قصة

فــرمـان

كوثر الجهمي

قوس ماركوس أوروليوس (الصورة: عن الشبكة)

“تعوذ بالله من الشيطان الرجيم يا سيدي يوسف “! لم يتوقف يوسف عن الاستعاذة، يكررها بصورة متلاحقة حتى يُخيل للمرء إذا سمعه أنه يتمتم بطلاسم بلا معنى، يلهث وكأنه آتٍ من تونس إلى طرابلس جريًا على الأقدام.

” كابوس يا حورية! كابوس!” قالها بعد أن استردَّ بعضًا من أنفاسه . ” خير خير ان شاء الله !” جحظتْ عيناه نحوها، وكأنه لا زال يرى ما رآه في منامه بدلًا من زوجته التي أفزعها من

نومها الهانئ . ” من وين بيجي الخير؟ شفت مخزن الرخام يا حورية، يطيح، يتهدم، يتفتفت كأنه مبني من رملة الشط! سمعتْ صوت زي الرعد، كأن حاجة صاباته، وتقوليش يستنى في سبلة، ناشاته نوش يا حورية، لكن طاح كله، ولَّى كومة رملة يا حورية ! ” ” وشن فيها؟! تي هو عقاب مخزن رخام !” “جاهلة إنتي؟ إيه نسيت جاهلة حق، من وين بتعلمي وانا جايبك من حدود فزان ماتعرفيش من طرابلس إلا اسمها! هذا المخزن قوس بنوه الناس الاولة بكل، يقولوا الرومان، هذا أقدم حاجة في المحروسة، هذا كان انتهى بتنتهي طرابلس يا حورية ” لم تجرؤ حورية على مجادلته في مصدر هذه الثقة التي يتحدث بها، فقد كان كلامه بالنسبة لها يأتي بعد كلام الله تعالى في قدسيته وحُرمة الجدل بخصوصه . ” كابوس يا سيدي يوسف مايصير شي باذن الله ” يعلم يوسف أنه مجرد كابوس، ولكن لكوابيسه بالذات سجلّ سيء معه، فلم يرَ واحدًا إلا تحقق

إن عاجلا أو آجلا، ولكنه لم يشأ أن يخبرها باعتقاده هذا خوفًا من أن تستخف به في سرِّها فتهتز مكانته في قلبها، تظاهر بتلاشي نوبة ذعره، فنامت حورية، وبقي جاحظًا حتى بزوغ الفجر.  أثناء بحثه عن بلغته عند مدخل الجامع بعد صلاة الفجر، أتاه النبأ؛ محمد باشا الساقزلي يبعث إليه ب”فرمان” ينبئ الناس فيه نية الباشا في هدم مخزن الرخام للاستفادة من مواده في إنشاءات أخرى، صاح يوسف في الناس مناديًا بالفرمان الجديد، والغصة تخنقه حتى تكاد تستلّ قلبه من بين ضلوعه، ولكن ما بيده حيلة فهذه مهنته، أن ينادي بين الناس بالإعلانات التي تأتيه من قلعة الباشا لأنه من القلة الذين يعرفون القراءة، ولأن صوته جهوري، حيثما حل واهتز الهواء في حبال حنجرته التفت إليه الناس متسائلين عن صاحبها، حتى صارت كنيته “يوسف فرمان “.

لم يحن موعد صلاة عصر ذلك اليوم من أيام منتصف ثلاثينيات القرن السابع عشر حتى كان قد تجمهر عددًا من فقهاء وأعيان طرابلس المحروسة، يستنكرون الفرمان الجديد، انضمّ إليهم

يوسف مؤيدًا لأي رد فعل سيتخذونه إزاء هذا الموقف، رغم قناعته التامة بصدق كابوسه-

النبوءة، فكوابيسه لا تخيب . كبير الفقهاء قرر أن يوسِّع التجمع، فصاح يردد بين الناس: “هذا المخزن، القوس الوحيد الباقي من آثار الرومان الأولين، لم يمسه الوندال الذين أتوا من بعدهم غازين، ولا حتى العرب المسلمين، لماذا ها؟ لأنهم –بلا ريب- يعلمون أن إزالته تعني الشؤم، هذا القوس هو ركيزة هذه المدينة، إن زال زالتْ معه واندثرتْ، إن انتهى هذا الأثر فمن سيعرف عمر هذه المدينة بعد من الأجيال القادمة؟ ومَن سيكترث لها إن أزيلتْ من الوجود حينئذ أو بقيتْ؟ ستبقى مدينة بلا تاريخ، ولن تصبح المحروسة بعد ذلك ” أحد المتجمهرين سأل الفقيه: “ولكن يُقال أن أوائل المسلمين قد قطعوا رؤوس التماثيل المنحوتة عليه!”

وكأن الشيخ انتظر هذه الملاحظة فرد فورًا: “هذا يقوي حجتي لا يدحضها، قطعوا

رؤوس التماثيل إذًا كان بوسعهم هدم القوس بالكامل، لماذا لم يفعلوا؟ ” انتشر الصخب بين المتجمهرين، ثم تعالتْ الأصوات منادية بالحفاظ على هذا الإرث . لم تتحقق نبوءة يوسف، أثار الأمر سعادته واستغرابه على حد سواء؛ ولكنه حمد الله أن لم يُصرِّح بتوقعاته لزوجته، وأقنع نفسه بأن لكل شيء مرة أولى، وهذه المرة الأولى التي تخيب فيها كوابيسه.

 بعد ذلك اليوم، بأربعة قرون بالضبط، أي في القرن الواحد والعشرين … في ليلة مقمرة من ليالي يوليو اللاهب، جلس “يوسف فرمان” الذي بلغ من العمر الثلاثين منذ بضعة أيام يتسامر مع رفيقه في دورية معتادة بمحاذاة المدينة القديمة التي كانت تُدعى قبل ذلك “المحروسة”، قررا أن تكون هذه المرة بين جامع “سيدي عبد الوهاب” و قوس “ماركوس أوريليوس” ، يتبادلان سيجارة ذابلة، وبعضٌ من فضلات البيتسا العالقة في صندوقها الكرتوني . ” قوللي يا يوسف.. زعما علاش لقبك فرمان؟ جدك كان يفرم في اللحم والا شني؟ ” “جاهل من لما عرفتك، يا جاهل كلمة فرمان كانت أيام الاتراك معناتها إعلان من الباشا يبعث من يعيط بيه ويقوله بين الناس، شن ماعمركش شفت مسلسل سوري؟ جدي الاول هذي كانت خدمته، قالولي صوته كان قوي هلبة ” ” متنور ما شاء الله، شكله بوك طالعله “.

 تجاهل يوسف الملاحظة الأخيرة، ولكن صاحبه أبى أن يستسلم للملل في ليالي كهذه . ” وشن تعرف ثاني على جدك الاول؟ ” “شكلك بتكسد عليا الليلة، لكن بنسايرك، شن رايك ان ايامات جدي كان الباشا التركي وقتها ناوي يهدم هالقوس اللي قدامك، و جِدِّي وقفله وقفة راجل، وماخلاش يديرها ” غص صاحبه في لقمة الجبن التي انتزعها للتو من غلاف صندوق البيتسا، قهقه حتى كاد يفقد قدرته على ملء رئتيه بالهواء “حتى انت جدك قال للباشا نظامك فاشل في وجهه؟ ” ” اللي محيرني حاجة وحدة ” ” شن يا متعلم يا ولد المتعلمين؟ ” ” قالولي إن الناس كانوا يعتبروا في القوس هذا شي مقدس لأنه تحمل قرون وماطاحش رغم انه مبني بني من غير ما يحطوا مادة تلصق البلوك بتاعه! زي الشمنت هكي عرفت كيف؟ اشبح حق والا الناس يتوارثوا في التزليز من يومهم، بالك ماصارله شي غير حظ وخلاص مافيش مرة صاباته قذيفة !” ” جرب وشوف” قالها صاحبه بمكر وهو يرفس هباب السيجارة البالية التي كانا يتبادلانها . كان بحوزتهما قذيفة آر بي جي، منذ رآها يوسف للمرة الأولى عند انضمامه للكتيبة، أي منذ خمسة عشر عامًا بالضبط، وهو يتلهف لاستخدامها، ولكنه لا يجد المبرر المناسب في الوقت المناسب، لمعتْ الفكرة في مخيلته كالبرق . ” نجرب.. شن فيها! لكن شن السبلة اللي بنقولها للآمر لما يسألني علاش استعملتها؟ ” ” قول انطلستْ مني يافندي! ريته غير معدل هو، انت اللي خواف… شكلك مش طالع لجدك !” ضحك صاحبه ظانًّا أن دعابته وقعتْ في محلها، لم يضحكْ يوسف، نهض واضعًا السلاح على كتفه، صوَّب، ثم أطلق، ثم؟

بعد ثوانٍ قليلة من استقرار القذيفة في هيكل القوس، سقطتْ حجارة صغيرة، تلتها مجموعة أخرى، ثم تهدم بالكامل، تفتت و كأنه مبني من رمال الشاطئ! وكأنه كان في انتظار هذه الإصابة لقرون خلتْ، انهارَ كُلُّه، أصبح كومة من الرمال، وبدا ليوسف حينها أنه يرى كابوسًالا أمرًا واقعًا.


– أي تشابه بين الألقاب المذكورة في القصة والألقاب الموجودة في الواقع هو تشابه غير متعمد

– 1361 (بهدم القوس وتصدي أهالي وفقهاء – مسألة نوايا الباشا محمد باشا الساقزلي) 1361 طرابلس هي مسألة مذكورة في بعض المراجع التاريخية، أنظر “حكاية مدينة”، تأليف: خليفة التليسي، ص 16

مقالات ذات علاقة

مسبحة

رحاب شنيب

لحظة عابرة…

أحمد يوسف عقيلة

شظايا الشّجوِ

محمد دربي

اترك تعليق