المقالة

نقد العقل الليبي (2)

الإنسان كائن تاريخي، يقول دلتاي معبراً عن الخبرة الإنسانية الحاضرة واضعاً إياها بين قوسي الزمن الماضي والمستقبل.

هذا يعني أنه يبني حياته ومعرفته الحاضرة بالأشياء استناداً على تاريخ مسبق معها فعندما تمتنع عن لمس النار هذا يرجع لمعرفتك المسبقة أنّ هذه النار ستحرق أصابعك، وهي تجربة غالباً ما نواجهها في فترات الطفولة الأولى، المجتمعات الإنسانية كجسد هي كالأفراد تمر بمراحل طفولة وشباب وكهولة أيضاً، ولكن قد تكون مرحلة كهولة لمجتمع ما هي مرحلة طفولة لما يليه من أجيال فالعملية مستمرة، وإذا افترضنا أننا نمر بمرحلة ما من مراحل عمر المجتمع الليبي يمكننا دراسة التأثيرات التاريخية التي سببت في كونه على ما هو عليه حاملاً الصفات والعادات.

ولكن قبل أن نتطرق إلى تفكيك صفة ما، عليْ أن أوضح أمر ما قد يتلبس على البعض فهمه، هو قضية الصورة النمطية والتخصيص والتعميم، تلك الواقعة بين من يقول ” الحسنة تخص والسيئة تعم” وبين من يقول بعدم التعميم في كافة الأمور، هنا يجب أن أوضح بأننا نتحدث عن منظومة مجتمعية واقعة تحت قيم وعادات مشتركة بين غالبية الأفراد وبينما الأغلبية هي التي تمثل الصورة الواضحة للمجتمع لا الأقلية ( التي على كل حل تبقى صورة من صور المجتمع يجب أن تنال حقها في أن تظهر على السطح دون أن تغطي عليها أي أغلبية)، نتحدث عن أمر يشتركون فيها حتى صار ميزة أو مشاراً له بالبنان، فعندما نقول أن ” البازين هو وجبة الليبيين المفضلة” نعني بذلك المجتمع ذاته لا الأفراد الذين قد يبدي بعضهم امتعاضه منه.

عليه، عندما نقول أن المجتمع الليبي ( أو المجتمعات الشرق أوسطية بصفة عامة) هو مجتمع يؤمن بالخرافة، لا نعني ذلك الأفراد أو أن نضع المجتمع في صورة نمطية تجول في خاطر من يخالفه أو يتخالف معه، إذ أنها حقيقة واقعة بها حتى بدت صفة واضحة من صفاته.

وإذا أخذنا عينة ما من صفات هذا المجتمع، وهي صفة بدت واضحة العيان في الفترة الأخيرة حتى أنها تؤثر في سير المرحلة الراهنة، هي صفة الركود والخمود الذي يصاحب التمرد ( أو الثورة) والتي يطلق عليها البعض لفظ (فورة) يعنون بذلك حبة الفوّار التي ما إن تضعها في الماء تسارع في الفوران بسرعة حتى تختفي وترجع الماء لحالتها الطبيعية مع الوقت، تمرد أو ثورة الحالة الراهنة التي لا تسعى لتغيير حالة المجتمع بقدر ما تسعى لتغيير نظام بعينه ( والأمران يختلفان كلياً) أو رأس نظام ما، هذه العينة لو طُبقت الأمثلة التاريخية فيها لرأينا أنها متأصلة في مسار نمو المجتمع الليبي خاصةً حتى أصبحت شيء في جيناته يولد معها، فمنذ بدأ الفتح الإسلامي للبلاد الأفريقية صاحبت هذا الفتح حركات تمرد وثورات كانت لدرجة أنها تتلاحق بسرعة يقودها أفراد أو مجموعات ( دينية أو أثنية أو خليط بين الاثنين) غالباً ما تنتهي بالركود، ولكننا لن نأخذ من هذه النماذج إلا ما قد يكون مؤثراً بشدة في الوعي المجتمعي والعقلية الليبية التي سرعان ما تتخاذل وتتراجع، مائة عام سابقة قد تكون كفيلة بجعل المجتمع الليبي على ما هو عليه الآن، ثلاثة مراحل هي مرحلة الاحتلال الإيطالي ومرحلة المملكة الليبية والمرحلة القذافية، في مرحلة الاحتلال كان الجهاد/المقاومة محدوداً وعندما تسقط مدينة ما بين أيدي الإيطاليين فإنها تسقط دون رجعة وهذا ما حدث لمدينة طرابلس التي سرعان ما سقطت في أيدي الغزاة، صاحب هذا السقوط معارك ناضل فيها الطرابلسيون مدة من الزمن ولكنهم سرعان ما تقهقرت قوتهم أمام قوة الاحتلال الإيطالي الجبارة في عصرهم، حتى وصل الاحتلال لمرحلة يستحيل التفكير في طريقة ما لخروجه وهذا ما انعكس على حياة الناس خصوصاً في ثلاثينيات القرن العشرين حيث أصبحت العمارة الإيطالية تزخر في المدينة ولولا ظروف الحرب العالمية الثانية وسقوط قوى المحور لامتد هذا الانعكاس لفترة من الزمن قد تطول، ولنقل أن المملكة الليبية كانت تريد أن تقوم بتغيير ما في طابع الحياة بالمجتمع ( هذا ما قد نراه منعكساً فيما وصلنا من مظاهر الحياة عبر الوسائل المكتوبة أو الميديا) ولكنها لم تنل حظها الزمني من هذه المحاولة ( يقول بعض المختصين في دراسة المجتمعات إن أي تغيير يمكن إحداثه في مجتمع ما إذا ما تطلب مدة تاريخية تصل في الغالب 50 عاماً وإذا أخذنا الثورة الفرنسية نموذجاً للتغيير – حيث أنها مضرب المثل هذه الأيام- الذي حدث في المجتمع الفرنسي فإنها تأثيرها الحقيقي لم يحدث إلا في القرن العشرين) فقفز نظام القذافي الذي لم يكترث كثيراً لمحاولة تغيير الليبيين بقدر اكتراثه لكيفية يطول بها عمره، بل إن بعض العادات والصفات التي كانت غارقة في القاع بدأت تظهر طافحة على السطح في عهده حتى صارت واضحة المعالم.

وإذا أخذنا في الاعتبار المرحلة العثمانية والقرهمانللية التي صاحبتهما ثورات وحركات تمرد كانت دائماً ما تجهض ولا تفلح إلا إذا كان المتمرد من ضمن عائلة الوالي ولا يكون هدفه الحقيقي الإصلاح والتغيير بل يفكر في إطالة عهده وتوريثه لأبنائه من بعده، إذا استشعرنا أمل الناس الذي كان دائماً ما يرجع للركود وينطفئ سيكون سهلاً علينا تبرير حالة الركود التي أصابت الليبيين بعد ثورتهم على نظام القذافي، فهم أولاً مجتمع لا يؤمن بالصبر ويريدون أن يرووا نتائج لكي يبنوا عليها حياتهم، ثانياً فثقافة المجتمع المدني ثقافة جديدة عليهم لم يسبق لهم أن خاضوا تجربتها، في البدء يشع الناس أملاً وتراهم في حركة وتواد دائم بل إن الروح الوطنية تظهر على السطح عن طريق أفعال ومبادرات ( مهما بلغ حجمها)، ومنذ بدء الانشقاق وتباين الرؤى المختلفة ( والمخالفة) أصبح هدف القوى السياسية ومن يوالي كل منها الوصول للسلطة والتصارع ( السلمي أو ” الشوارعي”) عليها بحصار الوزارات والتحالفات العقائدية بالمؤتمر وانتهاك حرمة الحكومة وسلسلة من الاختطافات والاغتيالات وعرقلة الحياة اليومية، وعندما نقارن حالة المجتمع المدني وحركات التظاهر ونتابع الشريط الزمني للعامين الماضيين سنرى أن حالة الركود بدأت تستيقظ مجدداً، ليس لأن المرحلة صعبة وما يواجهه الليبيون لا يبعث على الأمل ( فهذه حالة البلدان التي طرأت عليها تغييرات)، بل لأنّ التخاذل بعد الثورة، والركود بعد التمرد، الفورة هي شيء في المجتمع.. شيء متجذر!

ويطفو سؤال على السطح: ولكن ما الحل؟!

لكن الحل يعتمد على صفات أخرى متجذرة هي أيضاً في العقل الليبي، تلك الصفات التي نراها يومياً واضحة، حالة عدم الثقة بين السلطة والناس، عدم الصبر، الخرافة، تسلط رجال الدين وخضوع المجتمع لهم، تسلط العساكر الجدد، الأنانية التي تريد التغيير الآن وحالاً أن تستأثر به دون الأجيال القادمة، غيرها الكثير، ولكن المشكلة الكبرى تكمن في التعليم، في إيجاد جيل من المجتمع لا يركد، لا يؤمن بالخرافة، ويفرض نفسه على السلطة لا أن تفرض نفسها عليه أو يفرض طرف ثالث نفسه على الاثنين، هذا الجيل يمكن له أن يوجد إذا ما توفر له نظامي تعليمي صحيح في المنزل، في الشارع، في المدرسة ويمكن أن يكون تعاقباً لجيلين، وهذا في حالتنا… أمر معقد!

___________________________________

نشر في الكاف

مقالات ذات علاقة

عامان على رحيل الأستاذ الرَّائد: علي مصطفى المصراتي (1926-2021م) ومخاوف على أرشيفه ومقتنيات مكتبته

المكي أحمد المستجير

الحياة والشك

محمد دربي

لولا شوقي ونصه الخالد لم نجد نصاً ليبياً فصيحاً واحداً ينعي شيخ الشهداء

جابر نور سلطان

اترك تعليق