عمر الكدي
توفيت جدتي قبل جدي بثلاث سنوات
لا أدري كم كان عمرها
فقد منعتنا أمي من العد
عندما بلغ جدي التسعين عاما
تضاءلت وانكمشت مثل ثمرة تين جافة
فقدت جميع أسنانها
ونزلت غشاوة على عينيها
ثم نستنا جميعا ما عداه
كانت عندما تسمع نحنحته وهو يدخل البيت
تبرق عيناها حتى في الظلام
وتحاول بكل قواها مغادرة الفراش
وهي تتمتم “سيدي وسيد الناس”
كان يحضنها ويقبل جبينها
ويهدهدها حتى تنام
وهو يقول لنا
يموت المرء وهو حي
حين يسبقه رفاق الطفولة
ورفاق السلاح والسنوات العجاف
يموت المرء وهو حي
حين يصبح غريبا
وحين يصبح حطاما
هو من لقنها الشهادة
وهو من أغمض عينيها
وهو من أسجاها في قبرها
ووقف يتقبل التعازي بكفه الخشنة
وأبدا لم تدمع عيناه
بعد موتها عرفت اسمها الحقيقي
عندما ذكره الامام في صلاة الجنازة
كنا نناديها بجدتي
وكان أبناؤها ينادونها بأمي
وكان الناس ينادونها بالحاجة
وكان جدي يناديها ببنت الناس.
*
طرابلس
في كل عام كان جدي يشد الرحال إلى طرابلس
على ظهور الأبل والخيل والبغال والحمير
قافلة محملة بالتين وزيت الزيتون
باللوز والعسل والسويقة
بالصوف والجلود والحلفاء والشعير
ينامون خارج الأسوار ويدخلون المدينة في الصباح
يبيعون كل ما حملوا ثم يتسكعون في الأسواق
يتحاشون الشارع الأوروبي
حيث الكنائس والبارات والنساء السافرات
وثمة من يتملص منهم ليتسلل إلى العاهرات
وثمة من يتعتعه السكر فيحملونه على ظهورهم
وثمة من تبتلعه المدينة فيبقى هناك
وثمة من يركب البحر فلا يعود أبدا
ولكنهم يعودون محملين بالمباهج والمسرات
إلى حيث يقول جدي
عليك أن تعيش في هذا الجبل
بحذر الثعالب وقسوة الذئاب.