سألني الدكتور الصديق بودوارة ذات مرة عن علاقتى الوثيقة بالقلب… دراسةً وتخصصاً وهل وقفت يوماً أمام مشهد قلب تخلت عنه العافية وتعلمت شيئاً من هذا الدرس.
(1)
في الواقع فتح الدكتور علبة الذاكرة وتذكرت ما حدث معي مرة في ليلة من خريف عام 1988 بمستشفى بيزانصون الجامعي حيث كنت أعمل.
ذات ليلة كنت مساعدا لجراح قلب وكانت العملية لمريض أصابه تمزق في الشريان الأورطي وكانت الحالة مستعجلة ولم نعرف أن الشريان كان ممزقا عندما بدأنا التدخل الجراحي. عندما فتحنا الصدر كان الدم يتدفق حتى وصل سقف غرفة العمليات وكانت مهمتى في اللحظة ذاتها أن أضع يدي بكل قوة على الشرخ في انتظار أن يعد البروفيسور الجراح ومسؤول الدورة الدموية الخارجية العدة اللازمة لأننا لم نتوقع أن الأورطي كان ممزقا .. ظننا في البداية أن الدم المحاط بغشاء القلب هو مجرد التهاب وعلينا أن نحرر القلب من السائل الذي بغشائه وهذا النوع من العمليات لا يأخذ في العادة غير دقائق.. ذلك المشهد غير مجريات العملية.
(2)
كان علي أن احتفظ (بهدوئي) في تلك اللحظة ويدي على الشرخ أكثر من ربع ساعة.. انتابني ساعتها شعور ويقين أن الحياة لا تعتمد إلا على خيط رفيع.. استمرت العملية حتى الفجر وكان ذلك بداياتي في جراحة القلب ثم أردت بعدها بخمس سنوات التخصص في زراعة القلب وعدت لبنغازي من أجل ذلك المشروع ولكن قيل لي وقتها بعد وصولي إلى بنغازي “أن رأسي مقلوب” وأن مستقبلي هو أن أعود من حيث أتيت (حيث لا أمل في زراعة القلب في ليبيا كما حدث مع الكلى) وهذا ما فعلت… حسنا فعلت.
(3)
أعود للإجابة لأقول أن تلك الليلة المرعبة في غرفة العمليات لم تكن وحدها التي بقت معي في الذاكرة بل علمتني جراحةُ القلب أجمل من ذلك .. فعندما تفتح الصدر وتتأمل القلبَ في نصف دورانه ورقصه تخطر عليك رقصة الدرويش.. تعلم أنّ المتصوفة كانوا على حق حين قالوا أن القلبَ هو مركز الجسد وأن الجسد مركز الكون الذي حوله تدور الأشياء . وفي الوقتِ الذي يثبت فيه أهل الجغرافيا أنّ مكة هي مركز العالم على الخارطة يمكن القول أنّ القلب يقبع في وسط الجسد.. فالمسافة بين القلب ومركز التأمل والتفكر في الدماغ هي المسافة نفسها بين القلب وغريزة الأنعام.
نعرف أيضا أن خلايا القلب لا تتجدد كبقية الأعضاء .. القلب هو بطاقتنا الشخصية وفيه “رقمنا الوطني”.
الحياة | 14 يناير 2025م