مع الساعة الرابعة و27 دقيقة من عصر الأحد الموافق 21 أغسطس، قام أهالي وسعاية باب بن غشير بانتفاضتهم العلنية الشاملة الثالثة، في وضح النهار، بدأوا بالتكبير تبعتها هتافات تنادي بإسقاط المسخ: … برا … خلاص … معاش فيها، و … معليشي … شفشوفة! بعد 11 دقيقة سارع بعضهم إلى داخل جامعهم، وما هي إلا دقائق حتى عرف الجميع السبب، بدأت مصاديح مئذنة الجامع الأربعة تصدح بالتكبير، كان تكبير العيد الذي اعتادته مآذن طرابلس، كان مثله قد بدأ من جهة شارع بن عاشور مساء اليوم السابق، ثم سرعان ما انتقلت العدوى إلى جامع الفواتير القريب، جامع تقسيم البطاطا المجاور للجهة الجنوبية لباب بن غشير، كما استمرت الهتافات المنادية بسقوط المسخ خلف المئذنة التي وقفت أمامهم وكأنها درع حامٍ، ثم تقدم الشباب أكثر في الزقاق الجانبي قاصدين الوصول إلى الشارع الرئيس أمام الجامع، القادم من وسط المدينة والذاهب إلى الحي المجاور: حي دمشق، دون أن يتوقفوا عن الهتافات، وحينما هرول بعض من شباب الشارع المقابل نحو الجامع للانضمام إلى باقي أبناء الحي فوجؤوا بابن شارعهم ذاته “حفيض” يُشهر عليهم بندقية، آمراً إياهم بكلمة مختصرة جداً بعدم التكبير!
فاجأهم تسلحه السري ولم يفاجئهم تصرفه، إذ كان معروفاً عندهم بعدد من أدنى السلوكيات: صوت قبيح يصيح على الدوام، ضحكة غريبة قبيحة تخترق الآذان صباح مساء، ومُدمر جيد لسيارات أسرته، لا ثقافة ولا أي هواية، لكنه كان يحظى بحماية أخيه الأكبر الذي يزعم منذ سنوات بأنه من “حرس المسخ”، كانوا موقنين أنه ضابط صف في إحدى الأجهزة الأمنية، إلا أنهم لا يدرون في أي مناسبة تم تصوير تلك الصورة الكبيرة المعلقة في مكان بارز في غرفة استقبال الضيوف ببيتهم، التي تجمعه – صحبة عدد من الجنود – بالمسخ ذاته، أما طوال أيام الثورة، فلم يدخر جهداً لإثبات أنه من أزلامه، كم تستر بالليل ليطلق أعيرة نارية من بندقيته وهو في قلب الشارع، كما أنه خرج في قمة سعادته بعد انقطاع طويل مرتين سجلهما له تاريخ الشارع، مرة فجراً حينما زعمت اللا مصراتية أنه تم تحرير بنغازي والبيضاء وطبرق دفعة واحدة! ذلك الفجر الذي سمع فيه أهل الشارع أعيرة نارية متصلة من جهة باب العزيزية وتبين فيما بعد أنها استهدفت منشقين من كتيبة المقريف المكلفة بأمن المسخ، ومرة حينما زعم اللا شاكير بأن مصراته ذاتها قد تحررت بكاملها! في المرتين خرج أخوه الأكبر ببندقيته بعد طول صمت وأطلق عدة أعيرة نارية في الجو من أمام بيته قاصداً جاره الساكن أمامه مباشرة المعروف وأسرته بمعارضته الحازمة للمسخ، فسمعه جيداً في ذلك اليوم يتحداه في الخروج بأعلى صوته! وحينما كشفت له الساعات التالية كذب ما صَدَّق اختفى تماماً من الشارع، تاركاً الكلمة الأخيرة لأخيه حفيض.
فجأة، ومع الساعة 04:40 دقيقة سمع الجميع إطلاق رصاص منفرد لم يَدْر أحد مصدره في البداية، بعد دقائق تبين شيء في الأفق، يبدو أن كل هذا التكبير قد جذب دورية قريبة لأزلام المسخ (لِمَ لا والمئذنة لا تبعد سوى كيلومترين ونصف عن باب العزيزية ذاته)، اقتربت الدورية من الجمع، كانت عبارة عن صَبِيَّيْن في سيارة تويوتا بيضاء نصف نقل، تحمل أمتعة شخصية من بطاطين ومراتب نوم مغطاة بمشمع عسكري بالٍ، رد الثوار فوراً عليهما: تعالا … تعالا! أتبعوها بجملة: رَوَّح رَوَّح يا ب…ل، ليتبعه تهديد شجاع لم يَحْسب لسلاحهما أي حساب: باهي باهي توا يبانلك! وما كان رد الدورية إلا صليات رصاص متقطعة بدا واضحاً أنها كانت في البداية تستهدف إرجاع الثوار إلى الخلف، فرجعوا فعلاً رجوعاً بسيطاً احتموا فيه بزقاقهم خلف الجامع، لكنهم زادوا بعدها من نبرة تكبيرهم إلى أقصى حد، بعضهم ممن لم يتعود هذا التكبير انطلقت عقدة لسانه فجأة وبدا أن حنجرته تتحمل فوق طاقتها، ثم تحول الثوار إلى مرحلة جديدة في المقاومة: “الرمي بالحجارة!” انهالوا على الدورية بكل ما استطاعوا الوصول إليه من حجارة شارعهم، مجموعة ترمي، ثم تنسحب سريعاً إلى الخلف تاركة المجال لمجموعة غيرها أمامها! أطفال على سطح البيت خلف الجامع مباشرة ساهموا خفية في وابل الحجارة هذا من أعلى منزلهم، في الأسفل استمرت طلبات الثوار الاستفزازية: تعالا يا ك.. ب!
مع 4:43 تغير صوت الرصاصات المنطلقة، وتبين أن السبب هو أنها كانت تصطدم بجدار أسمنتي، صبيا التويوتا لاحظا الأطفال من أعلى بيتهم خلف الجامع فوجها نيرانهما نحوهم، فأصابت مشربياته الثلاث حتى تصاعد غبار كثيف من كل حفرة حفرتها رصاصاتهم فيهم، بدا واضحاً أنهما كانا يتعمدان قتل هؤلاء الأطفال، رصاص ضد حجارة أطفال، معادلة رَسَمَتْ بدقة أيقونة تحرير كل الوطن، مع 4:46 ينتهك هذين الصبيين مدخل الجامع، ثم يقبض أحدهما على ناقل الصوت ويصرخ فيه حرفياً:
أُقضوا عالجرذان متخافوش منهم …
أَمْنوا شوارعكم يا ناس هاديما كمشة فروخ متخافوش منهم …
حني رجال القوات المسلحة متخافوش منهم …
حني رجال معمر …
متخافوش منهم أطلعولهم متخافوش منهم
التفت المنتفضون أحدهم للآخر ولسان حالهم يقول ليته اكتفى بصفة القوات المسلحة دون أن ينسبها للمسخ! لكن الله يأبى إلا أن يتم الفاسد فساده ويفضح نفسه على الملأ قال شيخ منهم.
بعد أن أتم كلماته هذه بنصف دقيقة عادت أصوات الرصاصات المرتطمة، لكنها أخذت هذه المرة منحىً آخر لم يُحْسَب له حساب: كانت تنهمر هذه المرة على مئذنة الجامع ذاته! مُحدثة سُحُباً من غبار الأسمنت الرمادي الصافي! انتبه صبيا التويوتا إلى أن تكابير المئذنة كانت تشحن الثوار بالطاقة، فوجها سلاحهما نحوها، حاولا جهدهما، فأصابا جسم المئذنة بثقوب مازالت شاهدة عليهم حتى اللحظة، إلا أن رصاصة واحدة لم تُصب أياً من مكبرات الصوت! وفي الوقت الذي سكت فيه المؤذن نتيجة هذا الاقتحام، عوضت مآذن طرابلس المحيطة هذا السكوت، فلفَّت كل المكان بتكبيراتها، من تقسيم البطاطا ومن شارع الجرابة وزنقة الهوانة وما هو أبعد، وفَّرت هذه المآذن غطاءاً مقدساً لمئذنة واحدة كانت تتعرض آنذاك لاغتيال في وضح النهار، في آخر دقائق من عهد مسخ شاذ ادعى يوماً أنه سيبذل النفيس من أجل بقاء مآذن سويسرا‼
إلى هنا يبدو أن صبيا التويوتا أحسا بزهو نصرٍ كبير، فأطلقا لسيارتيهما العنان بعيداً نحو حي دمشق، غير مدركين أن شجاعتهما كانا قد أظهراها من داخل حصن حديد سيارتيهما ومحركها يدور، من خلف بندقيتيهما.
نعم اختفيا كما جاءا ولم يجد لهما أحد أي أثر بعد ذلك، لكن الصومعة بقيت، وسرعان ما عادت مصاديحها الأربعة تُكَبِّر بلا أي عطل في خلال ساعة! ثم ارتفع علم الاستقلال فوقها بعد نحو ساعتيْن من تأكد خبر اقتحام باب العزيزية! في اليوم التالي مباشرة، لاحظ شباب الشارع أن “حفيض” كان يوزع نسخاً ورقية لامعة من علم الاستقلال‼