همس شعري
إنّي لأعجب من أمة تصنع أصنامها كي تعبدها، وقد تكون من حجر أو خشب، أومن تمر، وتعدّها معبودا إلهيا ينفع ويضرّ، وذلك في زمن الجاهلية الأولى، وتعيد عبادة أصنام أخرى للواجهة كي تعبد من جديد من الساسة والملوك والأمراء، ومن مجرمي الحروب، وتجار المخدرات، وليتها أفلحت في صنع تمثال يرمز للعقل كي يقودهم نحو عبادة الله، ونحو المجد الحضاري العلمي والفكري، والاجتماعي والإنساني، ولعلّ الكثير ممن يبنون تلك التماثيل، يفتقدون للحسّ الحضاري فيحوّلونها إلى منحوتات تعبد، ويجهلون قيمتها الفنيّة والفكرية والحضارية التي تؤسس في نفوس الشعوب ذلك الوعي المستلب تحت مسميات دينية متعددة.
فرمزية زهير بن أبي سلمى في سوريا، ورمزية المتنبي في العراق وغيرها من الرمزيات لا يطالها التأليه، مثلما هو الحال لشخصيات أبدعت في قهر الشعوب، وأوغلت في إذلالهم، وعاثت فسادا في مقدرات الوطن، إنّ المستلب الحضاري عند من يهدمون تلك التماثيل التي لم تكن في يوم من الأيام محلا للعبادة، وقد تبين الغيّ من الرّشد عند أمة الإسلام .إنّ ما يحدث هو هدم للتاريخ، وهدم لمحطات التحوّل في حياة الشعوب التي تهدم أصناما من الحجر لتقيم أصناما أخرى من لحم ودم تفرض عبوديتها بالنار والحديد …ولذا يرى بعضهم أنّ الخلود يكمن في التماثيل، وينسون أنّ أمجاد العظماء تجسّدها الأعمال الخالدة من فكر وعلم وفن وإبداع من عدالة إنسانية تصنع فضاء رحبا للأحياء وللموات، وهذا الشاعر الحكيم زهير بن أبي سلمي يذكّر الناس بمعنى الحروب فيقول:
وَما الحَربُ إِلّا ما عَلِمتُم وَذُقتُمُ
وَما هُوَ عَنها بِالحَديثِ المُرَجَّمِ
مَتى تَبعَثوها تَبعَثوها ذَميمَةً
وَتَضرَ إِذا ضَرَّيتُموها فَتَضرَمِ
فَتَعرُكُّمُ عَركَ الرَحى بِثِفالِها
وَتَلقَح كِشافاً ثُمَّ تَحمِل فَتُتئِمِ
فَتُنتَج لَكُم غِلمانَ أَشأَمَ كُلُّهُم
كَأَحمَرِ عادٍ ثُمَّ تُرضِع فَتَفطِمِ
فَتُغلِل لَكُم ما لا تُغِلُّ لِأَهلِها
قُرىً بِالعِراقِ مِن قَفيزٍ وَدِرهَمِ
لَعَمري لَنِعمَ الحَيُّ جَرَّ عَلَيهِمُ
بِما لا يُواتيهِم حُصَينُ بنُ ضَمضَمِ
هذه كلمات أردت بها تذكير القارئ بأن ليست كل التمثيل الحجرية للعبادة في هذا العصر، بل هناك تماثيل من لحم ودم ماتزال يعبد من غير الله..