المقالة

مسارب وعرة

من أعمال التشكيلي: معتوق أبو راوي
من أعمال التشكيلي: معتوق أبو راوي

فكرة بناء تاريخ مؤنسن من خلال محاسبة المتسببين في مآسي الماضي واليوم، بل ومحو آثارهم من الواقع قبل الذاكرة هي بؤرة فكرة نقد الرمز المعتمدة اليوم. فكريستوف كولومبوس، الذي يعتبر رائد أكبر فتح في تاريخ الإنسانية من خلال اكتشافه العالم الجديد تحول إلى رمز للعنف واحراق جثث السكان الأصليين. وتشرشل الذي يصور لنا في الإعلام والتاريخ على أنه محرر بريطانيا غدا الآن رمزا عنصريا . وجول فيري، مؤسس المدرسة اللائكية، الذي جعل منه أحد صناع المجد الفرنسي، هو اليوم رمز من رموز الاستعمار في أفريقيا عموماً.

هذا التحول في النظرة للرمز يحدث فقط في حالة فتح جدلية مع الذاكرة والتراث، بعيدا عن تفلسف النخبة وسفسطائية الميديا وكولسة ال “سبين دوكترنج” . ففي لحظة فتح الجدال مع الذاكرة يتحرك العامة بوعيهم ضد تسيّد النخب المسيطرة ل”تفتح نوافذ قلاع الرموز” كما يعبر بعضا من كتابنا في ليبيا اليوم، بقصد إصلاح التاريخ، عبر نقده وتشريحه، بجراءة ، وبلا اي تردد. حالة الاشتباك المعرفي مع الرمز، وضمن اتساع مفهوم المثقف، ووفق الوعي المدرك لذاته وللحظته المعاشة، بحيث تصبح الرمزية المنتقدة ليست قدسية بحد ذاتها، لأنها خرجت من تحت آبادي نخبوي، او جاءت من أخر صاحب شهادة عليا، بما يذيب حواجز وهمية يخلقها النخبوي لذاته اليوم ويسقط سجيناَ لها، فاليوم، باتت النخبة حالة صدى للعام وليست امتيازاً لها عليه. لا شك ان اصداء هذا الفهم لازالت تتعثر في وصولها كاملة لعالمنا العربي المكبل بقدسيات وتابلوهات ونخب ايضا.

انطلاقا من الخلفية القدرية أو الحتمية التاريخية التي تتوج بالوعد الإلهي بظهور الامام المهدي يستقيل الفقه السلطاني الشيعي، ويهتم بمهمة المعرفة الدينية بأمور الغيب، وصناعة جيل من المنتظرين المتناسلين على امتداد التاريخ حتى لحظة ” العودة ” للإمام المهدي . فبناء الدولة وإدارة الناس أجلت، ولم تكن محل اهتمام، فالاجتهاد بشكل مطلق اؤجل باعتباره من اختصاص المهدي ” المعصوم ” ؛ مؤلفات النوبختي والجنيد والمرتضي مثال بارز على هذه الحالة. مع الأخذ بالاعتبار مجهودات مجموعة ” الحلة ” كونها تشكل توجها فكريا ومدرسيا مغايرا في الفقه الشيعي بشكل عام. مكانة رجل الدين ظهرت بقوة عند الشيعة في العصر القاجاري ، الذي جعل لرجل الدين ” الفقيه ” دورا قويا يتجاوز الحاكم احيانا.، لا سلطويا وحسب، بل كرمز بالمعنى المفتوح. حركة محمد المجاهد في مقاومة الاجتياح الروسي لشمال إيران تعد شرارة تاريخية هامة لما بنى عليه الخميني سلطانه من الناحية النظرية اولا والتأسيسية ثانيا. الزعيم المُخٓلص في تاريخنا الحديث بالمنطقة السنية تصب في ذات اتجاه القدسية والرمز، وعلى كل المستويات، خاصة الثقافية والسياسية، بما فيها من تمازج وتلاعب واقتباس من فكرة المخلص في المسيحية.

هذه الحالة المعطوبة في حاضرنا المرتهن للرمز والقدسية فيه، حالة قد تتعالق مع محنة الاستلاب الحضاري او حتى الارتهان لأفكار مستعارة لاهوتيا او سياسيا من اليهودية او المسيحية، الا ان تيارا نقديا عاما يصف تلك الاستعارات الرمزية بانها حالة اضحت من الوثوقيات او الدوغمائيات، فالتفسيرات الايديولوجية تسري عليها الدوغمائية او الوثوقية وكل هالتها الاعتقادية.  علماء الانسانيات، التقدميون منهم تحديدا، يضمون القوميين والماركسيين واصحاب الرأي الواحد الي مدرسة الدوغمائية ويصفونهم،  بمعاداة الحقيقة. لارتكازهم على وثوقية مسبقة في التنظير او التأطير المنهجي.

 لا اعتقد باستبعاد المصطلحين -الدوغمائية والاستلاب الثقافي- على حالتنا الراهنة كونها تحصيل حال لكل التراكمات والهزائم. فالدوغمائية قابلة لتكون اساس الامر بسبب حالة النشاءة البشرية وطبيعتها. فالعرب، مقارنة بالأمم الأخرى، كم هم اليوم، عقلية مغلقة، في عموم الحال، فليس من المعقول ان نعتبر أنفسنا ليبراليون مثلا!. بما يعزز الاعتقاد باننا دغمائين تقليدين؛ فنحن امة لا تعرف الحوار بلا انفعال وتصادم، وهو خاصيّة العقل الدوغمائي بحسب منظور الفلسفة. فالعرب ” فتحوا ” العالم باعتبارهم امتلكوا الحقيقة ويرفضون تجاوز ذلك رغم سقوط الايدولوجيا كما يعلم الجميع، فالتنظير الفقهي والتفسير الاسلامي للتاريخ لا يمكن إنكار انه عانى حالة استلاب ثقافي او حتي معرفي ، ميتافيزيقيا على الاقل ، اذ تم اقتباس العديد من الافكار والقصص من اليهودية والمسيحية عندما اخذ المسلمون على عاتقهم تشيد ترسانتنا الفكرية الاسلامية . فالرمز هنا مازال سيدنا ويتحكم في يومنا.

مسارب التحرر من قيود الرموز والقدسية فيها مسالك وعرة وعنيدة، وليس لأيّة امة من المجالدة فيها، طالما لم تمتلك الكفاءة على طرح الاسئلة الحيوية التي تصب في عمق الازمة المُعاشة، متفاوتة بذلك خوفها او لامبالاتها والاكتفاء بوصف نخبة عازفة عن لعب دورها في مجتمع مشلول.

مقالات ذات علاقة

محمد صدقي: الأغنية الليبية الحديثة الأم كانت بصوته

زياد العيساوي

زفرة العاشق

حسن المغربي

فن الكتابة الملونة

محمد عقيلة العمامي

اترك تعليق