الطيوب| مهنَّد سليمان
عندما تشق مهابة الزمن مساراتها نحو أغوارنا السحيقة نرى ما كان مُقدَّرا لنا ملامسته، وكثيرون مثلي ربما قد ارتبط التاريخ الليبي في وعيهم وشكّل جزءا ما من ثقافتهم بحقبة معينة تُحددها غالبا فترة الاستعمار أو الإحتلال الإيطالي لليبيا عام 1911م، وحتى كتب التاريخ المنهجية في المدرسة لم تتجاوز هذه ملابسات هذه الحقبة إلا في موضوعات لم تخلو من الركاكة والتكلف حاولت تناول مراحل بدء الخليقة، واهتداء الإنسان للصيد والزراعة واكتشاف النار وما نحوها وبهكذا تحديد متطرّف أُطِّر التاريخ الليبي ضمن قالب نمطي واحد فحالما يُذكر تاريخنا يُذكر الوجود الإيطالي للبلاد، وكأن ميلاد التاريخ انبثق وعُرفت ماهيته منذ أن أنزلت إيطاليا بقواتها على السواحل الليبية أما ما قبلها فقد جُبّ كله أو معظمه فلا نجد لليبيا مكانا متميزا ما قبل عام 1911م اللهم إلا إبّان مرحلة تولي الأسرة القرمانلية الحكم في إيالة طرابلس الغرب (1711-1835) وبمقتضى هذه الحقبة منحت السلطنة العثمانية ليبيا حكما شبه ذاتي، وفي هذا السياق لسنا بصدد بحث تاريخي بقدر ما تجلى لنا لاسيما للمتابعين والمطلعين وذوي الاهتمام المشترك أن لليبيا اسم ضارب في جذور التاريخ القديم وما قبل كتابة التاريخ فهذه المساحات المترامية التي سخر منها موسوليني بقولته الشهيرة ما ليبيا سوى صندوق من الرمال لدرجة أننا صدّقنا حقيقة أنّا حفنة من البدو الرعاة فلا مرجعية تاريخية ثابتة نتكئ عليها ولا نملك دورا جوهريا داخل حركة التاريخ الإنساني.
إعادة استجلاء التاريخ
ووفق هذه الحقيقة المزيفة فقدت بوصلتنا مع العالم والتاريخ فشوّهت ملامح خصوصيتنا الثقافية والإنسانية وظهرت تمثلات تلكم المحنة في علاقتنا بأنفسنا وعلاقتنا ببعضنا البعض فجاءت النتائج مخيبة ومجتثة لبذور النمو والتقدم فكيف سنرسم خطوط ومعالم مستقبلنا ونحن ممتلئين في منطقة اللاشعور بواقع يُتمٍ مدقع أحالنا لمجموعة من اللقطاء التي لفظهم التاريخ من جُعبته، نعم إن أحد العوامل الرئيسة في واقع الضياع الذي نعيشه ونُصّر أحيانا على أنه جزء لا يتجزء من حقيقتنا التاريخية هو جهلنا بماضينا وتشعباته المتعددة، وما فاقم من هذه الجهالة هو الآثار الجانبية لمحنتنا إذ إن حُكّامنا وساستنا لم ينفكوا عن إلغاء كل ما حملته السنوات قبلهم ليبدأ فقط انبلاج التاريخ من بعد اعتلائهم للسلطة، لا تغرَّنكم حضارة الغرب فتعمي أبصاركم فإنما الحضارة بدأت من ها هنا هذا ما قاله الباحث الأثري “فابريزو موري” قبل رحيله للسكّان المحليين في منطقة أكاكوس مُعربا لهم عن ضرورة أن يعتزوا بانتمائهم لهذه الأرض، ولكم تمنى أن تكون جذوره من هنا فما اكتشف في أكاكوس لا يُعادل ربع ما تطمره الجبال الشاهقة وتغمره الرمال الذهبية.
تفكيك الشيفرة
لعل بداية تفكيك الدائرة المغلقة حينما عثر العالم الأثري الإيطالي “فابريزو موري” بمعيّة فريقه البحثي في وادي تشوينت عام 1958م على أعظم اكتشاف أثري في التاريخ المعاصر غيّر معادلة التاريخ على نحو كلي حيث وجد مومياء محنطة لطفل صغير يبلغ من العمر سنتين ملفوفة بطريقة كروية بجلد الماعز يرجع تاريخ دفنها لآلآف السنوات تُبرهن على أن علم التحنيط في أكاكوس الليبية سبق الحضارة المصرية القديمة بأكثر من 5600 عام تقريبا، فقد توقفت قافلتنا إزاء مدفن هذه المومياء وتحسست تحت جلدي مشاعر تتضارب ما بين مد وجزر تستحضر الوصف ذو الحميمية الشديدة لموري حين كتب قائلا (كانت لحظة مثيرة جدا بعد كل هذه السنوات بل إنها لحظة مثيرة للإعجاب، لقد اكتشفنا شيئا غريبا والذي تبين أنه مومياء لطفل صغير وجدنا صرة ملفوفة بشكل كروي بجلد الماعز ولم نتبين ما فيها إلا لاحقا قلبناها ببطء ببطء وبدأنا نرى طفلا صغيرا أمامنا أسنانه، شفتيه، أنه الجاف وعينيه المغلقتين، ويضيف موري بالقول : تعرّض هذا الطفل للفتح ومُلء جوفه بالعشب الجاف ليجف بأسرع وقت ممكن، وطوي على ظهره بشكل غير طبيعي لأن قدميه تحت بطنه مباشرة، ويشير موري كذلك إلى أن هذا الطفل كان معه شيء يدل على المودة والحب فعُقد حلقاته مصنوعة من قشر بيض النعام، ويواصل موري توصيفه الدافئ : هناك سؤال طرح نفسه علينا وهو هل علينا إخراجه أي الطفل المحنّط من المكان الذي دفن فيه بكل هذا الحب لأن الحب كان واضحا في كل لمسة من لمسات طريقة دفنه ربما كان ابن شخص مهم لكن الأكيد هو أنه كان ابنا لأبوين أحباه كثيرا).
أسطورة أكاكوس
وما استدرجني لغواية هذه الأمثولة من التاريخ أن أرض أكاكوس كانت تناديني مع كل حبة رمل تشهق تحت نجوم المُعلّقة بالسماء فما كان مني إلا أن لبيت نداء تلكم الأرض التي صيَّرتها حوادث الزمن وتقلبات المناخ إلى قفار جدباء لا تُبصر فيها العين سوى أشجار الحنظل والبرنبخ والطلح بيد أن بها أثر مازال باق لحياة نموذجية متكاملة برغم ما حل بها، ولا أنكر أنه مذ اهتديت لمعرفة تدرارات أكاكوس من خلال قراءاتي عنها آخرها كان كتاب ماتع للباحث الليبي “محمد الترهوني” بعنوان (شعرية تاريخ ليبيا)، وترسّبت في أعماقي أمنية بزيارتها تتنامى طرديا كلما صادفني عن أكاكوس شيء ما فلملمت ذاتي وعزمت النية على زيارتها وذلك بالالتحاق بأول رحلة نظمتها شركة طريق الملوك للخدمات السياحية بإشراف الرحالة “مروان الفيتوري” لتنطلق رحلتنا من الشمال نحو الجنوب مباشرة على متن طائرة خطوط طيران العالمية من مطار معيتيقة الدولي إلى مطار غات الدولي صباح يوم الأحد الموافق 14 يناير 2024م، وحالما ارتفعت الطائرة جوا وحلّقت فوق مرتفعات صحرائنا وجبالها بدأت أمارس صلاة تأملية مطلقة لا يفصلها إلا صوت أزيز محركات الطائرة أو المطبّات الهوائية.
الكتابة بالرسوم
ضمن مدىً لامتناه لتكوينات ساحرة للجبال الصخرية فارضةً بدورها واقعا عاليا من التِيه وكوَّة تفتح الشهية للمعرفة جعلت مجموعات قليلة من العوائل أن تُقيم على تخوم سفوحها فرارا من ضوضاء المدن وضجيج أبواق المركبات الآلية حتى تُذكّرك للوهلة الأولى بالقبائل البدائية في أحراش الأمازون بأمريكا الجنوبية أو بعض القبائل المنتشرة في غابات القارة الإفريقية اللذين يعيشون عراة ويعتاشون على الصيد والرعي، هكذا مضت أربعة أيام كاملة نصبنا فيها خيامنا الشتوية في عدة وديان مثل : وداي تخرخوري، ووادي قوس أفزجار أطول قوس صخري ارتفاعا في شمال إفريقيا، وجبل تان خليقة ووادي تشوينت، ووادي وان فردان، ووادي انشال، ووادي آضاض، ووادي أويس الذي جسّد لوحة ذهبية بين الرمال والجبال الصخرية، وبالتعاون مع الدليل السياحي “أحمد الأنصاري” الذي رافقنا طيلة أيام الرحلة ثم مررنا بعدة وديان أخرى أهمها وادي تشوينت حيث توقفنا عند جدران بعض الكهوف هناك التي نقش عليها أسلافنا القدماء رسوماتهم المتباينة مُدوِّنين أبجديات حيواتهم البريّة ما قبل التاريخ بدءا من النعام والزرافة والفيل مرورا ببقر الوحش وأشكال أخرى لمقاتلين وصيّادين يجرّون العربات الخشبية وراءهم، علاوة على وجود نقوش محفورة بأخاديد الصخور لكتابات تحمل حرف التفيناغ مؤرخين بذلك ملامح مضيئة لصور معاشهم. الجدير بالذكر أن بعض هذه الرسومات اندثرت تماما إما بسبب عوامل التعرية والزمن وإما بسبب أيادي العبث التي طالتها فمحت بعضها المتبقي وهو ما يحز في النفس غياب الحسّ الحضاري لأبناء شعبنا بأهمية موروثنا الثقافي والإنساني، واختتمت رحلتنا الأسطورية بزيارة مدينة غات القديمة والقلعة الإيطالية المُشيَّدة فوق ربوة عالية تُطل على مشهد بانورامي آخاذ للمدينة كلها.