خالد خميس السَّحاتي
وَحْــدَهُ كـَـانَ يَجْلِسُ مُشَتَّتاً مُنْكَسِراً فِي غُرْفَةِ الضُّيُوفِ بَيْنَمَا زَوْجَتُهُ وَطِفْلَيْهِ فِي الْغُرْفَةِ الْمُجَاوِرَةِ يَتَنَاوَلُونَ طَعَامَ الْغَدَاءِ، بَدَتِ الْغُرْفَةُ الَّتِي يَجْلِسُ فِيهَا فِي حَـالَةٍ يُرْثَى لَهَا، أَوْرَاقٌ مُكَوَّمَةٌ هُنَا، وَسَجَــائِرُ مَرْمِيَّةٌ هُنَـاكَ، وَفَوْضَى عَـارِمَةٌ لَمْ يَشْهَدِ الْمَكَانُ لَهَا مَثِيلاً مِنْ قَبْلُ.
بُحَّ صَوْتُ الزَّوْجَةِ وَهِيَ تُنَادِيهِ لِيَتَنََاوَلَ طَعَامَهُ دُونَ جَدْوَى، فَقَدْ أَنْسَاهُ ذَاكَ الْهَمُّ الْمُنَغِّصُ الَّذِي يَنُوءُ بِحَمْلِهِ طَعْمَ الرَّاحَةِ وَالأَكْلِ، وَحَتَّى النَّوْمِ .. أَمْسَــكَ الْقَـلَمَ الْقُرْمُزِيَّ الْقَدِيمَ، تَأَمَّلَهُ بِعِنَايَةٍ، وَأَعَــادَ حِسَابَاتِهِ مِنْ جَــدِيدٍ، قَـلَّبَ صَفَحَاتِ ذَاكِرَتِهِ الْمُهْتَرِأَةِ، بَحَثَ فِي أَوْرَاقِهِ الْمُبَعْثَرَةِ، غَرِقَ فِي بُحُـورِ الْوَحْشَةِ الْمُمْتَــدَّةِ إِلَى مَا لاَ نِهَــايَةٍ..
تَأَبَّطَ ذِرَاعَ الْوَهْمِ الْمُـرْتَعِشِ، عَـلِـقَ فِي دَائِرَةٍ مُغْلَقَةٍ لاَ مَخْرَجَ مِنْهَا، بَدَا وَحِيداً كَكَائِنٍ تَائِهٍ فِي كَوَاكِبِ النِّسْيَانِ الْبَعِيدَةِ، تَسَـاءَلَ عَنْ جَدْوَى هَذِهِ اللَّحْظَاتِ الْبَاقِيَةِ، وَعَنْ قِيمَةِ الْحَيَاةِ كُلِّهَا دُونَ رَفِيقٍ يُخَفِّفُ عَنْهُ وَعْثَاءَ السَّـفَـرِ، بَعْدَ أَنْ تَشَتَّتَ شَمْلُ صَحْبِهِ عِنْدَ أَوَّلِ مَحَطَّةٍ تَوَقَّفَ فِيهَا قِطَارُ الزَّمَنِ، ضَاعَتِ التَّـذَاكِرُ وَبِطَاقََاتُ الْحَجْزِ وَالْهَوِيَّةِ فِي شَوَاطِئِ الْغُرْبَةِ، وَتَبَدَّدَتْ أَحْلاَمُ الصِّبَا وَالشَّبَابِ فِي مُسْتَنْقَعِ الضَّيَاعِ، عِنْدَمَا قُطِعَ عَنْهَا إِكْسِيرُ الْحَيَاةِ، وَتُرِكَتْ مَرْمِيَّةً هُنَاكَ عِنْدَ مُفْتَرَقِ الطُّـرُقِ لاَ يَأْبَهُ أَحَدٌ بِهَا، وَلاَ يُكَلِّفُ نَفْسَهُ حَتَّى بِإِلْقَاءِ نَظْرَةٍ عَلَيْهَا، أَوْ إِسْدَالِ تُرَابِ الْخَيْبَةِ عَلَى رُفَاتِهَا. ذَهَبَتْ وُعُودُ الأَصْدِقَاءِ وَأَصْوَاتُهُمْ وَنِكَاتُهُمْ وَأُمْنِيَاتُهُمْ أَدْرَاجَ الرِّيَاحِ، وَلَمْ يَعُدْ أَحَدٌ يَسْأَلُ عَنْ أَحَدٍ، تَسَـــرَّبَتْ صُوَرُ الْمَاضِي البَاهِتَةِ إِلَى نَوَافِذِ ذَاكِرَتِهِ الَّتِي نَسِي أَنْ يُغْلِقَهَا قَبْلَ أَنْ يُطِلَّ عَلَيْهَا اللَّيْلُ بِظَلاَمِهِ الْحَالِكِ، تَشَابَكَتْ خَوَاطِرُهُ الْمُشَوَّشَةُ، وَتَرَاشَقََتْ بِحَبَّاتِ الْوَهْمِ الْقَاتِل، فَاخْتَلَطَ الْحَابِلُ بِالنَّابِلِ.
دَخَـلَتْ زَوْجَتُهُ إِلَى الْغُــرْفَةِ، هَــالَهَا مَا آلَـتْ إِلَيْـهِ، صَرَخَتْ فِي وَجْـهِهِ: مَـا الّـَذِي فَعَـلْتَهُ؟! مُنْـذُ الصَّبَاحِ الْبَاكِــرِ وَأَنَا أُرَتِّبُ الْبَيْتَ، إِلَى مَتَى لاَ تُبَــالِي بِتَعَبِي، وَتَتَجَـاهَلُهُ بِدَمٍ بَـارِدٍ؟.
بَعْدَ لَحَـظََاتٍ قَلِيلَةٍ هــَدَأَتْ تِلْكَ الزَّوْبَعَةُ الَّتِي أَثَارَتْهَا، وَعَادَ الْجَوُّ إِلَى صَفَائِهِ، جَلَسَتْ بِجَانِبِهِ، رَمَقَتْهُ بِنَظْرَةٍ عَابِرَةٍ، نَـدِمَتْ.. تَلَعْثَمَتْ.. تَضَـاءَلَتْ حَتَّى التَّمَاهِي، بَحَـثَتْ لِنَفْسِهَا عَنْ مَخْرَجٍ.. تَذَكَّرَتْ شَيْئاً ثُمَّ قَالَتْ فِي هُدُوءٍ: كَفَاكَ طَرْقاً لأَبْوَابِ الْمَاضِي! عِنْـدَهَا أَمْـسَـكَ الأَوْرَاقَ، وَتَعَمَّدَ أَنْ يَصْرِفَ بَصَرَهُ عَنْهَا، وَ دُونَ سَابِقِ إِنْذَارٍ شَتَّتَ شَمْلَهَا، وَ قَطَّعَ أَوْصَالَهَا بِحُـرْقَةٍ، هَـرَبَتِ الْحُرُوفُ وَ الْكَلِمَاتُ وَ الأَرْقَامُ مِنَ النَّـافِذَةِ، وَخَرَّ دِفْئُهَا مَغْشِــيّاً عَلَيْهِ، بَدَا الْقَلَمُ الْقُرْمُــزِيُّ وَجِـــلاً، فَكَسَّــرَهُ بِحُنْقٍ شَدِيدٍ .. وَقَــامَ مُسْــرِعاً دُونَ أَنْ يَنْطِــقَ بِبِنْتِ شَفَةٍ.. ثُمَّ خَرَجَ بَاحِثاً عَنْ جَزِيرَةٍ نَائِيَةٍ يَرْسُو مَرْكَبُهُ الْمُحَطَّمُ عَلَيْهَا .. فَمَا لَبِثَتْ شُطْئَانُ الْغُــرْبَةِ تَدْعُوهُ لِسَبْرِ أَغْوَارِهَا مِنْ جَدِيدٍ.. تَوَقَّفَ بُرْهَةً، تَذَكَّرَ طِفْلَيْهِ اللَّذَيْنِ عَـبَـقَ أَرِيـجُ حُبِّهِمَا فِي قَلْبِهِ فَجْأَةً، كَزَهْرَتَيْنِ تَفَتَّحَتَا لِتَوِّهِمَا فِي خَرِبَةٍ عَتِيقَةٍ مُلَطَّخَةٍ بِلََوْنِ الرَّمَادِ، ابْتَسَــمَ بِأَلَمٍ، ثُمَّ غَــادَرَ إِلَى هُنَاكَ حَيْثُ لاَ تَعْبَثُ أَمْوَاجُ التَّشَظِّي بِقَــوَارِبِ الْكَــادِحِينَ.
بنغــازي/ ليبيا