المقالة

خرافةٌ اسمها: دولة مدنية حديثة عصرية دستورية

من أعمال التشكيلية فتحية الجروشي
من أعمال التشكيلية فتحية الجروشي

شيءٌ من لا شيء:

الشيء الذي لا نستطيع تحقيقه على نحو ملموس أو لم نستطع التحقق منه إطلاقاً بالفعل العيني، فمن العبث الفكري والغلو أنْ نعطيه اسماً لا يعبر عنه أو يصف حقيقته ولا يعكس وقائع عناصره المشهودة في الحياة اليومية ولا يقترب من الموقف الكياني الوجودي كما يدل على ذاته على نحو ملموس يقيني. فأيّ عبارة أو تراكيب لغوية من العبارات التي قد تتراص في سياق لغوي من الصفة  والإسم الموصوف كي يتسنى لها تجريدياً أنّ تكون تعبيراً عن الواقع ، فليس والحال هذا أمام ذلك الواقع المٌتخيل ذاته إلا أنْ يكون قد تحقق بالفعل وعاشه المجتمع صورة وحقيقة تاريخية وصولاً لمستوياته العليا في تخطى المراحل والحفاظ على كيانه ومعنى كيانه من جيل إلى جيل ، فمن المحال أنْ يحدث شيء من لاشيء ومن دون كدح معرفي متواتر وسنوات من العمل الفكري المتنوع كي يكون التنوع ذاته هو دقة الصنع.

تعميم الوهم:

 فترتيب صفات من الكلمات المتراصة وكأنها حقيقة مُسبقة لوصف – مثلاً- بلد كليبيا في حقبة زمنية معينة لم يرد بها أو يتجلى فيها وجه ” التحدث” و العصرنة  تعبيراً عن المارسة المستمرة والجهد المتواصل والمران الخاص بأنه هكذا بلدٌ وبدفعة واحدة خرافية يظهر للناس على أنّه واقعُ : ” دولة حديثة عصرية  دستورية” ، أوعلى نحوعجائبي أكثر كياسة واِثارة ورمانسية فيُهدى لهذا البلد من علياء الوهم صفة ” دولة مدنية” لتحمل للناس صورة غيرواضحة و غالباً احترفية في التأويل  ، إذ قد لا تعبر هذه الصفات عن قوة حقيقية تتحدث عنها شؤون الأيام والأحداث لتلك ” دولة” دون التثبت من صحة دلالات هذا الصفات على الأقل معرفياً .  أضف على أنّها لا تعبرعن ذاتها في واقع الحال وملابساته وشروطه الموضوعية كالحالة الليبية بعد الأستقلال ، إذ الواقع ذاته وفي أمورٍ كثيرة هو الذي ينبغي أن يُخبر عن المعنى المحسوس لهذه الصفات المتتابعة صفة إثر أخرى و أُخرى والتي تأتي وكأنها مفروضة على أذهان الناس لوصف كما قيل بلدً ” غير متحضر” على أنّه خلاف ذلك بوصفٍ للوصف وحسب.

سلطان الواقع:

 وسلطان الواقع مُبتغى الباحثين عن حركة التاريخ ومساراته؛ ليعود المرء لفحص الواقع الفعلي ويتحاكم إليه ليس للتماهي مع سلطة أفاهيم مجردة ومعقدة مستعارة من المعجم السياسي المتصادم مع واقع برد اليقين عن صوابه العياني المحسوس إنْ وُجدَ. وفي معظم الحالات التي يكون فيها الغلو في ادعاء سمو وعلو ما نعتقد فيه ، تسعى كلّ عبارة فيه إلى مرامي خاصة من أجل التجدّد الأجتماعي لبناء حياة سياسية تؤسس لحياة حزبية حديثة ، فضلاً عن ادعاء الكمال لهذا الاعتقاد في الشيء المعتقد فيه وتضخيماً لملامح صورتة ؛  فهل والحال هذا تتطابق صورة هذا الذهني النقي المطمئن المُتمثلة في اختلاط الكلمات : ” حديثة عصرية مدنية” مع الواقع الفعلي ذاته وما يحمله من سمات تتناقض مع هذه الصورة دون أن نلتفت إلى أحقية الإختلاف في صورة الواقع بتعدد اوصافه الجيد منها والردئ مع التماهي مع هذه المُسميات التجريدية الحالمة؟

عناصر الإدهاش اللغوية:

 قصة هذه الصفات عسيرة وشائقة المعنى على المستوى الظاهر والحالة المُتخيلة ومن ثمّة فهل لهذه الصفات اللغوية المعبرة عن وصف كيان ما من علاقة منطقية فيما بينها لتمثيلها في الواقع الحسي المعاش وبالذات إذا لم تكن هناك في الأصل أيّ معطيات حقيقية للمعنى الحرفي لتحقيق ما تدعيه هذه الصفات؟ بمعنى آخر، هل بنية التعبير اللغوي في كلمات حديثة/ عصرية/ دستورية / مدنية / تُجسد فعلياً بنية الواقع ذاته – على المستوى الظاهر- وتعبر عنه تعبيراً سياسياً واقعياً وبالذات في تلك الحقبة المتعثرة وما ينبوعن اسمها في وصفها بـ ” دولة عصرية”؟

فنطازية السخرية:

 فهل كلمة تجريدية فنطازية وهي خارجة عن طور وسياق ومرحلة الكيان الليبي تاريخياً بعد الإستقلال على نحو كلمة ” حديثة “، كانت كلمة غامضة محجوبة ومعدومة في الواقع المجتمعي الليبي أم أنّه كان لها دخلاً فعلياً بمسار تلك الحقبة وعلى جميع الصعد وبالتالي كانت تجسيداً قائماً لها بالفعل ومن ثمة استمرارها مما جعل ليبيا تجني ثماره تواتراً من جيل إلى جيل وإلى هذا الجيل وجيل المستقبل؟ فهل يمكن للمرء أن يلقي بالاً للفهم لرفع الحجب والأستار عنها وعن “الدولة ” التخلفية ذاتها أما الأمر وانطلاقا من الحاضر أنْ يستمر في التعتيم والاختباء وراء منهج التفكير السائد الغيبي؟

موجود أو غير موجود:

الشيء إما أن يكون موجود أو غير موجود، ليس هناك منطقة وسطى بين الإثنين، فالدولة إما نعيشها فعلياً أو لا نعيشها حقيقة ونمارس حياتنا فيها على أنّها ” دولة” وبالتالي نحيا بها بالفعل فليس هناك من احتمال آخر. كما أنّ الدولة التي في طور البناء والتطوير ليست دولة بَعْد حتى وإنْ امتلكت أرقى أنواع الدساتير وأفضلها وحتى على الرغم من أنّ عناصر بناء الدولة قد تكون موجودة أو متوفرة على نحو ما وملموس. فليس هناك وجود دولة عصرية حديثة بالمطلق كما ليس هناك مسارٌ من عدم وجودها إلى وجودها بالتخيل ومطالب التمني . فتركيب صفات لغوية عن الدولة لا تفسر وجودها ذاته وليست سبباً في وجود هذه الدولة رغم التبجح بكيفية ظاهرة عن وجودها  ، فثمة تعارض بين واقع ليبيا ” غير المتحضر ” فترة حقبة الإستقلال كما وصفها ” النيهوم”  وبين أنْ يقال أنّه واقعٌ : ” مدني عصري حديث دستوري” . فكيف نوفق بين هذا الأقانيم وبين بنية المتجمع الليبي التقليدية  .

علاقات اجتماعية واقعية:

لنأخذ علاقات واقعية من المجتمع مثل العلاقات القبلية والعشائرية وصلات الرحم وتشكيلات علاقات العائلات الكبرى في هذا الكيان في مدنه وأريافه وبين أحراشه الموصوف بصفات ” حديثة عصرية دستورية”، فهل هذه العلاقات والمتجسدة واقعياً في مجتمع تقليدي يتواتر فيه بوضوح على الوجه الأساسي الميل التعصبي تمثل بالفعل يقينياً هذه الصفات المختارة عشوائياً والمتراصة في اصطلاحات ورموز وأفاهيم عصرية وحديثة ودستورية؟ فكيف يمكن أن ينسجم الحداثي العصري والمدني مع نقيضه المتمثل في الأرستقراطية القبلية والعائلة الأبوية وما هو أبعد من ذلك؟ في حالة واحدة يمكن أن يظهر الأنسجام عندما المُدافع على النقيضين في حالة يقدم نزواته النفسانية عن كلّ شيء آخر. وحتى في هذه الحالة لا زال السؤال قائماً : هل يصح تصور مجتمع حديث و عصري بدون رؤية فكرية عصرية ؟ هل يمكن تصور مجتمع بأنّه حديث ويملك نظام سياسي عصري بدون ثقافة تتأسس على النهج الحديث؟  

شحّ حاجات العصر والتطور:

عبر هذه الكلمات الشائكة (عصرية حديثة دستورية) لم تكن أيّ كلمة منها مفتاحاً لغيرها من بقية الكلمات التي تتسابق مع التداعي الخيالي، وبالتالي لم يبقى بينها إلا الربط المفاهيمي المجرد الذي يتجاهل الفرق بين الرأفة وبين الواقع التاريخي. وحين يعود المرء إلى الحياة الليبية بعد الإستقلال لفحصها واقعياً فسيدرك أنّ غبارَ حقبة الاستقلال السميك سرعان ما يزول  سيمحو خرافة الكلمات وفقاً للشروط التاريخية المحيطة بليبيا حينها. ستجد أنّها كلمات لا تقول شيئاً جاداً. فما هو البرهان المقنع بالتجربة و الممارسة والمعاش اليومي على أنّها تمثل الواقع الفعلي لليبيا آنذاك؟

الكنوص في اقتحام آفاق التقدم وحشد أسبابه:

  فالدولة الحديثة العصرية أفهومياً وتاريخياً لا تقام على أسس تقليدية قبائلية عشائرية وشائجية ترتكز أساساً على صلات الرحم والقرابة والنسب المتشبعة بعاداتها وتقاليدها التي تتعارض مع مبادئ أسس بناء ” دولة مدنية عصرية” ومن ثمّة وصفها تبجيلاً بأوصاف خرافية غير واقعية لا يفيد ولا ينفعه الترقيع وليس له مفعول سياسي في الحياة والمجتمع، فلا يستقيم معنى هذه الصفات مع الواقع العياني لبنية المجتمع التقليدية حينها بل ويصعب تحقيقها بالفعل كما تراه العين هذه الأيام. ففي الدولة الحديثة ليس هناك كسباً للنفوذ الوشائجي والقرائبي وإنما تنافساً للمشاركة السياسية والمساهمة في اتخاذ القرار السياسي. إنّ الخرافة هي التعبير غير المطابق للواقع ، و المنافية لفهم التطور التاريخي الليبي.

مناخات الزهو المغشوش:

 فنظام ” الدولة الحديثة” نظام مؤساساتي ديمقراطي يقوم على تعاقد وعلاقات بين أفراد تربوا منذ الطفولة ليكونوا مواطنين حقاً. فالمرء يحار في الزهو بشيْ لم يكن أصلاً قد وجد تاريخياً وعيانياً بل واستمر في الوجود. فهذا الزهو والإفتخار يبدو مستعصياً على الفهم. لا ريب فإنّ سمة الخرافة سمة مميزة للتفاخر والتباهي بما ليس في الحياة بمكانها وزمانها.

فائض بلاغي من الألفاظ:

ألم تكن تلك الحقبة متعثرة وغير قادرة على تطوير المجتمع ككل وتغيير هياكله الإجتماعية المتشبثة بغلو التعصب للقبيلة بما يشبه الأمر الحاسم وبفئوية العصبية على نحو ” عصري” مغشوش؟  أفلم تكن تلك الحقبة مُتكئة على أسس عشائرية تقليدية مُتناقضة بوضوح مع أسس بناء الدولة الحديثة المدنية؟ تكثيف العبارات وغلو يقينها الذي لا يتزعزع إذن قد يجتاحها التقاطع المفصلي غير المنطقي سواء بسواء، الحاجب لكينونة الواقع، وما وصلت الدول إلى مرحلة ” الدولة الحديثة” إلا بعد تطور طويل وثورات علمية ومعرفية وقانونية لم تقع لدى ليبيا في حقبة من الحقب بل وبعد التغلب على عقبات كثيرة وبعد كل ما توصلت إليه البشرية طوال تاريخها الماضي والذي كان حصيلة عمل شاق سياسياً ومعرفياً وثقافياً وجهود مضنية بُذلت حتى تمكن لها أنْ تدعي أنها ” دول حديثة “. فهذه الإنجازات البشرية لم يتم استيعابها ليبياً فما البال بممارستها على أرض الواقع! ، فـ ” دولة ليبيا الحديثة المدنية العصري” إنْ هي إلا فائض بلاغي من الألفاظ المنمقة .

مفردات التباهي والإفتخار تتوالد ولا تنتهي:

 فقد يسأل المرء عن حركة مسار عبارات التخييل دون ازاحة التأمل الحر ودون تجاهل التناقض الكامن في بنية المجتمع الليبي حينها: هل تتابُع بعض الصفات أو الكلمات المكثفة، والتي هي أصلاً مفاهيم تاريخية وسياسية ومعرفية عريقة، هل بالفعل من شأنها وفي مقدورها وبكل المهارات اللغوية اللفظية أنْ تصور لنا حقيقة الوضع السياسي خلال حقبة الإستقلال بعيداً عن الخرافة والتباهي والإفتخار والإعتزاز بمثل هذه الصفات وبهذا التصور اليسير؟ فهل الدولة ” المدنية الحديثة الدستورية ” تًباغت بإنقلاب عسكري يقوده ملازم مغمور ومجهول؟

خيبة المسعى لبناء الدولة:

 فبسبب خيبة المسعى والعجز في بناء الدولة  فلم تكن أيّ صفة من هذه الصفات ( حديثة عصرية مدنية دستورية) قد تجسدت على أرض الواقع بل تحولت إلى مسلمات يقينية غير قابلة للفحص والنقد ، وخلافاً لما تدعيه الخرافة والتعلق بأطرافها والتباهي بها فلم تكن تعبر حينها  اصلاً عن المحسوس الفعلي ومن ثمّة فهي لا تقول أيّ شيء ولا تعني ما تقول وتحمل برهان زيفها في منطوقها ذاته، فهي مجرد الفاظٍ مُتكررة تتصادم مع السند الإجتماعي المتمثل باللحمة العصبية التي شكلت وتشكل الأساس المادي الإجتماعي للمجتمع الليبي ، فلم يكن فيما بينها ما يمكن أن نصف به الدولة على ما كانت عليه في الحقيقة. لم تتجسد لهذه الصفات الخرافية في أيّ وظيفة اجتماعية مؤسساتية دالة عليها ولا تغيب عن ميزان العين.

جاذبية التماهي:

 بكل السهولة يمكن أن يرى المرء ما في هذه الكلمات والصفات من جاذبية خاصة لمن يتماهى مع حقبة الإستقلال تماهياً لا يتزعزع أبداً. فجاء استخدامها عند مُحبيها استخداماً عشوائياً متسرعاً ، فتارة هي دولة ” حديثة” وتارة هي دولة ” عصرية” وطوراً هي دولة دستورية ، فبأي منطقٍ أو حُجة أو محاجة يمكن رفع حُجب ما علق بها من أوهام وإماطة اللثام عنها وتبديد ما اعتراها من التباهي والمفاخرة من لدن المتماهين معها ؟

ايقاع الخيال:

ماذا قدمت كلمة حديثة عملياً في تلك الحقبة؟ وماذا جسدت كلمة عصرية وما الذي انتجته كلمة دستورية وما الذي اثمرته كلمة مدنية وكيف العلاقة هي فيما بينها من الدنو والبعد ومن الحقيقة والخيال؟ فهل كان هناك أيما رابطٍ يربطها حسياً بل ومعرفياً أيضاً؟  فكلمة ” عصرية ” مثلاً هي تعبير لغوي يعبر عن حالة أو صورة لم يكن لها أي وجود بل ولم يتحقق لها أي شرط من شروط العصرنة وذلك في تجاهلٍ للواقع المرير في حقيقةِ غياب بناء الدولة الحديثة وتدشين مبدأ المواطنة وانعدام توفر طرق التفكير العلمي المنهجي من أجل حل مشكلات المجتمع الليبي وبالذات بعد فورة مردود النفط المالية فضلاً عن غياب التدريب المنهجي المدروس في سياسات حقبة الاستقلال اِقتصادياً وثقافياً ومعرفياً.

حبّ التطواف بالكلمات:

 ومرات تذهب الخرافة أبعد من ذلك عندما تقرأ عن حقبة الإستقلال على أنّه قد تمّ فيها وبفخرٍ وإعتزاز وابتهال” تأسيس أول دولة مدنية” وهي خرافة لا تخلو بداهة من حب التطواف بالكلمات ذات البريق الساحر الذي يصف الحالة الليبية بعد الإستقلال عبر ملجأ لكلمات مثالية ضائعة غائبة عن أرصفة الحياة الاجتماعية والسياسية الليبية، مندفعة بسكرة الزهو بعيداً عن أرض الواقع لتقف على طرفي نقيض من مفهوم ” الدولة المدنية”.

غياب العسكرة والدعدشة:

 فغياب العسكرة أو الدعدشة لا يجعل من أيّ كيان سياسي ” دولة مدنية”. ليس لدينا ما يثبت بأن خلال حقبة الإستقلال كانت ليبيا قد جرّبت ” الحداثة والعصرنة والمدنية ” اجتماعياً وثقافياً وسياسياً ومعرفياً ، فضلاً على أنّها لم تجرب الدسترة حتى قانونياً ولم تؤسس بعد الإستقلال دولة مدنية حديثة كما تقول الخرافة أو يقول الوهم أوليس “السراب ببطن البيد ختّال” ؟

الدوران على الفاضي:

لا يكفي أنْ يقال بأنّه بعد الإستقلال قد تأسست أو تمّ تأسيس ” دولة مدنية حديثة عصرية “، يجب أيضاً أن نرى تجسيداً فعلياً ملموساً وليس استعمالاً انتقائياً لعبارات فضفاضة، يتعين أن يتم فحص لماذا لم تكن هناك بالفعل قد تأسست ” دولة حديثة عصرية مدنية دستورية” ولماذا ما واكبها تغيير واضح عياني في السياسة والثقافة والإقتصاد والأنظمة التقليدية العشائرية والعائلية بل وتغيير في هياكل النظام السياسي ذاته الذي كان يدور على الفاضي إلى أنْ استهتر باستقرار البلد إلى مدى أبعد مما ينبغي. ففي هذا السياق كيف يتسنى للمرء أنْ يربط بين واقع المجتمع والبلد حينها وبين هذا التجريد الذهني الفنطزي المركب في صيغة لغوية لا تعبر بالفعل عن ذلك الواقع ، فإنعدام فعلي لـ ” دولة حديثة عصرية مدنية” كواقع حيوي معاش يعني انعدام إمكانيات الإنجاز الفعلي لكل من هذه الصفات.

” بلدٌ غير مُتحضر”:

 فهل يصح تصور بلد عصري وحديث ومدني ودستوري بدون معرفة عصرية وثقافة اجتماعية متعددة وبدون بناء مؤسسات دستورية جادة؟ أفلم تكن تلك الحقبة عاجزة، على جميع الصعد وبالذات في اواخر السينات، من تحدي متطلبات العصر الجديدة واِنتشال المجتمع من التخبط والركود العام؟ ألم يصفه في آواخر الستينات (1968) كاتب مرموق بأنه ” بلد غير متحضر”؟

بلدٌ من دون مواطنة:

البنية التقليدية القبلية العشائرية القرائبية والعوائلية الكبرى يصدر عنها الولاء للقبيلة وللعائلة ولصلات الرحم والنسب والتي تظهر بوضوح في السلوك الجمعي وهي سلوكات تتعارض تماماً مع مفهوم ” المواطنة ” المعبر الفعلي مفهومياً وواقعياً عن الدولة الحديثة العصرية الدستورية. السلطة السياسية كانت تقوم على وحدة الدم والقربى بنزعة تعصبية تحركها مصلحة مشتركة دائمة ومهيمنة بتحالف قبائلي وعائلي خاصةعند بدء اندماج كيانات القبيلة بالحضر في المدن، وهي سلطة ذات طابع وشائجي  تعبر عن الولاء للقبيلة والعوائل الكبيرة و الأقرباء والإنتماء لها وليس للدولة المزعومة بل لإلتحام النسب والمصاهرة وحسب .

صلف الإستهتار بمستقبل البلد:

 ففي التجريد الأفهومي المتلازم مع كل الصفات الحميدة يعني التعامي عن حالة الوضع الليبي حينها بشكل عام والتنكر للإستهتار السياسي الليبي في آواخر الستينات بشكل خاص والتعامي عن نكسة مروعة كانت مُتوقعة بل ومعروفة حتى عند السلطات حينها وذلك بشهادة أحد رؤساء الوزارات في لقاء له بفضائية ” الجزيرة” ، فقد فقد التلاحم القبلي الحضري الهش قوته ومكانته وقدرته في تقديم الحلول للمآزق الحياتية والسياسية المتلاحقة منذ منتصف الستينات كما أعاق هذا التلاحم غير الخلاق فتح أبواب المجتمع على المشاركة السياسية وبناء المستقبل  .

الولاء لمن:

 غير أنّه وفي هذا السياق قد لا تكون القبيلة معرقلة للحكم العصري الديمقراطي إذا كانت القبيلة قد بدأت تنفتح على العصر لإكتساب مفاهيم جديدة في بُنيتها الفكرية التقليدية. فلم يكن غائباً عن ذهن الناس بأنّ ثقافة القبيلة لديها ممانعة عنيدة ضد مفاهيم المواطنة ، فالقبيلة لم تكن تنظيماً سياسياً و إنما كيان تحشيدي متمركز حول الإنتماء العصبي المتحيز لقيم وأعراف القبيلة ، فهوية الشخص الليبي لم تكن هوية مدنية أي هوية مواطنة ، بل هوية انتساب إلى عصبية أو قبيلة معينة أو عائلة كبيرة. وعليه فلم تنجح حقبة الإستقلال في نقل الولاء من القبيلة والعائلة إلى الولاء للوطن سياسياً بل ولـ ” الدولة” ، فقد كانت العصبية تعلو على المصلحة العامة مما يتنافي مع ما هو حديث وعصري ودستوري ومما طغى على عدم التوجه نحو بناء الدولة وترك البلد تسود فيه مصالح فئات على فئات أخرى .

وشائج تقليدية في وجه التطور المدني:

 فعوضاً عن الديمقراطية تهيمن القرابة ووشائج المصاهرة وخلط العصبية بالدولة، حتى أنّ جلّ الإنتخابات كانت عصبية وجهوية وقرائبية وكان التنافس السياسي يقوم على الولاء للقبيلة ومصلحة العشائر والأنساب بدلاً من التنافس القائم على الأسس الفكرية والمعرفية والدستورية إضافة إلى غياب الشأن المؤسساتي الدستوري الصريح الذي تقوم على أساسه نظام مدني متعدد الثقافات تسود فيه المساواة والعدالة.

البكاء على الأطلال:

 ومن دون تفصيل فالدولة المدنية دولة تقدم وحرية وعدالة وأمن واستقرار مستديم وسيادة مستدمية ومناعة ضد أي انقلابات عسكرية أما أوضاع حقبة الإستقلال في آواخر الستينات فلم تكن تدلل على أنّ ليبيا كانت ” دولة حديثة عصرية مدنية” فقد تسرب الضعف إلى النظام السياسي والأمني وماجت الكثير من الأوضاع المرتبكة المضطربة وسادها الإستهتار من كل جانبً في الحياة السياسية والأوضاع الإقتصادية حتى أفاقت من سكرتها على أول بيان عسكري في ” الفاتح ” من سبتمبر لعلع به ملازم لم يبلغ الثلاثين من عمره. لا ريب فإنّ بساطة كلمات وصفات خرافية و جبروت سطحيتها ما تلبث بأنْ تتعقد وتزداد وطأتها الخرافية على أرض الواقع ، وما تلبث معانيها في آخر المطاف أن تتحول إلى بكاء على أطلال حقبة الإستقلال .

البديل عن المدنية:

القبيلة كانت ومازالت هي الأصل في مثل هذا النمط من البلدان وهي القاعدة والبديل عن ” الديمقراطية” رغم أنّها قد تكون تمتلك دستورا عصرياً حداثياً ، ولاريب فإن الإنتماء القبلي والعشائري والعائلي القرائبي له مزاياه الخاصة لكل قبيلة وعائلة ولإفرادها اقتصاديا واجتماعياً وسياسياً غير أنّ هيمنة هذا الإنتماء قد يعيق ويزيح معنى المواطنة ومعنى العلاقات الدستورية ، فالولاءات الوشائجية ذات السطوة والهيمنة هي المحرك الأعلى لتحقيق مصالح ذوي القربى والعصبية وهي القوة الصريحة في كسب المنافع الخاصة التي تتعارض منطقياً وفعلياً مع كل ما هو عصري وحديث ودستوري.

خير حكومات أُخرجت للناس:

فالصفات اللغوية المتعالية والخرافية ليس لها حقيقة مقابلة في الواقع في مثل هذا النمط من المجتمعات كالمجتمع الليبي مثلاً، ولا تصف كياناً حقيقياً، بل هي أوصاف وصفات وهمية تجريدية لا علاقة لها بالواقع الذي يمكن التحقق من عملياً بالملاحظة والمشاهدة العيانية والممارسة اليومية. فكلمة ” حديثة” بالإضافة إلى أنّها ظاهرة لغوية فهي ظاهرة حضارية وحقبة الإستقلال كانت غير متحضرة حتى أنّ أحد أهم المفكرين الليبين وصف ليبيا سنة 1968 على أنها بلد غير متحضر يعيش في القرن الثامن عشر بمعنى آخر بأنّ ليبيا ما كانت تتوافق مع واقع الدولة الحديثة. علماً بأنّه قد وصل حد الخرافة إلى الزعم بأنّ حقبة الإستقلال وحكوماتها المجيدة خير حكومات أخرجت للناس في الدنيا.

بريق ساحر هدّهُ انقلاب عسكري:

عبارة ” دولة حديثة ” تصلح شعاراً جميلاً ذو بريق ساحر ، غير أنّه لم تكن لها أيّ ضمانات لتحقيقها أو لمُزاولتها ، فلم تكن هناك ضمانات تحمي هذه العبارة وبالتالي فهي تصير إلى عبارة جوفاء لا معنى لها إلا إذا تجسدت فعلياً على أرض الواقع على هيئة مؤسسات ديمقراطية ودستورية بجانب ضمانات حرية تكوين الأحزاب السياسية وضمانات تدشين اسلوب التعامل الوطني على أساس المواطنة عوضاً عن الأساس القبلي العشائري العائلي والتلاحم القرابي وو شائج المصهارة والنسب ،  اِضافة إلى ضمانات حرية التعبير بل وضمانات حرية نقد ومعارضة النظام السياسي في حالة سوء إدارته للبلد أو العجز عن إدارته والتي كانت غائبة قبل الإنقلاب العسكري.

التماهي هنا وهناك:

لاريب فعند اِستقاء مفردات على نحو سطحي وغير تاريخي ومعرفي والعجز التام على استيعابها في الحياة الاجتماعية والسياسية لكي نصف بها مرحلة تاريخية مُتازمة تعاني من تأخر شمولي في الواقع وتحت رايات التجديد والتقدم الواهمة فواقع الأمر ذاته يصدمها ويتصادم معها ولا تؤثر فيه النوايا الحسنة والأماني الحالمة أو الصور المتخيلة الجامدة بأوصافها المؤكدة والمحببة لدى الناس في مباراة تلاعب بمفاهيم مجردة للبرهنة على ما لم يكن له وجود إلا في المخيلة الخرافية ، أما من يلوي ذراعها تماهياً ذهنياً معها على أنها صورة ظاهرية حقيقية للأشياء كما هي عليها الحقبة حينها ، فإنها حينئذ تتشوه من دون تمحيص موضوعي  وتصبح ضد ” الدولة الحديثة العصرية المدنية الدستورية” بالذات وتغدو صورة هشة لا تعبر عن الواقع.

تراقيع مُبهرة:

لا ينفع ترقيع واقعٍ بعبارات ليست حسية خالصة وتكاد تكون أقانيم قدسية ، فإنّ الحسي يتميز عن الذهني وعن المتخيل والخلط بينهما مضراً بالفهم ومضراً بافاهيم عريقة ومهمة معرفياً وسياسياً ، فما كان هناك حقبة الاستقلال ” دولة مدنية حديثة عصرية دستورية” ، بل واقعاً كانت تهيمن عليه بنية التفكير القبلي والحضري الفئوي في مخالفة صريحة في تصوراتها وتطلعاتها وسلوكاتها للفكر الحديث ، أما استعارة ثوب ” المدنية والحديثة والعصرية” فإنْ هو إلا نوع من الشهادة غير المجدية في وصف واقعٍ كان متأخراً و ” غير حضاري ” لـ ” دولة ” كانت بالفعل تخلفية .

*

هذه المفاهيم التجريدية تحتاج إلى حفر ونبش مصادرها ومعانيها التاريخية والفكرية وكيف نشأت وتطور ثم كيف تجسدت في واقع ظهر في كثير من الدول الحديثة ، فلا يكفي أن تكون كل مفردة أومفهوم قد تعلمها المرء عن طريق التلقي من أيّ مصدر من المصادر ثمّ تتحول إلى فكرة من الأفكار الخاصة ينعت بها مايشاء من الهياكل السياسية أو أي حقبة تاريخية معينة يتماهى معها دون أن تكون لها دلائل واقعية فيكفي أنها في الذهن والذهن مغرم بها وبرنينها ومن ثمة فهذا كافٍ فإن كانت قد وجدت بالذهن فهي حقيقية وطالما هي تعشعش في رأس وذهن وتفكير المرء فهي إذن دليل على وجودها الفعلي. فالمرء يقول : أنا أقولها وأدعيها وهي في راسي وذهني وأعتقد فيها الإعتقاد الجازم ، فهذا يكفي. فتغدو العبارة كأنها محارة تُعلق في عنق ” دولة” لم تولد بعد.

لقد ورثت البشرية هذه الأفاهيم عبر تاريخ طويل من الصراع الفكري حتى عصر التنوير والحداثة ، فسنوات طويلة مرت حتى تسنى للدولة الحديثة أن تُبنى وسنوات طويلة لممارستها سياسياً ومعرفياً عبر البناء المؤسساتي الحديث والانظمة السياسية المدنية. فهل يعقل في حقبة تاريخية أقل من عشرين سنة يكون قد تمّ خلالها تأسيس ” دولة مدنية حديثة عصرية دستورية” ؟

مقالات ذات علاقة

محمد حسن صوت موجوع يسكن وجدان الليبيين

المشرف العام

كلاسيك (100/13)

المشرف العام

شط الحرية.. عوامل النجاح

المشرف العام

اترك تعليق