“أنثى افتراضية”(1) ليست رواية ماضوية ترحل بالقاريء بعيداً إلى دهاليز التاريخ أو عوالم الأسطورة والأمكنة التاريخية العتيقة القديمة، ولا تحيد عن هذا الزمن المعاصر الذي نعيشه بكل أشكاله ومبتكراته التكنولوجية وما تتبعه من طقوس وسلوكيات، بل هي عكس ذلك تماما حيث تغوص بالقاريء في ثنايا زمنه وعوالمه التقنية والفكرية وتواجهه مع منجزات الراهن الالكترونية من خلال بوابة التواصل الاجتماعي المتباين بين الافتراضي الوهمي والواقعي الحقيقي.
(حاولتَ في خضم هذا الضجيج أن تقنعَ نفسك أن ما حدث محض كابوس، لكن هذه الملامح التي تدور بك على أرض المقهى وأنت تحاول أن تتأملها تنسف كل ظنونك، وتضعك في خندق المواجهة مع الحقيقة المرَّة، هي زوجك ميسون. مفارقة عجيبة أن تكون ميسون الأنثى التي طالما طاردتها باسمك الوهمي عبر عالمك الافتراضي ليزج بها إليك القدر اليوم في المقهى)(2)
يمثل هذا الاقتباس صوت المونولوج الداخلي لأحدى شخصيات الرواية إثر مشهد اللقاء المفاجأة الذي يظهر في خاتمتها بشكل صادم لكل من (مازن) وزوجته (ميسون) فيختصر تماماً فكرة العمل الروائي التي يبعثها الروائي الأردني الدكتور فادي المواج الخضير محمّلة بعدة رسائل اجتماعية وسلوكية للتنبيه على خطورة هذا الفضاء الالكتروني الذي ظل المحور الأبرز والأساس للرواية الممتعة بحواراتها الشيقة العميقة الدلالة والمضمون واللغة.
وحتى إن كانت أجواء الرواية حبلى بهذا الإحساس مسبقاً والذي نكتشفه من خلال صوت أعماق إحدى شخصياتها منذ البداية (لم تكن مطمئناً إلى هذا العالم الافتراضي، كنت تعتقد أنه عالم لا يعرف الحقيقة، عالم مليء بالأقنعة)(3) فإن التبرير العقلاني جاء منتمياً بكل وضوح إلى الواقعي المعاش في هذا العالم من طرف جمهوره وشعبه ومدمنيه وإن تفاوتت غاياتهم واختلفت مستوياتهم الاجتماعية والفكرية (عالم غريب هذا العالم الافتراضي، حوّل الحائط من سبورة لجنون مراهقتنا في أزقة الحي إلى صفحة لخربشات يتساوى فيها المراهقون والكبار)(4)
وتتأسس فكرة الرواية على حوار ثنائي ينطلق في فضاء افتراضي على صفحات الفيسبوك بين شخصيات حقيقية تتخفى وراء أسماء وهمية لتعبّر عمَّا يجوش في أعماقها وتتبادل أفكاراً ورؤى وعبارات دافئة تعزز الترابط الوجداني والعاطفي بينها دون أن تتعرف على حقيقة شخصيتها، وهنا يبرز التشويق الذي استطاع الكاتب أن يوطنه بلغة شاعرية رقراقة تطرح الفكرة العميقة والمضمون الموضوعي الجذاب فتكسب الشخصيات الكثير من الترابط والعلائق فيما بينها من جهة وبين القاريء من جهة أخرى.
ولقد ظل الخطاب السردي طوال هذه الرواية الممتعة متوازناً وموجهاً بشكل أفقي نحو الرجل والمرأة وبصوتيهما معاً عبر حوارات فكرية سلسة وسرد يغوص في الراهن الواقعي، ويستشرف “المابعد” المستقبلي بوعي وإدراك متفطن لبوصلة مسار الأحداث، ومآلها، وانعكاساتها السلبية على الأسرة والمجتمع، وما قد يلحق بهما من خلل سلوكي يجر التصدع والهلاك والخراب دون أن تصرح الرواية بذلك مباشرة. ولذلك نجد أن منطق العلاقات القائمة بين شخصيات الرواية أثناء حواراتها الشيقة محكوم بثنائية (المسموح/الممنوع) اجتماعياً وأخلاقياً والذي كان يتبلور حسب مفاهيم الكاتب وعقلية الراوي وشخصيات الرواية كافة، حتى لحظة الاستفاقة الأخيرة في خاتمتها. وهذا بدوره يجرنا إلى القول بتصنيف العمل ضمن خانة جنس الرواية الاجتماعية التي تتخذ من مشكلات المجتمع وظواهره موضوعاً وهدفاً لنقدها وتعرية سلبياتها ومساوئها من أجل الاصلاح والتقويم والتطوير، وبذلك فإن رواية (أنثى افتراضية) تستجيب تماماً لنداءات المجتمع، وممارسة دورها في تعرية واقعه والمخاطر المحدقة به ونقدها وتحليلها وبالتالي فهي أقرب إلى ممارسة الدور التوعوي والتربوي وإن لم يكن بشكل علني، لأن خصائص العمل الأدبي يرتقي ويتعالى بطبيعته عن التقريرية والمباشرة السطحية ويستعيض عنها بصور وتعبيرات جمالية أكثر بلاغة وتأثيراً، وهذا بالتأكيد يزيد من قيمتها الأدبية والفكرية الإنسانية، خاصة وأن المؤلف اتبع المنهج الوصفي والتحليل النفسي لشخصياته وقد أفلح كثيراً في الاهتداء إلى ما يمكن أن نعده الأسلوب الأساس في البنية الدلالية للعمل الروائي، والذي يعكس تفعيل العقل في البحث عن وعي أو يقين أو طرح حلول للمشاكل الاجتماعية كالبطالة مثلاً أو إيجاد إجابات شافية عن كم الأسئلة العديدة الهائلة التي تطرحها أصوات الرواية المتعددة بدرجات متفاوتة.
وفنياً تقوم الرواية في معظم استهلالات فصولها الخمسة عشرة (غارة عاطفية، انتظار، مصادفة، لقاء، اكسسوارات الموت، السجن، في الصداقة حياة، سيق لا يحتمل اثنين، ذكريات على قيد الهبوب، بوح، قناع، العراف، طاقة زهور، وهم، على قيد الأمل) وداخل متونها أيضاً، على توظيف ما يعرف بالتضمين في النص الابداعي حيث وضعت عتبات استفتاحية لبعض فصولها مقتبسة من كتاب أردنيين وعرب (لؤي أحمد، غسان كنفاني، محمود درويش، دينا الفرة، هناء البواب، هشام قواسمة، ليلى الأطرش، محمد المجلاد الدهامشة، حنان بات، شهلاء العجيلي، ديانا رحيل، أمل دنقل، تيسير رسول) ومختارات أدبية داخلها تنوعت بين الشعر وشذرات منقولة من روايات وقصائد شعرية (غادة السمان، غسان كنفاني، مي زيادة، جبران خليل جبران، نزار قباني) ومصادر أخرى غيرها. وهذا بلا شك يعد أحد السمات التي تدلل على تعدد أنماط البناء الفني في هيكل الرواية وتثري مضمونها وتعزز فكرتها بما أورده غيرها في إصداراتهم ويتفق مع نفس سياقها الموضوعي.
وطالما أن اللغة هي الوسيلة الأكثر أهمية وأداة المبدع الرئيسية لممارسة فن الكتابة السردية فهي بلا شك إحدى العناصر الفنية الأساسية التي يتم بها تقييم العمل الإبداعي الروائي، وحولها يقول الأديب الكبير الروائي نجيب محفوظ (أتوخى عادة السهولة واليسر، لأنه لا معنى إطلاقا لأن نحمل القارئ مسؤولية إضافية في فهم غرائب اللغة)(5)، وبنفس هذه الرؤية الارشادية تميزت اللغة الروائية في (أنثى افتراضية) إجمالاً ببساطة الجمع بين الواقعي والتخيلي لمحاولة إيهام القاريء بمكونات أحداث الرواية وإقناعه بمجرياتها باستخدام كلماتها وعباراتها المكتسية سمات البنية اللغوية الواضحة الخالية من الصيغ الغامضة أو المفردات الغارقة في الغرائبية، فظلت لغتها بسيطة المفردة وسهلة التركيب والفهم، منتقاة بكل عناية ودقة سواء في الأسلوب السردي أو الوصفي أو حوارات الشخصيات المختلفة، مكتظة بالموسيقى الايقاعية الخافتة المنبعثة من رحم المفردة المتراقصة بكل دلال في تناغم مثير مع المضامين التي تطرحها على القاريء أو تحاجج بها المتحاورين بشتى مستوياتهم. وقد أضافت اللغة بحيويتها وديناميكيتها الكثير من الإثراء لشكل ومضمون البناء الفني وأسلوب الرواية بشكل عام والذي تعزز بتقنيات الاسترجاع الماضوي والتضمين لمفردات تكنولوجية حديثة، والاقتباس من النص القرآني والأعمال الأدبية والفكرية المتعددة، والإحالة إلى الكثير من المواقف والأحداث وإعادة استذكارها في النص السردي أو التلميح إليها، واستطاع المؤلف الدكتور فادي المواج الخضير توظيف كل هذه العناصر بدرجة عالية من الإتقان فأكسب بها روايته غزارة لغوية ومعرفية، وتمكن بفطنته وبراعته أن يجذب ويسيطر على وجدان وفكر القاريء بكل هدوء وأريحية. وبدقة وتفصيل أكثر فإن العنصر الأساسي الذي أسهم في الارتقاء بمستوى التشويق والجاذبية والتعلق بشكل كبير وملحوظ في هذه الرواية هي عذوبة المفردة اللفظية بدلالاتها الواضحة وسلاستها الشاعرية التي كتبت بها وطرزها المؤلف بعبارات متراقصة زاخرة بالموسيقى الخفية والصريحة والإيقاع السجعي حد الافتنان، مؤكداً ثراء قاموسه اللغوي وسعة ما يكتنزه من ذخائر ثمينة وتوجهات فكرية مستنيرة سواء على صعيد الكلمة التعبيرية الدقيقة أو الأسلوب الوصفي والدلالي الخلاب، وهو ما يجعل رواية (أنثى افتراضية) تستحق كثيراً شهادة الشاعر العربي الراحل نزار قباني حول رواية “ذاكرة الجسد” للكاتبة أحلام مستغانمي حين سجل اعترافه على غلافها الخلفي قائلاً (الرواية قصيدة مكتوبة على كل البحور.. ولو أن أحداً طلب مني أن أوقِّع اسمِّي تحت هذه الرواية الاستثنائية المغتسلة بأمطار الشعر لما ترددتُ لحظةً واحدة)(6).
وإضافة إلى اللغة الشعرية فقد تهيأت لنجاح رواية (أنثى افتراضية) عدة عناصر أخرى أجاد الكاتب توظيفها بجدارة لعل أهمها- كما أشرت- هو الموضوع الحداثوي المستجد الذي تناولته الرواية وفكرتها المعاصرة المتأسسة على تطورات الشأن التقني والفضاء الالكتروني الذي صرنا يومياً نشهده غزواً فكرياً ناعماً، ومؤثراً سلوكياً خطيراً في عقول الشباب خاصة، وشرائح اجتماعية عديدة أخرى في هذا الزمن الراهن. ومن بين عناصر النجاح الأخرى شخصياتُ الرواية نفسها والتي كانت معظمها متقاربة من حيث أهمية حضورها ودورها داخل الفضاء الروائي، بمعنى أنه لا يمكن تقسيمها إلى شخصيات ثانوية فرعية، وأخرى رئيسية أساسية، أو شخصية فردية واحدة تستحوذ على البطولة المطلقة، بل نجد الكاتب قد صمم روايته بأسلوب “البطولة الجماعية” المشتركة واعتمد على جميع شخصياته، وإن تفاوت مستواها نسبياً، بهدف ترسيخ فكرة عمله الروائي، حتى وإن ظهر بعضها في صورة شخصيات مأزومة فكريا واجتماعياً تعيش عالمها الداخلي أكثر مما تعيش واقعها الحقيقي الذي ترفضه وتبحث عن بديل غيره وإن كان افتراضياً.
ولا شك بأن صناعة الشخصية السردية وتقديمها للقاريء يتم من خلال أسلوبين أولهما “المباشر” عن طريق الشخصية نفسها والثاني “غير المباشر” عن طريق الراوي(7)، وفي (أنثى افتراضية) لم يكتفي الدكتور فادي المواج الخضير باختيار “الراوي” فحسب لينوب عنه في نقل فكرة روايته للقاريء، بل ذهب إلى أبعد من ذلك حين تعددت وتداخلت شخصيات الرواي نفسه وانقسمت بين صوته التعبيري وصوت المونولوج الداخلي لكل من الشخصية الفعلية بالرواية، وقرينتها الأخرى الوهمية التي تستوطن فضاء الفيسبوك الافتراضي. ولقد برع المؤلف كثيراً في تحريك كل تلك الشخصيات بأصواتها المتعددة والمختلفة سواء المعارضة أو المؤيدة، واستطاع أن ينسج منها صوتاً مشتركاً دون إخلال بتوازن فكرة النص الروائي. فشخصيات الرواية الأبرز (ربيع) المتخفي داخل الفضاء الافتراضي تحت اسم وهمي (زاهر) والسيدة (أمل) المتخفية تحت اسم (أم سبأ) تارة و(أسيرة البستان) تارة أخرى وكذلك (مازن) و(الدكتور) تارة و(العرّاف) تارة أخرى، وزوجته (ميسون) المتوارية خلف (سناء) كانو يتبادلون مواضيع وحوارات الكترونية تظهر فراغهم العاطفي والفكري وعطشهم وشوقهم للآخر بصوره المرتسمة في مخيلتهم حتى وإن كان وهمياً، وقد ظلت شخصياتهم وأدوارهم في الرواية مقنعة جداً بكل ما أسبغه عليهم المؤلف من فيوض فكرية ومشاعر وجدانية وملامح جسمانية توطن صورتهم في ذهن القاريء. ولاشك فإن هذا التعدد أو التداخل في شخصيات الرواية التي قد تصل إلى خمسة شخصيات مجتمعة، يمكن تمثيلها في (أنثى افتراضية) بشخصيتي (ربيع) و(زاهر) وصوت المونولوج الداخلي لكل منهما، بالإضافة الى صوت الراوي، ثم شخصية كاتب الرواية نفسه يؤكد لنا بأن (.. الروائي عندما يكتب رواية فهو يخلق كوناً اجتماعياً، وأن هذا الكون يجب أن يكون متخيلاً أو من بنات أفكاره كما يقال، فهو يتصرف فيه بحرية إلى حد ما، فهو بهذا المقياس عالم ينتمي إليه، فالعلاقة هنا بين الكاتب “المبدع” وبين ما يبدعه هي علاقة الصانع بما يصنعه، وعلى هذا فالواقع الاجتماعي الموجود في الرواية هو كون متخيل، ينطلق أساساً من فكر مبدعه، وينتمي إليه…)(8) ونتيجة هذا التوافق الكبير حد التوحد الفكري بين الشخصية ذاتها وفكرة الرواية برع المؤلف في صياغة وترتيب حوارات وتحريك شخصياته على مسرح الأحداث بشكل مقنع جداً لقارئه.
وإضافة إلى الحبكة القصصية أفرز أسلوب السرد في الرواية عدداً من المفاهيم والدلالات التي نتبينها من (أنثى افتراضية) فظهرت متنوعة في طابعها الفكري والعاطفي والسلوكي، ولهذا فإن مجموعة المفاهيم التي تعرض نفسها بصوت أغلب شخصياتها تجعل من الرواية تبدو حاضرة كصوت توعوي بشكل أو بآخر يقدم العديد من المضامين والمعلومات والتعريفات لمفاهيم (الموت، الصمت، المعاملة المتطورة، البدايات، الوجوه التعبيرية، الحياة والقدر، العمر، الكتابة، المذكرات، الزواج، الزوجية، الذكريات، الابتسامة، الحمل … وغيرها) والتي ورد بعضها كالتالي: (الصمتُ في بعض المواقف أنكى من الردود مهما كانت موجعة. لا أحد يستطيع أن يؤكد أننا لا نتكلم عندما نصمت)(9). أما المعاملة المتطورة فإن (أقل فروض المعاملة بالمثل في هذا العالم الافتراضي الغريب أن يرد الصديق نكزة صديقه، كنا نرد الزيارة بزيارة، والوليمة بوليمة، اليوم نرد النكزة بنكزة والإعجاب بإعجاب، ونرد صورة وجبة شهية بصورة وجبة أشهى. مثل طاقات زهور صناعية هي وجباتنا الافتراضية، للتأمل فقط، لا رائحة لها)(10). كما جاء دور رسومات الوجوه الرمزية التعبيرية التي تستخدم أثناء محادثات مواقع التواصل الاجتماعي الالكتروني ووظيفتها بأنها (تنتشلنا من مأزق عقوق الكلمات، نتوكأ عليها عندما نشعر بعجزنا على الكلام فنزج من خلالها مشاعرنا المعلبة مهما كانت خرساء)(11) . أما الحياة والأقدار فإنها (أقدارنا، تعصب على أعيننا فنمضي معها طائعين إلى حيث لا نعي سوى وقع خطانا، خطانا الشاهد الوحيد على أننا نمتثل لأوامر القدر قبل أن يترك الزمن أثاره على وجناتنا وجراحه في الوجدان)(12). أما مفهوم الكتابة فقد تناولته الرواية مرتين: (الكتابة دليل قاطع على وجودي على قيد الحياة في مكان مخصص لموتى على قيدها. أن نكتب يعني أن أزاول الحياة، قلمي وأفكاري وحدها من تمنحني شهادة المزاولة)(13)، وكذلك (الكتابة لحظة مخاض تلجيء الأديب إلى جذع روحه، تتكاثر على روحه الأفكار والصور فيشعر بغثيان، غثيانه أول أعراض البوح، يحتاج للتداوي منه فيتعالج بالكتابة، تتمخض روحه فتلد أفكاره بناتها)(14). وبالنسبة للوقت الحاضر فإنه (غصة في حلق الزمن، فاصلة منقوطة بين ماض أليم وقادم مجهول، فاصلة لا يمكن تجاوزها، ولا عبورها دون تذاكر الماضي)(15). بينما الذكريات فهي عبارة عن (لحظات خارجة على قانون الموت، هي تغفو لكنها لا تموت، موقف واحد كفيل باستعادتها من مستودعات الذاكرة)(16)، أما وظيفة المذكرات فإنها (تمكننا من الإنحناء للوراء، نعيد استحضار شيء من ماضينا)(17). كما نجد الفرق بين مفهوم الزاوج والزوجية (الزواج سيف يقسم حياتنا نصفين، نصفاً قبله، ونصفاً بعده)(18) و(الزوجية ليست أكلاً وشرباً ونوماً، الأنثى تحتاج دفئاً روحياً، تحريكاً لهذه الروح، تحتاج أن يعريها الزوج للشمس، يخرجها من صقيعها، يروي بتلاتها لتنمو على حروفه وكلماته، يحررها من وطأة الجفاف)(19) وكذلك (عذرية المرأة ليست فسيولوجية فحسب، ثمة عذرية روحية، هذا الغائب استطاع أن يفض عذرية روحي)(20)، أما الإبتسامة فهي (مسحوق تجميل لأوجاعنا، وجه جميل لفنجان قهوة مُرَّة، نقاب يغري ويخفي خلفه دمامة الوجوه)(21). وإن ظلت معظم هذه المفاهيم تشكل حالة وعي وإحساس وجداني متعمق غالباً، وعلى نحو محدد نسبياً تجاه الأنثى/ المرأة الحقيقية أو الافتراضية على حد سواء، باعتبار أنها فحوى الرواية ووجه عنوانها الصريح (أنثى افتراضية) فإنه يمكن إسقاط معظم هذه المفاهيم على الجنسين معاً لكونهما ينتميان إلى عوالم إنسانية واحدة ويتشاركان في المشاعر والأحاسيس والعديد من الأهداف النبيلة على الصعيد الشخصي أو العام، كما أن اللغة البلاغية العميقة والمكثفة لهذه المفاهيم تعكس الكثير من الرؤى والدلالات التي يرسلها الروائي بصوت شخصياته ليوضح بها، ربما، العديد من المباديء الفكرية التي يعتنقها والفضاءات والأنماط الحيايتية التي ينتمي إليها أو تسجيل ملاحظاته وانطباعاته من التجارب الشخصية التي مر بها في حياته.
ولم يغفل الدكتور فادي المواج الخضير الاستعانة بكل تقنيات السرد لإنجاز مولوده الروائي الأول وإظهاره في حلة آسرة جذابة مطرزة بجماليات عديدة، لذلك نجده تفنن كثيراً في طرح أسئلته المتوالدة والمتواصلة المتأسسة حول المعرفة والمجادلة لإدارة محركات حواراته الممتعة بكل اقتدار وإطلاقها على ألسنة جميع شخصيات الرواية منذ الظهور المبكر للسؤال الأول في مستهلها:
(كانت تفتش صفحتك بعينيها لحظة ألقيتَ على بصرها سؤالك:
– من أي نهر تشربين؟ …)(22)
لتتهاطل إثره بكل غزارة سيول الأسئلة المفتوحة والمغلقة على حد سواء بكل أدوات الاستفهام المكانية والزمنية وغيرها التي يتبادلها السائل والمجيب في ديناميكية تثير الكثير من المسائل وتبحر في براح فضاءات لا حدود لها فتنسج علاقة بين طرفين متواصلين الكترونياً عن بعد من جهة، وترسم صورة لهما في ذهن القاريء كما صممها الكاتب في سيناريو روايته بكل ما ضمنها من ملامح جسدية ومعارف فكرية ومشاعر وأحاسيس قلبية، مما جعل الحوار في (أنثى افتراضية) ليس بريئاً أو محايداً أو منفصلاً عن كامل الرواية، بل هو عصبها الأساسي في التفاعل بين ثلاثية الكاتب والشخصيات والقاريء وقد أدى دوره الوظيفي الفني بكل ما تناوله من إجابات مطاطية ومراوغة واستدراج وهروب ومجاملة وابتعاد عن الحقيقة وهروب من الواقع.
ولكن لو حاولنا من خلال كل تلك الحوارات الممتعة والتقنيات الفنية والأساليب السردية التي أجادها مبدع الرواية، استشفاف أو معرفة هوية (أنثى افتراضية) الأردنية العربية وتحديدها بدقة لواجهتنا الكثير من الصعوبات لاكتشاف أو تبيان ذلك، حتى وإن ظهر مسمى المكان الجغرافي صريحاً في الرواية بشكل عابر ممثلاً في (العقبة، عمان، البترا) في بعض ثنايا السرد، إلاّ أن الفضاء الروائي كمعنى شمولي كان أكثر اتساعاً وأرحب مجالاً في هذا العمل ويتجاوز بعيداً إشارات وحدود الجغرافيا الضيقة، وبالتالي فإن (أنثى افتراضية) مثلما تجاوزت أزمنة الماضي البعيد، فهي لا تحمل هوية وطنية أو مكانية معينة وإنما تظل بوحاً إنسانياً دلالياً عميقاً واسعاً لا يحده المكان ولا يسعه الموقع الجغرافي الواحد، وإنما يصلح لأن يستوطن أماكن عديدة أخرى بشخصيات مشابهة، وهذا بالتأكيد يمنح الرواية قيمة إضافية تجعلها أكثر حضوراً في المشهد الإنساني وقبولاً وانتشاراً على الأصعدة كافة.
وأخيراً حتى وإن تناول أدباء أخرون هذا العالم الافتراضي وتأثيراته على الحياة الاجتماعية والانتاج الابداعي والذي سمّاه الأديب الجزائري واسيني الأعرج “الفضاء الأزرق” فإن عالم رواية (أنثى افتراضية) للدكتور فادي المواج الخضير جاء متجانساً تماماً مع فكرته، بل يكاد يتماهى أحياناً في بعض أحداثه ومواقفه حد الاستنساخ الواقعي لصور حياتية جديرة بالالتقاط والتوثيق المعالج بتصرف إبداعي مقنع موضوعياً وتقنياً من خلال توظيف العديد من العناصر الفنية الحديثة والمتطورة التي تجاوزت الأسلوب النمطي التقليدي والاستفادة من الأجناس الأدبية الأخرى التي استعارت منها بعض الاقتباسات المعززة للرواية المتسمة بالقيمة الإنسانية في مضامينها السردية. كما أنه استطاع استنطاق عدة أصوات مختلفة لبعض شخصياته الروائية الواحدة في نفس الوقت، وهو ما يعزز التأكيد على قدراته وإمكانياته الأسلوبية في الإقناع والتشويق والحكي المترابط في فضاء زمني ومكاني متماسك لصياغة هوية رواية تستمد فكرتها من الحياة اليومية وصور واقعها وتجاربها المعيشية إيماناً بأن التجارب والمواقف الإنسانية أشبه بالقصة، فمن خلال التركيب السردي تظهر الفردية والهوية(23) التي ربما تتجاوز أطارها الزماني والمكاني مثل هذا العمل. وفي كل الأحوال فإن (أنثى افتراضية) تمثل إضافة للأعمال الروائية الأردنية والعربية وتحتفظ بريادتها وسبقها في تناول الفضاء الالكتروني على الصعيد الأردني وربما العربي، وتصوير ثنايا تفاصيله بجدارة، وقرع أجراس الإنذار والتحذير من العواقب الاجتماعية التي قد تنجر عن بعض السلوكيات الناشئة تبعاً له.
أما بالنسبة لي شخصياً، فحين استلمتُ نسختي من رواية (أنثى افتراضية) ممهورة بإهداء كريم من مبدعها الدكتور فادي المواج الخضير يقول فيه (أضع أنثاي بين يديك) أرتبكت كثيراً أمام هذه المسئولية التي حملنيها، ولكني بعد قراءتها أيقنتُ أنه طالما أن هذا العمل الروائي الأول قد ظهر بهذا المستوى الرائع جداً والرفيع الممتع، فإنه يؤكد تجاوز الروائي لمرحلة البدايات المتعثرة، ويبشر بأن قدراته وإمكانياته الإبداعية اللغوية التعبيرية والتخيلية الخلابة الواسعة قادرة على اقتناص العديد من الأفكار الجرئية والجديدة الأخرى، وطرحها بأسلوب لن يعوزه الإقناع والإمتاع والإبهار، وأيضاً لأنني على يقين وتوافق تام معه حين تسأل على لسان إحدى شخصياته الروائية (هل رأيت أنثى تقول كل ما تريد؟)(24) لأوكد بأنه لازال هناك الكثير من الإبداع السردي والروائي الذي لم يظهر بعد، ونظل نحن نترقبه بكل شغف ولهفة من مبدع الأنثى لإيماننا بأنه قادر على إبداع غيرها.
_______________________________________________________
(1) أنثى افتراضية، فادي المواج الخضير، دار فضاءات للنشر، عمان – الأردن، الطبعة الأولى، 2016
(2) انثى افتراضية، ص 266
(3) المصدر السابق، ص 24
(4) المصدر السابق، ص 49
(5) مواقف اجتماعية وسياسية في أدب نجيب محفوظ، د. ابراهيم الشيخ، مكتبة الشروق، القاهرة،، ط3، سنة 1987، ص 442
(6) ذاكرة الجسد، أحلام مستغانمي، منشورات أحلام مستغانمي، بيروت – لبنان، الطبعة العشرون، 2004
(7) غواية السرد قراءات تطبيقية في الرواية والقصة القصيرة، د. محمد السيد إسماعيل، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2012، ص 39
(8) الرواية الليبية مقاربة اجتماعية، د. محمد علي برهانة، منشورات جامعة التحدي سرت، ليبيا، الطبعة الأولى، 2009، ج2، ص 267-268
(9) أنثى افتراضية، ص 53
(10) المصدر السابق، ص 54-55
(11) المصدر السابق، ص 83
(12) المصدر السابق، ص 100
(13) المصدر السابق، ص 126
(14) المصدر السابق، ص 136
(15) المصدر السابق، ص 181
(16) المصدر السابق، ص 205
(17) المصدر السابق، ص 132
(18) المصدر السابق، ص 188
(19) المصدر السابق، ص 193-194
(20) المصدر السابق، ص 215
(21) المصدر السابق، ص 226
(22) المصدر السابق نفسه، ص 24
(23) البناء النقدي في الرواية الليبية، د. فاطمة سالم الحاجي، منشورات المؤسسة العامة للثقافة، ليبيا، الطبعة الأولى، 2010، ص 394
(24) أنثى افتراضية، ص 110