كما قال له والده ذات مرة: “ستقضي حياتك غريبا عن وطنك” غيب الموت الشاعر محمد الفيتورى الحياة الذي ولد عام 1930 في قرية الجنينة غرب السودان. ومات بعد صراع طويل ومرير مع المرض في مدينة الرباط المغربية مساء جمعة الرابع والعشرين من أبريل/نيسان هذا العام، خمسة وتمانون عاماً قضاها شاعرنا المرهف الاحاسيس، وهو مزهواً بنفسه إلى حد أحتار في نرجسيته النقاد، رغم أنه كان صديقاً دائما للمقهورين في قارته وأمه أفريقيا كما يحب أن يناديها في شعره، كما دافع في شعره عن المقهورين في كل مكان.
حفظ الشاعر محمد مقتاح الفيتوري القران الكريم، وكتبه بيده، منذ طفولته المبكرة، كما درس الحساب والاناشيد وكتب مواضيع الانشاء الرائعة وهو لم يغادر الصفوف الابتدائية الاولى، ثم ألتحق بعدها بالمعهد الديني الازهري، ثم بالمعهد الثانوي في القاهرة، وليواصل دراسته هناك حتى عام 1953، كانت جدته (زهرة) تحكي له بشكل مستمر عن جده الذي كان يتاجر بالعاج والرقيق، وتذكره دائما بأن أم والدته أصلها جارية، وهذا كله كان كافيا لطفل يعيش في جلباب جدته أن يورث منها وفي وقت مبكر عقدة العبودية لتلازمه وتكون محور أهتمامه طيلة حياته كلها، وربما لتكون أيضا سبب تميزه في معظم نتاجه الإبداعي.ورغم ذلك لم ينس شاعرنا مطلقاً هذه الجدة الرائعة وقد أهداها مرة ديوان شعر مهم فكتب أهداء اليها على النحو التالي: “إلى الزهرة الأفريقية.. جدتي المسكينة.. القائمة في ذاتي.. رغم شواهد النسيان”.
في عام 1954 إلتحق الفيتوري بقسم الاداب الإنسانية بجامعة القاهرة، وأكتشف أنه يملك في راسه مالايملكه أقرانه، فبدأ مزهوا بنفسه معتدا بما يحمله في راسه متفوقا به عن أقرانه، فهو يحفظ دوواين لعنترة، ويعرف سيرة أبي زيد الهلالي، وقرأ كتب تولوستوي، وأشعار فاوست، وجوته،وبودلير وكان هذا كافياً جداً في نظرة أن يكون مختلفاً، ولهذا السبب أيضا كان كسولاً جداً، ولايواظب على حضور المحاضرات، وشعر بأنه مقيد بلوائح ونظم وقوانين، فترك الجامعة قبل أن ينال شهادتها.
دخل الصحافة من بابها الواسع، وعبرها نشر أشهر دوواينه التي علا شأنها ورددها الملايين، والتي أيضا جعلته يزداد زهواً وأفتخاراً بنفسه لدرجة حيرت معه أقرانه في جيله، فقد تطاول على النقاد ولم يكن عترف بهم، بل وصل به حد الزهو أنه قلل من أهمية اقرانه الشعراء فقال أن احمد عبد المعطي ججازي ليس شاعرا بالمطلق وانه مجرد ناقد، والبياتي أيضا، وحتى محمود درويش عنده ليس شاعرا ولكن القضيه جعلت منه شاعرا، ونزار قباني في نظره شاعر لكنه كان في خدمة اخرين.
علاقة الشاعر الفيتوري بالرؤساء فصلاً مهما في مسيرة حياته تستحق الوقوف عندها، وقد كانت علاقة يشوبها التعقيد والغرابة، فقد كان صديقاً مقربا من أنور السادات، الذي أحبه وقربه اليه في بداية مسيرته، بل كان أنور السادات أول من أرسل الفيتوري ليشارك بلاده السودان في عيد استقلالها عام1956، ولكن السادات كان أول من، هجاه شاعرنا محمد الفيتوري بعد الصداقة المتينة التي أنقطعت بينهما، فألف فيه قصيدته الشهيرة (الراقدون على بطونهم والدجي من فوقهم حجر) الشهيرة، وقد كان الهجاء إرضاء لمعمر لقذافي الذي رحب بالشاعر محمد الفيتوري بعد أن طرده جعفر النميري وسحب منه جواز سفره السوداني وجنسيته السودانية، ليحضى بمحبة وتقدير القذافي الذي منحه كل مايريد، فقلده وساما رفيع (وسام الفاتح) ومنحه الجنسيةالليبية وأيضا جواز سفر دبلوماسي ووظيفة سفير فوق العادة، وبقى متمتعا بهذه الميزات حتى أندلاع توراث الربيع العربي، التي طالت الفيتوري، فسحب منه جواز سفره الدبلوماسي، وأيضا جنسيته الليبية لانه كان صديقاً مقربا من معمر القذافي ألذي وصفه شاعر أفريقيا في أحد قصائده بانه مثل بعض النبيين!!!
كان محمد الفيتوري شديد الاعجاب بالرئيس المصري محمد نجيب بينما هاجم جمال عبد الناصر، هجوما لاذعا في قصيدة “مات غدا”ً قال فيها:
مات
وملء روحة المسودة المحترقة
رمز يغطيه دم المشانق المعلقة
وصرخات الثائرين في السجون المطبقة
علاقته بالرئيس صدام حسين، بدأت حين كتب شاعرنا قصيدة شعرية في بغداد عنوانها “يأتي العاشقون إليك”، أعجب بها، صدام حسين كثيراً كثيرا فقربه منه ومنحه جائزة قيمتها مائة الف دولار، كما كان صديقا حميما للرئيس الجزائري السابق أحمد بن بيلا.
رحمة الله على شاعر أفريقيا الكبير محمد الفيتوري رحمة واسعة، فقد كان لسان المعذبين في الارض، رغم أنه تنعم بعطايا السلاطين فلم ينس يوماً المقهورين الذين غنى لهم، وتغنوا بصوته الجهوري .مات الفيتوري رغم أنه كان يعتقد دائما، وطيلة حياته، أنه ان كان الشعراء لايموتون فهو اكترهم بعدا من الموت، ويقول:
متلي انا ليس يسكن قبرا
لا تحفروا لي قبراً
سأرقد في كل شبر من الارض
__________________
نشر بموقع ليبيا المستقبل