النقد

المسلاتي.. إثارة الدهشة بتفجير المألوف

المجموعة تحمل بعدا اجتماعيا واضحا

 

منير عتيبة*-مصر

الدهشة؛ كنز الفيلسوف، وأداة المبدع، وهدف أساسي للإبداع، يبتغي الكاتب إحداثها لدى قارئه ليعيد اكتشاف العالم المحيط به بعيون أخرى جديدةعبار أو مختلفة، يلجأ بعض الكتاب إلى الغرائبية لإحداث الدهشة، ويلجأ البعض إلى تفجير الطاقات الكامنة في اللغة لابتكار لغة جديدة بكر، ويلجأ آخرون إلى الجرأة المتناهية (تحدث في هذه الحالة صدمة أكثر منها دهشة).

تفاصيل اليوم العادي للقاس محمد المسلاتي.

لكن الكاتب الليبي محمد المسلاتي(1) في مجموعته “تفاصيل اليوم العادي”(2) يختط لنفسه طريقا مختلفا، إنه يعمل على توليد الدهشة من قلب العادي، وذلك بتفجيره للمألوف وإعادة اكتشافه.

عصا الفقي

لن تشعر بغربة عما تحكيه قصص المجموعة، فأنت تعيشها بالفعل، أنت الولد الصغير الذي يروي القصص الخمس الأولى في المجموعة، منتقدا مجتمعا يرفض العلم، فالمدرس مجرد ناقل غير جيد للمعلومات، لذلك لا يقبل أن يسأله أحد حتى لا يفتضح جهله، والأهل يرفضون إلا ما يتفق مع تصوراتهم (عند رجوعي إلى البيت قلت لأهلي مغتبطا بما عرفته: إن الأرض تدور.. امتقعت وجوههم، وتبادلوا نظرات حيرى، وضربوني ضربا عنيفا)(3).

وعصا الفقي هي الأسلوب المعتمد للتعليم، الأسلوب الذي ينتج أطفالا يكرهون العلم وينتمون إلى الخرافة، وفي مثل هذا المجتمع يستطيع الدجال الزاني أن يصبح وليا، يؤكدون صدق كراماته ومعجزاته في منح النساء أطفالا، ويصبح مجرد امتلاك لعبة حقيقية حلما لا يتحقق، وإذا تحقق ينتهي باستخدام اللعبة في القتل.

كما أن الولد لا يهنأ بلعبته أكثر من يوم أو يومين؛ حيث تأخذها الجدة منه لتحفظها في صندوقها الخاص بحجة الحفاظ عليها حتى يكبر قليلا ويجيد التعامل معها، ثم ترفض أن تعطيه اللعبة عندما يكبر بحجة أنه كبر بالفعل.

خبايا المجتمع

فعادات المجتمع والفقر معا يحرمان الطفل أن يعيش طفولته، مجتمع غير واضح مع نفسه، المرأة التي يمنحها الدجال ابن زنا تقول إنه منحها الطفل ببركة كراماته (في شوارع منطقتنا رحت أتفحص وجوه كل الأطفال العابرين.. كنت أحاول التعرف إلى الذين يشبهون الفقي عاشور)(4)، والجد لا يعرف ما تخفيه الجدة في صندوقها، والجدة نفسها تلعب في خلوتها باللعب لتستعيد طفولتها الضائعة هي أيضا.

تمثل تلك القصص شبه رواية صغيرة تبدأ بها المجموعة القصصية، وهي بداية طبيعية ننتقل منها إلى بقية المجموعة، فالمجتمع الذي نتعرف إليه من خلال هذه القصص هو الذي ينتج النماذج التي سنقابلها فيما بعد.

ففي قصة الوقائع نرى بوضوح ما يعانيه المجتمع من فصام استطاع الكاتب أن يعبر عنه على مستوى شكل القصة وموضوعها؛ حيث نجد أكثر من صوت يروي القصة، صوت الراوي الخارجي العليم، والصوت الداخلي الباطن لبطل القصة عبد العال، المواطن الفقير المطحون الذي لا يجد عملا، وحياة عبد العال وأسرته الذين يتضورون جوعا خط أساسي في القصة، يوازيه خط آخر هو اجتماع حكومي على مستوى عال؛ حيث تفتعل الحكومة قضية إعلامية حول ألف ليلة وليلة، رافضة ما بها من خدش للحياء كما تدعي، والغرض هو إلهاء الناس عن مشاكلهم الحقيقية.

الحكومة السبب

ويبرع الكاتب في الإمساك بخيطي القصة فلا يلتقيان إطلاقا على المستوى الشكلي، فلا عبد العال يعرف بما يحدث في الاجتماع، ولا المجتمعون يدرون بما يجري لعبد العال، مما يؤكد وجود مجتمعين منفصلين تماما يعيشان في بلد واحد، لكن رسالة القصة تؤكد التقاء الخطين من حيث تأثير أحدهما على الآخر، فما يحدث من الحكومة هو ما يؤدي إلى مأساة عبد العال (تقرر مصادرة كتاب ألف ليلة وليلة، ومحاكمته لأسباب أخلاقية بحتة؛ حيث إن ما ورد بالكتاب المذكور يخدش الحياء، وينال من الأخلاق العربية الأصيلة، ويدعو إلى الإباحية والانحلال)(5)، في إشارة إلى أن من يستحق المحاكمة هم من تسببوا فيما جرى لعبد العال، وأن ما يخدش الحياء وينال من الأخلاق هو ما تفعله الحكومة، وأن الإباحية والانحلال هو نتيجة ممارسات الحكومة التي أدت إلى اختفاء عبد العال؛ حيث ابتلعه اليأس تاركا زوجته وأولاده لمصيرهم الذي يسهل تخيله.

ويستمر الكاتب في نقده لأخلاقيات المجتمع السلبية، فيعري سوء الظن الذي يتعامل به الناس مع بعضهم البعض (قصة النوافذ)، ثم يرسم صورة في منتهى القسوة لمعاناة المواطن اليومية في دواوين الحكومة، والتي تنتهي به إلى مستشفى المجانين عندما يحاول الدفاع عن نفسه (قصة القطط المتثائبة).

ثم يركز المؤلف أفكاره عن ضياع الشخصية الفردية المستقلة التي يلغيها المجتمع، وافتقاد الحرية، وذلك في عدد من قصصه القصيرة جدا، قبل أن ينقلنا إلى القصة التي أعطى المجموعة اسمها “تفاصيل اليوم العادي”، وهي قصة الدائرة الجهنمية التي لا يستطيع المواطن الفكاك منها، قصة الروتين اليومي الذي ندور في ساقيته بعيون مقلوعة وإرادة مفقودة (ترتديني ملابسي، يحتسيني فنجان القهوة المرة، تنفثني لفافتي، يخضني السعال المتواصل)(6) إنها حياة جنونية، لا يلاحظ ما بها من جنون إلا من تواتيه الفرصة ليتأملها من الخارج، وهو ما يحدث مع بطل القصة، يكتشف جنونها وتفاهتها ومللها وعاديتها، فتصيبه نوبة من الضحك الهستيري، تؤدي به إلى الجنون، والجنون هنا صفة يعطيها المجتمع من يخرج على تقاليده وأعرافه، أو يحاول انتقاده ولو بالضحك على تفاهته.

القاص محمد المسلاتي
القاص محمد المسلاتي

طفلة البحر

ثم تأتي قصتان عن طفلة تريد أن تأخذ البحر معها إلى البيت ويحقق لها الفن أمنيتها (قصة الطفلة التي طلبت بحرا) ثم تغرق الطفلة في القصة التالية (طفلة البحر)، وتكون لحظة الغرق أجمل لحظة في حياتها، هي لحظة الحرية والانعتاق من كل ما يعانيه الأطفال والكبار في المجتمع.

وكأن بناء المجموعة وترتيب قصصها يقول إن المجتمع الذي يربي بطل القصص الأولى، هو المجتمع الذي يسحق أبطال بقية القصص، وهو نفسه الذي يؤدي إلى أن يعتقد أفراده أن الغرق في البحر أفضل من البقاء فيه، كما في القصص الأخيرة.

بالنسبة لهذه القراءة تعتبر القصة التالية (أطفال آخر الليل) خارج إطار المجموعة من حيث شكلها، فهي قصة عجائبية مثيرة عن هروب (الأطفال والزهور والعصافير وكل الرسومات الجميلة الملونة)(7) التي كانت مرسومة على لوحات الإعلانات بالمدينة، لكنها تظل داخل الإطار العام للمجموعة من حيث المعنى الذي ترمي إليه، فالمجتمع الذي تتناوله المجموعة لابد أن تهرب منه كل الأشياء الجميلة.

ويختم الكاتب مجموعته بنغمة أخيرة تتمثل في قصة حزن البحر، والتي هي مرثية للبحر، والتي بدأت المدينة تزحف عليه بأرصفتها الأسمنتية لتغتاله قطعة قطعة، إنها النغمة الأخيرة التي يتم بها اللحن، والتي تظل في أذن المستمع، فالحياة العادية في القصص السابقة تقتل حتما الصراحة والبراءة والبراح والطهر، وهي الصفات التي يمثلها البحر.

قصص قصيرة جدا

لن تجد لعبا باللغة في المجموعة، حتى بعض القصص التي يغلب على لغتها الاستعارية اللغوية لن تجد اللغة فيها هدفا، لكنها قسوة الواقع المألوف والمدهش، وهي التي تدفع الكاتب إلى تفجير لغة يمكن تسميتها ببلاغة القسوة، في محاولة للتعبير عن قسوة الواقع بكل ما تمتلكه اللغة من طاقة، ويصعب أن تجد هنات فيما يخص اللغة، إلا إن اعتبرنا وصف الموظفة في قصة القطط المتثائبة بأنها القطة (الحسناء الجميلة) تكرارا لا داعي له.

كما أن قصتي الحدود وأحلام العصافير كان يمكن أن تكونا قصتين مستقلتين ولا يتم إدراجهما في مجموعة القصص القصيرة جدا؛ حيث أرى أن القصة القصيرة جدا يفضل ألا تزيد عن أسطر قليلة جدا.

ينفتح نص المسلاتي قابلا لقراءات متعددة وتأويلات كثيرة، لعل هذه القراءة إحداها، لكني أزعم أن كل القراءات الممكنة لهذا النص -مهما اختلف في تناولها- سوف تتفق على البعد الاجتماعي الواضح للمجموعة؛ حيث لا يكتب المسلاتي في الفراغ، لكنه يتوجه إلى قارئه برسالة أساسية تشير إليها قصص المجموعة دون إفصاح تعليمي.

إن ما نألفه غرائبي إلى درجة الجنون، وتفجيره يثير الدهشة، ويدعو إلى إعادة النظر في كل منمنمات حياتنا التي لا نحياها بقدر ما تمر بنا أيامها مرورا عابرا يختطف سنوات العمر، فلنحاول أن نكتشف تفاصيل أيامنا العادية لنصل إلى أعماقها، ونتذوق حلاوتها قبل أن تفر منا عاديتها.

________________________________

* أديب وروائي مصري.

(1) محمد المسلاتي، من مواليد بنغازي سنة 1949، له عدد من المجموعات القصصية، ورئيس تحرير مجلة الثقافة العربية.

(2) تفاصيل اليوم العادي، الناشر مجلس الثقافة العام، ليبيا، 2006م.

(3) المجموعة، ص 8، قصة إن الأرض تدور.

(4) المجموعة، ص 28، قصة الفقي.

(5) المجموعة، ص 57، قصة الوقائع.

(6) المجموعة، ص 94، قصة تفاصيل اليوم العادي.

(7) المجموعة، ص 125، قصة أطفال آخر الليل.

مقالات ذات علاقة

(يعربدُ بك)… موطن الأسئلة

يونس شعبان الفنادي

أوان الكتابة وصناعة الحدث في القصة القصيرة (العرافة) للدكتور الناجي الحربي مثالا

مفتاح الشاعري

البناء النصّي في شعر عبدالمنعم المحجوب (9) .. فاعلية بناء الإيقاع المعنوي

المشرف العام

اترك تعليق