت في الصباح مراسم الدفن لجثتين أهم ما يميزهما ملابسهما العسكرية .
البيضاء