المقالة

دون كيشوت ليبيا

راضية عبد السلام

لم يخطر ببال الكاتب الاسباني (ميجيل دي سيرفانتس) الذي كتب روايته “دَوْن كيشوت” سنة 1605م، والتي عشق بطلها الحالم، أن يأتي يوم، تتجسد فيه هذه الشخصية على أرض الواقع، فها نحن نرى بعد كل هذا الزمن الذي مر على خروج هذه الرواية الى دنيا الأدب، رجلاً يتفوق على دون كيشوت في كل أحلامه وطموحاته ومحاربته للطواحين والخيال.

إنه المتميز جداً جداً (دَون معمر) الذي اقترن اسمه بليبيا منذ العام 1969،.. بداياته كانت حرب تشاد عندما تخيل أنه يستطيع احتلال جزء من بلدٍ مجاورَ له سيادته، ودفع الجيش الليبي وقتها الثمن غالياً، واستمر في طغيانه ولم يسلم منه بلد قريب كان أو بعيد.

وازدادت مواهبه وخيالاته تطوراً باندلاع ثورة 17 فبراير، حيث وجد الساحة الحقيقية لإبراز قدراته.

لقد توعد الثوار بأنه سيحاربهم إلى آخر طلقة ولكنه لم يمسك بندقيته مرة واحدة، كان يصدر أوامره الفنتازية بالهجوم الساحق والمليوني وكأنه يقود حربا في كوكب آخر أو حربا بين كواكب أخرى لا نعرفها. فهو يرسل من أحلام يقظته أوامرَ غرائبٍيةً إلى كتائبه لوأد ثورة الشعب الليبي بالقتل والتنكيل والاعتقال والهدم وانتهاك الاعراض وكل الافعال المشينة، كنا نسمعه صوتاً فقط.

كان مهاجماً لهذه الثورة ولثوارها، محارباً في غرفة لا نعلم عن محيطها شيئا، فهو يتوعد ويهدد ويحمي من يشاء ويُنزل لعنته على من يشاء، ويمحو كل من لا يواليه من نفس الغرفة.

فهو حقاً دَون كيشوت ليبيا، خارق في استعراضاته، بارع في تخيلاته، يخوض أشرس المعارك دون سلاح وميدانه شاشات التلفزيون، فهو يريد أن يبهر الجميع ويذهلهم. وهذا ما يميزه عن بطل روايتنا، ففي ساعاته الاخيرة بلغت انتصاراته ذروتها، فهو يدخل جبهات ويحرر مدن ويخترق حصون غير آبهٍ بتحديد الوقت أو الكيفية، لقد حرر مصراتة والزاوية واجدابيا وغيرها من مدن ليبيا في ساعات بث تلفزيونه الرسمي.

أما الآن، فبالإضافة إلى ألقابه المتعددة من المعلم الأول إلى المفكر الأول واكتسابه أولوية كل شئ فهو أيضاً الزاحف الأول الذي سيحرر ليبيا وهو مٌتخفياً.

أليس هذا الحالم يستحق لقب (دون كيشوت ليبيا).

غير أن الفرق بين الشخصين أن دون كيشوت الإسباني ودون كيشوت الليبي أن الأول يخرج لنصرة المستضعفين أما دون كيشوت ليبيا فيخرج لإبادتهم دون رحمة، وهو يتميز عنه أيضاً بامتلاكه أداة إعلامية تسوّق له انتصاراته الخيالية وتًرضي نزعاته المنفلتة، إنها منظومته السوريالية التي يقودها (إعلاميُّو الغفلة).

فمنظومته الإعلامية تنشر الأكاذيب وتتفنن في صياغتها، وتحرّض الجنود من الكتائب والمرتزقة على محاربة الثوار وهي أحيانا تتحول إلى مفتي للديار وتوعدهم بالجنة والحُور العِين إذا ما استبسلوا وقُتلوا في الحرب التي تستمد وقودها من تخاريفه وهلوساته وطواحين هوائه.

لقد كانت له صولات وجولات فى طواحين باب العزيزية الخاوية.

واليوم انتصرت ليبيا وانتصر ثوارها، وأعلنوا أنهم سيطروا على كامل ليبيا، وشهد الشعب على ذلك، رغم أن دون كيشوتنا ما زال يلزم حجرته وعبر صوته المتقطع يحرض كتائبه وملايينه الهوائية بقصف البلاد المحررة ليلا نهارا.

فهل سيدفع الليبيون ضريبة خيالات القذافي؟

إنها مرحلة الهذيان، فبعد أن سقط بيته ورفرف علم الحرية فوق جدرانه، ما يزال يقول إنه انسحاباً تكتيكياً ، شأنه في ذلك شأن تلفزيونه الرسمي الذي ربما يكون العاملون به قد انسحبوا ذات الانسحاب إلى أن وجدوا أنفسهم وجه لوجه مع الثوار.

كل ليبيا اجتمعت في طرابلس لتقول له الكلمة الفصل: ارحل.

في هذه الحرب لم يٌقتل جندي واحد من قوات التحالف، إنها حرب الليبيين والدم الذي سال على أرض ليبيا هو دم ليبي، ولن يتهاون الثوار في القصاص من هذه العائلة التي قضت على عشرات الآلاف من الليبيين ؛ مدنيين وثوار وكتائب.

إن ثوار ليبيا لم يستسلموا منذ أن سيطروا على شارع واحد في مدينة بنغازي، فكيف يحلم بالانتصار وهو مشبعٌ بالهزيمة والثوار يسيطرون على كامل ترابهم ولديهم مجلس انتقالي يمثلهم أمام العالم.

إنّ أصوات بنادقهم ستعلو حتى تخترق أذنيه الصمّاء، وحينها فقط سوف يتخلى عن طواحينه وعن انتصاراته المتلاحقة، ويسقط علناً.. سقوطَ رأسِهِ المُذَّهب في باب العزيزية.

29.09.2011

مقالات ذات علاقة

النسيم على عرش الظل

سالم العوكلي

شعر المهجر 

عادل بشير الصاري

صديقي شاعر إثني سياسي… لحظات مـن الحلم، الهـوية والأسلوب

شكري الميدي أجي

اترك تعليق