مصطفى اللافي
ذات عام كان عبد الغني الأستاذ وزوجته في بنغازي وكانت الدنيا صيفا، وعبد الغني الأستاذ يمشي بجوار امرأته بجسده الذي هو طويل حقا ولكنه ذلك النوع من الطول الذي لا يبدو له عرض، فلا سمنة تبرزه، ولا أكتاف ممشوقة تنسيك رفعه، وإنما شيئان هاكعان مضمومان تتعلق عليهما سترته كأنها معلقة على شماعة.. ومع أنه كان يرتدي بدلة، إلا أنك كنت تستطيع أن تدرك للتو أنه لم يعتد ارتدائها، فقد كان يخطر فيها وكأنه لا يزال يرتدي الجبًة أو الجلباب، ويمد يده وكأنها لا زالت طليقة في الكم الواسع الهفهاف.. وكنت تستطيع أن تقسم أن نار المكوى لم تلسع بدلته منذ أن وجدت وكذلك لا تقدر أن تخمن متى وجدت، ومع ذلك فالمحافظة على الملابس كانت في دم عبد الغني الأستاذ، ولهذا كان يضع منديله النص نص الأبيض بين رقبته وبين ياقة سترته حتى يمنع عنها العرق الذي ينضحه قفاه الأسمر، وكذلك كان يفعل في قبعته.
والغريب بعد هذا أن ياقة السترة وحافة القبعة، كانتا دائما من أمتع الأمكنة التي يحلو للعرق والتراب البقاء فيها واستعمارها.
وبالقياس الى وجه عبد الغني الأستاذ الذي قدمت سحنته حتى اسودت، وتناثرت تجاعيده في طيبة قبيحة ولكنها طيبة وسلام، وبالقياس الى وجهه، كان وجه امرأته الماشية بجواره حلوا أبيض فيه احمرار، ليس هذا فقط، بل إنها كانت ترتدي ثوبها الحرير الأحمر الذي دخلت به، وفوقه الفستان الشفاف الأسود، وكانت تضع فوق شعرها الطويل البري قبعة ذات ريشة، كان عبد الغني الأستاذ اشتراها لها أيام “موضة” القبعات.. ولم تنس السيدة أميرة أن تسدل فوق وجهها البيشة الكحلية التي تثنت أطرافها ولمعت أجزاء منها، وتلاصقت من كثرة ما وضعتها على وجوه أطفالها حين كان يصيبهم الرمد.
وكان عبد الغني الأستاذ وهو يهم بخطوه ليلاحق امرأته كان في لحظة من تلك اللحظات التي يحس الإنسان فيها أن الدنيا عال، وكل شيء جميل، ولم تكن هذه السعادة لأنه في بنغازي، فقد زارها مرات من قبل هذه المرة ليسعى حتى لا تنقله الوزارة من المدرسة الإلزامية التي هو مدرس فيها، زارها قبل الآن مرات، وعرف الصابري وسوق الحوت والجامعة وشارع العشرين الذي فيه بيت الأستاذ حافظ وزوجته السيدة منال.
لم يكن سعيدا إذن لأنه في بنغازي، ولكنه كان عامرا بالنشوة لأن أميرة معه هذه المرة، هادئة بجواره كالحمل الرضيع، لا تعايره كعادتها بكبره وصغرها ولا تركب رأسها وتمتطي لسانها وتسخر منه ومن علمه ومن أنه المدرس الذي لا طلع ولا نزل، وإنما هي صامتة مدهوشة ذاهلة وهو يفرجها على بنغازي، ويريها، ولو مرة واحدة في حياته، وإنه يعرف أكثر منها، وله نفع أكثر من نفعها في بعض الأحيان.
وكان هذا ثاني يوم لهما في بنغازي وكذلك أخر يوم، وكان عبد الغني الأستاذ قد أتى بها في طراوة العصر ليريها البحر، وكانت هي في ذهولها لاهية عن كل شيء إلا عن هؤلاء النساء، ولحمهن المكشوف، وعيونهن التي تحدق في قحة وفجور ناحية الرجال دون أدنى خجل وكسوف..
وكانت إذا مرت بها واحدة لا تستطيع أن تكتم ما في نفسها، فتبعث ورائها بسلسلة طويلة من الشتائم واللعنات.. وحين انتهى عبد الغني الأستاذ بها إلى مكان على الشاطئ توقف، ومضغ ملء فمه فرحا قبل ان يقول:
– شوفي يا أميرة.. أهو هادا البحر الجميل يلي بيقولوا عليه..
وردت أميرة وقد فاجأها البحر فتاهت في ملكوته ونسيت عيون النساء:
– ياه.. يا سلام يا عبد الغني..
ولهثت قبل أن تستطرد:
– هادا واللهي أجمل ما شفت يا عبد الغني..
وانتظر عبد الغني الأستاذ متلذذا وامرأته تهضم انبهارها، وقلبه يرفرف بالفرحة وهو فخور بالبحر الذي أدهش أميرة..
وما كان شيء يدهشها، وكأن ذلك البحر مدينة وبنغازي بحالها إحدى ضياعه..
وقبل أن تستيقظ أميرة من غفوة الدهشة التي انتابتها، عسعس عبد الغني الأستاذ بلا وعي في جيبه فعثر على حبة حمص كانت باقية فألقى بها بلا وعي أيضا الى فمه، وخلع قبعته نهائيا وأمسكها في يده فبان شعره الخفيف المنكوش الذي لا يفلح في إخفاء صلعته وقال بصوته الفرحان، وهو يحاول نفح كرشه المتواضع، ويمد الكلمات ويجد السعادة في مطها والركون في أواخرها:
– وهادي.. يا أستاذة أميرة.. بنغازي!
وابتلع عبد الغني الأستاذ ريقه، وأخذ يحرك القبعة بين أصابعه وكأنها مسبحة، ومصمص ما تبقى من الحمصة في ضرسه الوحيد الذي نخره السوس واستعد للشرح.. وفعلا بدأ يتكلم.. ولكن أميرة كانت قد رأت لحظتها الكوبري العريض الذي تمر عليه السيارات بأكملها، ثم يسع الناس بعد ذلك أيضا. ولم تنتظر ما يقوله وإنما انطلقت كالمدهوشة ناحية الكوبري، ولحقها عبد الغني الأستاذ وهو يداري سخطه غير يائس، ولم يتوقف لتسأله وإنما انطلق من نفسه يروي لها قصة الكوبري، ويشير إلى الأسدين الرابضين والأعمدة الطويلة الغليظة المرتكز عليها في وسطه، ويمسح رذاذ كلامه بالمنديل ثم يعود يضعه حول ياقة سترته، ويدق بعصاه – وكانت له عصا – على الإسفلت ليريها متانته، وتنحني، فينحني معها معها على الحاجز ويستمر يتكلم وهو يريها الماء الذي يفور ويتموج..
وأخيرا نطقت أميرة، سألته:
– يا عبدو.. صحيح البحر هادا ما عنداش قرار ؟
وأجاب عبد الغني الأستاذ أنه بالتأكيد له قرار، فلم تصدقه، بل تاهت عن نفسها وعنه وخيل إليها وعيناها تتابعان الموج في شغف أن الكوبري يتحرك بها ويتراجع، وعادت تحدق في الكوبري والمباني المجاورة، واطمأنت إلى أن كل شيء ثابت في مكانه لا يسير، وتعجبت أكثر، ثم تاهت مع الماء مرة أخرى..
وفجأة، جاءت بكلمة سمعها عبد الغني الأستاذ صرخة، فارتاع، ووقف ينظر إليها ضائع العقل..
واستمرت هي تصرخ.. ولم تسعفها الكلمات، وودت من صميمها أن ينفذ لها عبد الغني ما تريده قبل أن يرتد لها رمشها..
وكان هذا ما يضايق عبد الغني فيها فما أكثر ما كانت تدفعه وتصيح فيه، وتشده، طالبة منه أن يفعل شيئا دون أن تقول ما هو ذلك الشيء، ويقف عبد الغني لحظتها حائرا نافذ البال، وكأنه اعمى يريد أن يلضم إبرة..
– يا راجل إتحرك.. الله.. إلحق يا عبد الغني.. يا ستار يا رب.. يا رب أستر.. أستر يا رب..
ودبت على صدرها وإبيض وجهها وكاد يصفر..
وعلى قدر ما استطاع اتجه عبد الغني ببصره إلى حيث كانت تنظر، فما وجد شيئا غير ما توقع أن يجد، ولكن إلحاح زوجته وقرصاتها ودفعتها، جعلته يكذب نفسه، وتتقارب أجفانه، ويتلاحق حاجباه العريضان الخفيفان صانعين تجعيدة مفرطحة فوق أنفه، محاولا أن يجد ذلك الشيء الذي أرعب أميرة فأرعبته..
وكان صبر الزوجة قد نفد فنطقت أخيرا وقد عدذبها فهمه الحميري!
– شوف يا راجل؟!.. الولد!
– وينه؟!
– يا باي عليك.. أهه يا أعمى!..
وحدق عبد الغني الأستاذ مستغربا في الماء، وهناك في وسط البحر رأى الحادث.
كان العصر قد بدأ يشحب وينتهي، وكانت الشمس الذاهبة التي في السماء والشمس الغارقة المدفونة في الماء..
كانت أشعتها تصطدم على سطح الموج الصغير المتراقص فتتفتت الشعاعات إلى ملايين من ذرات ماس تتناثر في كل اتجاه.. وفي وسط هذا البريق العائم كان هناك قارب أبيض صغير يكاد يبلغ حجمه حجم قوارب التي يصنعها العابث بالورق.. وكان في القارب طفل.. طفل رقيق يرتدي بذلة البحارة البيضاء وكان الهواء يداعب شعره الأصفر في عنف رقيق وكأنه ما يهب إلا ليداعب شعره.. وكان الصغير جالسا في أتم الهدوء وفي اتزان الكبير المالئ يده من قوته، وذراعاه الصغيرتان تمسكان بالمجاديف في ثقة وتعملان بلا هوادة..
وكان ممكنا أن تمر ساعة بأكملها قبل أن يقتنع عبد الغني الأستاذ ويسلم بحقيقة ما يراه، ولكن المسألة لم تأخذ وقتا طويلا، فبعد أن حملق من هنا ثم أحكم وضع القبعة وأدلى رأسه على قدر ما استطاع وحملق من هناك، وثني رقبته مرة إلى اليمين ومرات إلى اليسار، بعد هذا كله أغلق عينيه وقال بصوت فيه تأنيب:
– شن فيه يا أميرة؟!.. طربتيني!..
وانتفضت امرأته تقول وغيظها يشتد:
– خيرك خيرك؟؟.. إنتا مش شايف؟!.. شوف يا راجل!..
– بس لو تطولي بالك.. أكيد أبوه وأمه هنا واللا هنا.. إمالا كيف.. الله هيا مش لعبة ؟..مش معقول يا سيدنا الأفندي؟!..
وسيدنا الأفندي الذي توجه إليه عبد الغني بالخطاب لم يكن واحدا وإنما كان كثيرين.. وكان بعضهم قد وقف يتفرج على أميرة وعبد الغني وقد أعجبه مرآهما ثم مضى بعد أن أشبع فضوله.
وكان البعض قد رأى الطفل فعلا فاسترعى الطفل انتباه الجزء الأكبر من تفكيره ثم لما علا صوت أميرة واشتد حماسها بدأ يوزع انتباهه بين الطفل وبين المرأة ذات الزي الغريب والذي كان من صنع يديها، وما تقوله والرجل الذي معها. وكان بعض ثالث قد أخذ الامر على محمل الهزل فمضى يلعق ثوب أميرة، وقبعة عبد الغني وحذاءه، دون اكتراث لما يحدث داخل البحر..
ولم يعدم الأمر أن يكون هناك شخص واحد عاقل راح يتطلع إلى الطفل ويتابع القارب بناظريه وقد امتصه المشهد كله، ولم يتبين أحد إن كان يحدث نفسه أو يرد على عبد الغني الأستاذ حين قال:
– يا سلام!.. أما ناس صحيح!..
وأسرع عبد الغني الأستاذ يلحم الحديث حتى لا ينقطع:
– هادا أكيد جن.. مش معقول يكون إبن بشر..
وردت أصوات تقول:
– أيوه هادا أكيد إبن جن..
وعقبت أصوات أخرى:
أيوه يا سيد صحيح.. هادا مش بشر..
أما أميرة فقد كان همها طول الوقت مركزا في إنقاذ الولد.. فقد كانت متأكدة أنه حالا سيغرق في ذلك البحر الواسع الذي لا قرار له..
ولذلك، وحين لم يسعفها عبد الغني استدارت تقول في إلحاح عصبي ولم تكن تدري لمن تقول:
– الله!.. تحركوا يا جماعة!.. هو ما فيش خير؟!.. باللهي عليكم لو كنتوا رجالا تحركوا..
وكانت الجماعة في شغل عنها بالدوامات الصغيرة من النقاش التي أخذت تلف وتدور حول القارب، والطفل وأبويه ,أحيانا حول لون شعره، والملابس التي يرتديها.. ولمح الأفندي ابن الحلال الواقف أميرة في عصبيتها وذعرها فرمقها بنظرة فيها سخرية متنكرة في ابتسامة رثاء وقال على مهله:
– يا سيدة متخافيش.. هادا الولد بيدهور..
وأسعد الرأي الجديد عبد الغني الأستاذ الذي كان واقفا لا رأي له ولا حول، فانضم إليه في التو، وقال مجيبا على دهشة امرأته واستنكارها:
– أيوه.. صحيح؟.. بيتفسح!!..
وردت أميرة على عجل وهي لا تصدق:
– يا لطيف ألطف ؟؟!.. وأهله سايبينه هكي؟!..
وفي هذه اللحظة تهلل وجه الأفندي إبن الحلال وقد اشتد إعجابه بما يجري وقال وهو يبتسم ويشير إلى الشاطئ الأخر:
– أهم!.. إهم!..
وأقلعت العيون كلها صوب الشاطئ الثاني حتى التقت بشبحين بعيدين ممدودين يرتديان أبيض في أبيض، وفوق رأس أحدهما عمامة خضراء وهما يلوحان بأيديهما، والطفل يلوح لهما هو الأخر بذراعه القصيرة في نشاط وغبطة.
وقال عبد الغني الأستاذ في جذل أبوي:
– أكيد هادم يا عيني أبوه وامه..
وتحدًته أميرة وهي لا تصدق قائلة:
– صحيح هما سايبينه بيتفسح؟!..
فرد عبد الغني الأستاذ وقد أفاق من جذله وأصبح من رأيها:
– إمالا شنو؟!.. مجانين!..
وكانت أميرة تغلي، فليكن الولد في فسحة أو مصيبة ولكن أي أب مجنون هذا؟.. وأي أم غبية تكون هذه؟!.. وكيف يجلس ممدا جسده بينما إبنه يكاد الماء يطبق عليه؟! وكيف تحتمل هذه المرأة أن تلوح بيدها للولد هكذا؟! ألا تستحق بالذمة قطع هذه اليد؟.. أهذه بنغازي وأباء بنغازي وأمهاتها؟..
– تفو على هك أباء وأمهات..
قالتها أميرة وهي تبصق في حقد وشدة محاولة دفع البصقة حتى تصل إلى الشاطئ الأخر، ولكن الريح الطيب تكفل بردها كاملة غير منقوصة إلى وجه عبد الغني الأستاذ.. وفوجئ المسكين، وبهت، ولكن سرعان ما تناول منديله يمسحها، واهتز جسده كله وهو يقهقه ويمزح مع امرأته قائلا:
– خزي عليكي هبلة وما تتحاشميش.. هكي؟!..
واستدارت أميرة دون إكتراث لما حدث ومشت وهي تتمتم:
– قالوا شنوا؟!.. قال بيتفسح!!.. لو كان إبن من أبنائي كنت ذبحته..
وأسرع ورائها عبد الغني الأستاذ محاولا أن يهدئ من ثائرتها ولكن غضبها لم ينفث، وظلت ما تبقى من النهار “قالبة وجهها”..
وعند رجوعها إلى المحطة وعبد الغني الأستاذ جالس يراجع الكشف الذي كتبه بالأشياء الواجب شراؤها من بنغازي قبلما يجيئون، وأميرة تصلي على النبي مرات لتستطيع أن تتذكر شيئا راح عن بالها أن تمليه، وحين يئست من تذكره، قطعت يأسها قائلة:
– أما عجيبة.. صحيح.. اللي يمشي يشوف أكثر..
واستخلص عبد الغني الأستاذ نفسه وألقى نظرة على ركاب الأتوبيس قبل أن يقول وهو لا يزال سارحا بما في الكشف:
شن يلي نشوف فيه هادا؟!..
وأيضا لم ترد عليه، وإنما مضت تحدث نفسها وتقطع الكلمات:
– قال بيتفسح قال!.. يلعن!..
وفي أخر الأتوبيس وهما عائدان إلى القرية مدفونان في زحمته، جاءت جلسة أميرة بجانب عجوز كانت نازلة في سرت.. ولم يكن مستحيلا أن يبدأ الحديث.. وغادرت العجوز الأوتوبيس في سرت وهي الأخرى لا تصدق ما روته جارتها عن الطفل وسنه التي لا تزيد عن الأربع سنوات، والقارب والبحر..
ولما وصلا القرية والليل قد تأخر، وعلمت أن الأولاد قد انتهزوا فرصة غيابها واستحموا كما كانوا يريدون في “الجابيا”، لم تستطع الانتظار فأيقظهم واحدا وراء الأخر، ولهلبت كلا منهم بوابل من الصفعات.. ومع الصباح توافدت النساء يسألنها عن بنغازي وعن شواطئها الجميلة، وعما طلبنه منها ووعدت بإحضاره.. ولم تذكر أميرة من كل زيارتها إلا حكاية المفعوص الذي طوله شبر، والذي كانت أحيانا تقول إنه غرق أمام عينيها، وأحيانا أخرى لا يطاوعها قلبها فتروي أن بحارا أنقذه، وعلى أي الحالين كانت أباه وتسب أمه..
ولم يبرح الولد مخيلتها أسابيع طوالا. أما عن عبد الغني الأستاذ فمع أنه كان ينسى كل ما يمر به من حادثات مهما كانت الحادثات إلا أن هذه الواقعة بالذات كثيرا ما كانت تراوده، وحينئذ كان يتذكر جمال الولد وصفرة شعره وثيابه واطمئنانه وثقته، ويده الصغيرة وهي تدفع المجداف، وفي الحال كانت ترتسم أمامه صورة ابنه الكبير محمد، الداخل بسم الله ما شاء الله على عامه العاشر، ويده الخشنة الماسكة طول اليوم بلقمة العيش المغموسة في العسل الأسود، والعسل يتساقط منها على الأرض وفوق جلبابه وداخل صدره، والذي يضع رأسه خجلا بين فخذيه إذا أقبل ضيف، وما أن يبدأه أحد بالكلام – أي كلام – حتى يتراجع خائفا، قائلا بصوت كمواء القطط:
– يا ماما.. يا ماما..
كانت ترتسم أمامه صورة إبنه فيخطط الدوائر على الدرج الذي أمامه بقطعة الطباشير التي في يده، ويمصمص ضرسه المثقوب بصوت مسموع، ثم يتنهد وهو ينساب في حلم يقظان جميل فيرى محمدا راكبا ذات يوم قاربا وحده عابرا البحر في ملابس بيضاء نظيفة، وقد إستوى شعره ولمع، واحمر وجهه وابيض، وهو غير خائف من الماء، ولا يقيم وزنا للبحر العريض.