في تاريخنا العربي هناك روايات وسيّر كتبت بمزاجية عالية من أقلام أصحابها حيث نفخوا فيها ما أرادوا من بطولات وهمية مزيفة، وحذفوا منه ما يزعجهم ويفضح عورتهم وضعفهم المقيت، ومن هنا يتجلى لنا ذلك الوهم والوهن الكبير في صياغة الأحداث والمواقف في تلك السيّر والعبر الخالدة، ولذا أصبح تاريخنا تفريخ للأحداث والأراجيف والأباطيل حيث أنصفوا الخائن، وخوّنوا الأمين من أبناء هذه الأمة، وغيّبوا تلك الأسرار التي تكشف واقعنا العربي والإسلامي، ولقد تواطئ الجميع على صناعة تاريخ برّاق لمّاع في كلّ الأصقاع ولكن لم ينتبه هؤلاء الصنّاع إلى حقيقة تاريخ الأمم، التي تتكالب على أوطاننا، والتي تسعد بذلك التشويه البغيض لأعمال الرجال ولبطولاتهم الكبيرة منذ فجر البشرية، من هذه المواقف المخزية أصبح تاريخنا مزدوج الصنعة. تاريخ رسمي يصنعه الحاكم وحاشيته يزهو بفخامة الأحداث، ويعج بضخامة المواقف وعدد الصفحات، وتاريخ هامشي يسكن قلوب وجيوب الشعوب المغلوبة على أمرها، وإذا كانت السلطة أو البطانة حولها هي التي تكتب الوثائق فإنها تكتب ما هو في مصلحتها، وليس بحيادية وموضوعية ذلك يعني أن هناك حقائق في التاريخ قد تم إقصاؤها أو تشويهها، ونسمع بين الحين والآخر بعد تقادم الأيام بأن الحاكم الفلاني قد ظلمه التاريخ أو أعطى التاريخ حاكماً أكثر مما يستحق أو إن تزويراً قد حدث لواقعة معينة وإن وثائق قد اكتشفت صدفة تعيد قراءة وتركيب وقائع تلك الواقعة التاريخية.
وتضلّ الأجيال تتذكره ولا تنساه لأنّ الذين حضروا مراسم تشييع ذلك التاريخ هم شهوده وشواهده من بعض الكتّاب المستفيدين من ذلك التّزييف في مجالات متعدّدة من الكتابة التاريخية والّروائية والفكرية، ومن هنا يتراءى لنا التاريخ في شكله الخارجي عبارة على أنّه منارة عالية شاهقة بديعة بكل أطيافها وبطولاتها، ولكن للأسف حين تدخل تفاصيلها ترتبك اللّحظة المرّة بكلّ نتنتها وقذارتها في المكان والزمان، وكأنه مقبرة كبيرة للجيّف من الكائنات البشرية والكائنات الأخرى من البطولات الوهمية الزائفة، فسلام الله عليك أيها التاريخ الحافل بالبطولات وبالأحداث، وسلام عليك أيّتها الشعوب التي تبدع في صمت تاريخها الأزليّ وهي على مرّ الأجيال تعبد أصناما من الشخصيات، وأصناما من الأفكار والكتب التي بلغت حدّ التقديس..