قصة

همجيّة

الذكرى الـ58 لرحيل الكاتب الليبي خليفة التكبالي

من أعمال التشكيلية شفاء سالم
من أعمال التشكيلية شفاء سالم

– يا ناس، حرام عليكم.. هذا خوكم مسلم!

و نظرت نحوه،لاستطلع معالم الاعجاب في وجهه، كأنني محام يدافع عن متهم لا أمل له في الخلاص، و لكنه كان قد توارى عني بعيدا وراء الامواج البشرية المصطخبة بالعنف و الحقد، وضاع صوتي وسط الصيحات الهستيرية المنددة بالمجرم المهددة بقتله، و لكي لم أجد بدا من الصراخ، رغم إحساسي بأن ذلك لن يجدي شيئا، و لن ينقذه من الموت، إلا معجزة، معجزة حقيقية، كأن يتحجر هؤلاء الرجال الحانقون فجأة و تتجمد أطرافهم الغليظة، أو أن تسقك صاعقة تحرقهم جميعا، فربما نجا عندئذ، ذلك أنهم كانوا يخفونه تحت أجسادهم الهائجة العرقة، أما غير ذلك فلا يمكن أن ينجيه شيء من نقمتهم.

كان الطفل المصاب، مطروحا حيث رمته السيارة، يسبح في بحيرة من دمائه الحارة القانية، مهملا من الجميع، الذين تجمعوا حول الرجل، كأنما لينتزعوا روحه، ويمنحوها للطفل كي يعيش، وصحت من جديد:

– يا ناس الولد بيموت.. ارفعوه للمستشفى!

ولكن المستشفى لم يكن يهمهم، فقد كانت المقبرة تدعوهم إلى عمل آخر كانوا يؤدونه بحماس وحمية، لا يخلوان من شهوة خبيثة إلى القتل وسفك الدماء ومع ذلك، فهم أناس طيبون، لا يختلفون عن غيرهم من البشر وكنت مستعدا للقسم بأجلّ الأشياء، انهم طيبون ووادعون، ولا يمكن أن يؤذوا قطة، فكيف أفسر الآن اندفاعهم ووحشيتهم ؟!

حاولت تسلق الجدار البشري الذي يحاصره، فدفعني أحدهم بقوة أرجعتني إلى الوراء نادما على محاولتي، ولكن صوته الخافت المحشرج، الذي تسلل من خلال الاجساد المحمومة، مبحوحا مليئا باللوعة وحب الحياة، اعتصر قلبي وأورثني ألما هانت معه حياتي، فاندفعت أنطح الكتلة الصماء بغباء وتهور.

كان رقيقا لطيفا ذلك الإنسان الذي يقتل، أحببته وتمنيت أن أنقذه،لم أكن أعرفه قبلا، و لكني عرفته اليوم فقط، و أي نحس كانت معرفتي به، في الصباح كنت واقفا على الطريق، أنتظر بلهفة وقلق أحدى سيارات الأجرة اللعينة لتقلني إلى عملي، و عندما لمحت سيارته قادمة من بعيد فكرت أن أشير له بتوصيلي، فقد طال وقوفي و ربما أتأخر عن العمل، و لكني خجلت أن أرفع يدي ثم أردها بخيبة، فأنا أعرفهم أصحاب السيارات الخاصة، و لي معهم تجارب كثيرة، منذ نقلت إلى عملي الجديد، ولكنه توقف بجانبي، و سألني برقة إن كان يمكنه شراء سجائر، فأشرت إلى دكان الحاج ورائي و قلت – نعم – إنه يبيع الدخان، و عندما رجع تغلبت على خجلي و تقدمت منه أسأله:

– أأنت ذاهب ؟

ولكنه قاطعني بأريحية وكرم:

– تفضل، أين تريد ؟

ركبت سيارته والامتنان يقاسم العجب في امتلاكي، فقد كان تصرفه كريما وجديدا علي، فكيف أترك مثل هذا الانسان يموت ؟

صاح ” الحاج ” الذي قدم مهرولا تاركا دكانته:

– خافوا ربكم يا ناس، خلوا الراجل.

فشجعني ذلك، وأمدني بقوة على الصراع، رحت أدفع جسمي وأحشره بين الأجساد الأخرى، حتى استطعت للحظة خاطفة أن أراه، كان موزع الجسد نصفه العلوي في السيارة ونصفه الآخر في أيدي الوحوش الهائجة، الحائرة بين نهش قدميه أو جذبه إلى خارج السيارة حيث يمكن أن تكون الوليمة أكبر.

كان وجهه مليئا بالكدمات ملطخا بالدماء، ويداه المرضوضتان المتقلصتان تتشبثان بأقسام السيارة، وتغالبان بجهد يائس، القوى الجهنمية الساحبة، صرخت محاولا تشجيعه على الكفاح، ولكن كتلة البشر تقلقلت فأخفته عني، إلا أن رؤيتي له حيا زاد من أملي في إنقاذه، فاندفعت وسط الوحوش، أضرب وأصرخ، بينما بصري يبحث عنه بلهفة، كأنني أريد الانتقام منه أنا أيضا.

قال لي عندما وصلت إلى محل عملي:

– أنا أرجع في الخامسة مساء، إذا كنت تريد سأوصلك.

كان رقيقا جدا، ولكني شكرته إذ أنني أرجع في الثانية ظهرا:

– أف ليتني رجعت معه، لكنت الآن بجانبه وربما أمكنني إنقاذه، فالناس يعرفونني، وربما احترموا وجودي معه،

تعالى صوت “الحاج ” من جديد:

– يا ناس.. يا كفر.. قتلتوا الراجل.

كان قد اقتحم الزحام، هو أيضا، لا بدأن دافعه قوي لإنقاذه، وربما عرفه فقد اشترى منه السجائر في الصباح.

عندما أخبرته أنني أقلعت عن التدخين، تعجب لذلك، وتمنى أن يستطيع هو أيضا الاقلاع عن التدخين، يا للأسى سيقلع عن التدخين فعلا لو تمكن منه هؤلاء المتوحشون.

اشتد الزحام وتكاثر الناس خلفي، يشرئبون بأعناقهم، كأنما يتلذذون بمشهد القتل.

سمعت صوت الزجاج يتحطم، وتعالى صراخ وحشي من جانب السيارة، فارتحت لذلك بتشف وحقد، وواصلت التقدم، يعاضدني ” الحاج ” الذي استطاع أن يتقدمني.

بعد أن ودعته شاكرا، فكرت فيه بود، و أنا في طريقي إلى العمل، ولكني ما لبثت أن نسيته خلال زحمة العمل، يا لنا من حيوانات ذاكرتها ضعيفة، كانت الساعة الخامسة و النصف تقريبا، و كنت واقفا أريد أن أعبر الشارع إلى دكان ” الحاج ” لأقضي فيه بقية المساء، كالعادة، نشرب الشاي، و نستمع إلى نشرة الأخبار، لمحت سيارته آتية من بعيد، و لكم ما أكثر السيارات هذه الأيام، انتظرت حتى تمر السيارة لكي أعبر الشارع، و لكن الطفل المنحوس، لم يكن من رأيي، فجأة قفز كالعفريت ليعبر الطريق في تلك اللحظة، عرفته كان هو، تقلص وجهه و ضغط على الفرامل بعنف، لكن الطفل كان قد تدحرج خارج الطريق، ملطخا بالدم، كأنما بفعل القدر.

وتوقف الرجل بطيبة وسذاجة، كأن السجائر التي اشتراها قد انتهت، وخطا نحو الطفل المتلوح على الأرض، كأنما ليعتذر له، ووقفت أنا في مكاني كالأبله، مأثرا بالسرعة الخارقة التي تم بها كل شيء، دون أن أنذر الرجل الطيب أو أحميه.

وتقاطر الناس الكسالى، يستقطبهم دم الطفل المسفوح، أو دم الرجل الذي ما زال يجري في عروقه حارا، وعندما تيقظت حواسي، كانت الحلقة قد اكتملت حول الرجل وسيارته، ولم يتيحوا له الفرصة، حتى لرؤية الطفل المصاب.

استطعت الوصول إلى السيارة، فألصقت أصابعي برفرفها، ورحت أجاهد لاخترق الجدار الأخير المتين، استطعت أن أرى الرجل بوضوح، كان قد كف عن المقاومة وعندما وصلته سحبت جسمه داخل السيارة، وأغلقت بابها الذي تهشم، وجعلت أحاول تشغيل المحرك، بينما تكفل ” الحاج ” بتفريق الوحوش التي ابتدأت ملامح الآدميين تنطبع على وجوهها، وإن لم يرتووا ارتواء كاملا، فقد كانت بالرجل بقية حياة، وعندما تحركت السيارة، فتح عينيه وهمس عندما رآني:

– البوليس.. البوليس!

فقلت له، وقلبي يكاد ينفطر ألما:

– أهو جي.. ما تخافش!

وهوّم في اغفاءته من جديد، بينما انطلقت أنا بالسيارة لأنقله إلى المستشفى، تعمر وجداني لوجوده بجانبي، مشاعر أروع من تلك التي خالجتني وأنا موجود بجانبه في طريق إلى العمل.


مجموعة الأعمال الكاملة، الدار العربية للكتاب، 1976م

مقالات ذات علاقة

فورة 17 فبراير

وفاء البوعيسي

ذكـرى

غالية الذرعاني

محمد … طفل البلاط!

المشرف العام

اترك تعليق