تيسير بن موسى
الباحث في تاريخ الحياة الثقافية بليبيا قديما، يجد نفسه أمام فقر ثقافي بين المعالم، ومع ان هذه البلاد لم تخل من ملامح ثقافية فكرية، الا انها بمجملها لا تشكل وزنا ذا بال، إذا ما قورنت هذه الملامح الثقافية بما كانت عليه حياة الفكر والثقافة والعلم في بعض الاقطار العربية، ولا شك أن ذاك الشح الثقافي في ليبيا تقف ورا عوامل موضوعية اهمها اضطراب الاوضاع الأمنية والاقتصادية والمعيشية في طول البلاد وعرضها، وهذا ادى الى عزوف شرائح عريضة من الليبيين عن ورود مناهل ثقافية متقدمة، والاكتفاء بما كانوا يتحصلون عليه من شيوخ الكتاتيب من مبادئ القرآن والكتابة ومبادئ النحو والصرف، بالإضافة الى الفروض والواجبات الدينية اليومية، وحفظ قصار السور من القرآن الكريم. وأما الذين ساعدتهم ظروفهم على التوغل في بحار الثقافة المتنوعة، فتثقفت عقولهم ونضجت افكارهم، فنجدهم اما تقوقعوا على ذواتهم او خرجوا الى الحواضر العربية ليصبوا فيها مواهبهم وعلومهم، ناهيك من ان المناخ السياسي والأمني والمعيشي المضطرب، لم يكن مشجعا ليؤم ليبيا، او يستوطنها، رجال العلم والادب والفكر من بلدان عربية اخرى لينشروا فيها معارفهم وعلومهم وآدابهم ويتبوؤوا مقاعد المدرسين والموجهين والمنشطين الليبيين، كما حصل في القاهرة ودمشق وفاس وتونس وغيرها من حواضر العرب الثقافية المرموقة.
كما انه من العوامل التي تذكر في غياب النشاط الثقافي في ليبيا، جفاف مناخها وقسوته بسبب امتداد صحاريها القاحلة التي تغطي معظم أراضيها. والسؤال الذي يطرح، اذا كان من الصحيح ان تلك العوامل قد وسمت الحياة الثقافية في ليبيا بالفقر والجفاف، فهل انسحب هذا الوضع أيضأ على روح الفن شعرا كان أم لحنا؟ وهل حقا عاشت الجماهير الليبية طيلة عشرات القرون حياة جفاف وقحط أيضا في وجدانها وارواحها كحال اراضيها، خالية نفوسها من عواطف دافئة جياشة، لا تنبض قلوبها بالحب والنشوة، ولا تترنم شفاهها، ولا تترنم شفاهها بالجمال والسحر والهوى، أو بلا مشاعر تحزن وتفرح، او تغضب وتعفو، او تفتخر وتتباهى…؟
ثم من قال ان الحياة القاسية الصعبة، لا ينبت فيها الحب والخير والجمال، وتنعدم فيها رهافة القلوب ورقة المشاعر ونبل النفوس. وكذلك اتساع فضاءات التخيل والفن والابداع…؟
ان الصحراء الليبية ليست اقسى واشد ، جفافا من صحاري شبه جزيرة العرب ، ولا الحياة في الجزيرة كانت اكثر استقرارا وامنا واطمئنانا، فسكان هذه الجزيرة ، شهروا بكثرة الظعن والترحال اما طلبا للماء والكلأ ، أو بسبب غزوات بعضهم لبعض باستمرار ، ومع ذلك انجبت امرؤ القيس والنابغة والاعشى ولبيد وعروة وعنترة وطرفة ، والقائمة ببقية شعراء صحراء العرب تطول وتطول، حتى الشعراء الذين عرفوا في بغداد ودمشق والقاهرة ، كانت منابتهم الاولى في تلك الصحارى او ما يشابهها، وحين نضجت مواهبهم واشتد عود فنهم فيها ، غادروها الى تلك المراكز الثقافية العربية الكبيرة ليصبوا على ارضها درر ما صقلته فيهم حياة البؤس والفقر والجفاف بأراضيهم الأولى.. فأبو تمام مثلا جاء بغداد مكتمل الفحولة الشعرية، بعد ان عاش في قريته (جاسم) بمنطقة حوران التي تعتبر من المناطق الفقيرة الجافة في سورية، وبعد ان ذاق مرارة الفاقة والحرمان في دمشق والفسطاط اللتين انتقل اليهما بحثا عن لقم العيش وسبل الحياة.
ان كثيرا من رجال الفكر والادب ، يجمعون بان الشعر الجيد الخالد ، هو الذي يولد من رحم العذاب والبؤس والشقاء، فالفيلسوف الدانماركي “كير كيغارد” مثلا، يعرف الشاعر بواحد من اشهر كتبه وهو (إما، أو) بانه الانسان التعس الشقي، الذي قلبه مفعم بالحزن العميق، لكن شفتيه مخلوقتان في شكل تهيل صرخاته وأناته ، التي تمر منها الى موسيقى معبرة آسرة، وهذه الصرخات والأنات تشبه صراخ ضحايا الطاغية الصقلي “فالاريس” الذي كان يضع خصومه داخل ثور نحاسي كبير، ثم يوقد نارا شديدة تحت ذاك الثور ، فكانت صرخات أولئك البؤساء الذين تشوى جلودهم في جوف الثور ، تخرج من فمه على شكل خوار ، لكن ذلك الخوار الذي مصدره الالم والعذاب يتحول الى موسيقى عذبة شجية، غير أنها كانت تبعث الخوف والرعب في قلب ذاك الطاغي الدموي ، بل في قلوب جميع الطغاة.
ثم أليس الشعر أي شعر ما هو إلا حزم من انفعالات انسان فنان، تعتمل وتضج داخل أعماقه، يخرجها ويجسدها بتلك القلائد الشعرية، فـ”ابن رشيق” يقول في (العمدة) لقد سمي الشاعر شاعرا، لأنه يشعر بما لا يشعر به غيره، و”علي بن ابي طالب” يقول: الشعر ميزان القلوب والعقول. أما “اكتافيوس باز” فيرى: ان الشعر هو سبر لأغوار المجهول، وإبراز كل ما هو ضارب في عمق الشاعر وما تنطوي عليه نفسه البشرية.
وهكذا فالشعر، بعيدا عن تأثير الزمان والمكان وفي جميع أحواله، وجميع قوالبه اللغوية التي تحمله، إن هو إلا تعبير عما يختلج في نفس انسان فنان، من أحاسيس ومشاعر، ورؤى ذاتية تخصه أو تخص المجتمع الذي ينتمي اليه ، او يرتبط به لسبب او أخر ، وهو ايضا نبضات قلب انسان ، وخلجات روحه المتمردة الثائرة القلقة، في مزاوجة رائعة بين أناه الشاعرة، وبين محيطه الخارجي ، وعلاقاته المتشابكة أو المتعارضة مع الأخرين، وهو اخيرا الحضور الدائم في وجدان الناس ، والمعبر عن آلامهم وأحلامهم وأوجاعهم وافراحهم، او بعبارة أخرى ، تصوير مجسد لحياة مجتمعه ومعايشة وجدانية، لظروف ذاك المجتمع واحواله وتقلباته.
واخلص من مجمل ما تقدم لأقول، إن البلاد الليبية، لم تنعدم فيها الروح الشاعرة، أو الموهبة الشعرية، رغم جميع الظروف والاوضاع الصعبة التي عاشت فيها او مرت عليها لقد كانت اعماق انسان هذه البلاد، تفيض شعرية، التي هي نفحات روحية غزيرة الخيال دقيقة التعبير، كان يرسلها في قصائد تتوفر فيها، جرس الكلمة وموسيقاها، مع مضمون انساني متسام متعال، في معناه وأغراضه وأهدافه.
واذا كان شاعر الجزيرة العربية قد صاغ شعريته في لغة، كانت لغته الثقافية وبنفس الوقت لغته المحكية، فان الشاعر الليبي قد صاغ شعريته في لغته المحكية ، التي لم يكن يعرف او يتقن غيرها للظروف التي شرحناها آنفا فظلت لهذا السبب، حبيسة صحرائه ونجوعه وقراه، لمحليتها ومحدودية العارفين بمفرداتها ومخارجها واصطلاحاتها، من غير الليبيين ، بل أحيانا من غير اهل المنطقة التي انجبت ذلك الشاعر، وبهذا وفي غياب الشعر العربي الفصيح، أحتل الشعر الشعبي الليبي مكانه ، اداة تعبير وافصاح عن شعرية الانسان في ليبيا ، واداة تصوير لحياة مجتمعه، فغدت القصيدة الشعبية وسيلة الشاعر ليصب فيها ما يعتمل في نفسه من أحاسيس ومشاعر ورأي ولقد ، يحملها هواه وعشقه، وشموخه وافتخاره ، وكذلك انكساره وحزنه ومواجعه ، واصبح الشعراء تماما كشعراء صحراء العرب، موضع فخر ناسهم واهاليهم وسكان مناطقهم يحفظون اشعارهم ويرددونها ويستشهدون بها بما انت تحمل هن صورة او معنى أو رأي.
والمؤسف ان هذا الشعر الجميل الرفيع، قد ضاع معظمه، لعدم حفظه بتدوينه، ولم يبق منه الا النزر اليسير الذي تولى بعض المهتمين به، التقاطه، في الآونة الاخيرة، من افواه الناس الذين لازالوا يحفظون أجزاء منه، وان ما وصلنا منه كافيا كي يجعلنا نقر بعظمة هذا الشعر وقيمته الادبية والفنية، وأنه كان حقا، مواكبا لحياة الانسان الليبي في حزنه وسعادته وفي فخره وافراحه واحتفالاته ومناسباته..
ولا زال للحديث بقية.
تيسير بن موسى (الشعرية والروح الشاعرة لم تغادر أبدا ليبيا) مجلة الفصول الأربعة، العدد 86، السنة: 21، أبريل 2001.