حوار: كوليت مرشليان
زياد علي من أبرز الكتّاب الليبيين، تنوّعت كتاباته بين القصة القصيرة والنقد والبحث والدراسات والسياسة وهو في كل هذه المجالات يقف في ضفة التجديد والمعاصرة. له مؤلفات عديدة، في القصة: “الجذع المتوحش”، “الطائر الذي نسي ريشه” و”لا تُحرج الموت الجميل”.
وفي المجال النقدي، له: “لا يقهر الزمن إلاّ الكلمة” دراسة نقدية تتناول مجموعة من المهتمين بالسرد القصصي والروائي في الوطن العربي، و”والكلمة أطول عمراً” دراسة عن مجموعة من الشعراء العرب. ومن دراساته أيضاً “خيوط الحلم ونسيج الصمت” و”الثقافة والجريمة”.
يزور بيروت حالياً، وكان لنا معه هذا الحوار:
* * *
أنت متعدد الكتابة في القصة والنصوص والنقد، ومن جيل السبعينات أين ترى موقعك في الأدب الليبي؟
ـ في اطار هذا الجيل الذي أنتمي اليه كانت الظروف تتطلب من الانسان ان يتعدد وذلك ليتمكن من تقديم نصه أولاً وعرض وتقديم أو التعريف بنصوص الزملاء من المبدعين، خصوصاً وان منطقة مثل منطقتنا ومنذ 30 عاماً ما كان بإمكان المبدع فيها ان يتواصل مع زملائه في الوطن العربي ومن هنا كان هاجسي ان أساهم بالتعريف بالنص الإبداعي الليبي، خصوصاً وأن ظروف الدراسة الأكاديمية أوجدتني في القاهرة، المركز الإشعاعي الثقافي مع بيروت في ذلك الوقت. أما مسألة الحضور الأدبي للشخص، فلم يكن عدد الأسماء التي تتواصل مع المنطقة العربية من ليبيا بالكثرة للحدّ الذي يتم فيه وضع تراتبية لحضورهم. كنتُ في سني أجد نفسي لا أختلف عن الزملاء المجايلين ولا مع الجيل الذي سبقنا في الوصول الى المتلقّي الليبي وربما ساعدتنا الظروف ان يكون لي حضور عربي وتواصل مع الساحة الثقافية الإبداعية العربية، خصوصاً الأطراف من هذا الوطن والتي ما كان الاهتمام بها واضحاً في تلك الفترة.
القصة والرواية في ليبيا تتراكمان منذ عقود. كيف تحدد حضورهما بالنسبة الى العالم العربي؟
ـ في السنوات الأخيرة، تطوّر السرد في ليبيا وبرزت أسماء هامة جداً على مستوى العالم العربي ولها حضورها أيضاً على مستوى عالمي، مثل ابراهيم الكوني. وفي إطار اختيار أفضل مئة عمل روائي عربي في القرن الماضي كان نصيب ليبيا ثلاثة أسماء رشحت من قبل اتحاد الكتاب والأدباء العرب: إبراهيم الكوني وأحمد إبراهيم الفقيه وخليفة حسين مصطفى. والآن يقوم اتحاد الكتاب بترجمة نصوصهم الى لغات عالمية. بل ان جهات واتحادات عالمية رشحت إبراهيم الكوني الى جوائز أكبر. أما بخصوص القصة القصيرة، فهناك أعمال لا ينقصها إلاّ وصولها الى المتلقي العربي. فنحن للأسف في منطقتنا العربية نعيش كجزر معزولة ومؤسسات النشر المحلية، خصوصاً الحكومية عاجزة عن القيام بأهم ما يحتاجه الكتاب بعد طبعه وهو توزيعه.
هناك العديد من المبدعين في القصة وهناك نصوص لا تقل جودة بأي حال من الأحوال، عما يكتب في العالم والمفارقة العجيبة عند الحديث مع بعض الذين يتعاطون متابعة الأعمال الإبداعية العربية بالنقد والعرض والإشارة، خصوصاً في العديد من الصحف والمجلات، ان أغلبهم لا يعرف الكثير الكثير من الأسماء، ليس في ليبيا فحسب، بل في كل أطراف هذا الوطن العربي والذي ساعدته الظروف على ان يتجاوز عنق الزجاجة فذلك لأن حظّه كان أفضل وظروفه ساعدته على خلق التواصل والذي لم يكن متاحاً للجميع.
النص الروائي
هذا يختص بموقع النص الروائي والقصصي، ماذا عن مضمونه؟ أين هي اليوم الرواية أو القصة الليبية من حيث ما تطرحه من مضامين؟
ـ ان النصوص الروائية الليبية اشتغل أصحابها على مختلف المدارس فكان للمدرسة التقليدية حضورها حيث كانت الأعمال الأولى متواضعة تتناول قضايا اجتماعية، خصوصاً العاطفية الى جانب حضور النضال الوطني. أما في المرحلة الأخيرة، فقد فرضت نصوصها الحضور الواضح على مستوى ما يُطرح من نص عالمي يحتفي بالانسان وهمومه وبالعديد من القضايا التي تمسّ حياته بشكل شمولي، إضافة الى خروجها بالمحلية الى حضور إنساني الى جانب بعض النصوص التي عايشت الهمّ المحلي اجتماعياً. أيضاً هناك النص الروائي التاريخي وهذا حاول ان يواكب ويطرح ما هو مجهول من تاريخ البلد. وأنا هنا تحضرني رواية الدكتور علي فهمي خشيم “إينارو” والتي يتحدث فيها عن أحد الذين حكموا مصر من الليبيين وحارب الفرس وكان له موقعه في تاريخ الإنسانية، وقد وردت أخبار عديدة عنه عند هيريدوت وديدور الصقلي. أيضاً إشارة الى عمق العلاقة بين ليبيا والأقطار المجاورة. وهذا ما يحاول ان يغيّبه الخطاب السياسي، خصوصاً في الحضور الطاغي “للأنا” بالنسبة لبعض الأقطار. فقد حكم مصر على سبيل المثال الفرعون الليبي شيشنق واستمر حكمه لأسر فرعونية عدة وأسماء أخرى كان لها حضورها في تاريخنا المشترك مع الأقطار المجاورة لليبيا المحصّلة ان الرواية الليبية الى جانب حضور الكمّ أصبحت تفرض حضورها الكيفي.
هل ترى ان الروائيين الذين جاءوا بعد نجيب محفوظ أضافوا كثيراً الى تجربته في العالم العربي؟
ـ بالتأكيد. هذا ما حدث فشيخ الرواية العربية نجيب محفوظ كرّس الحضور الجغرافي لفضاء مصري ربما يغطي جزءاً قليلاً من المدينة ولم يغط كل مصر. أيضاً، النماذج الإنسانية التي تعامل معها نجيب محفوظ ليست هي كل النماذج التي يعايشها الإنسان في هذا الوطن الكبير من محيطه الى خليجه، إضافة الى ان أكثر الأشياء حضوراً وبوفاء هي الهموم التي تتكلس في يوم الإنسان العربي في كل المنطقة. وهذا ما جعل أول عمل عربي يظهر للروائي عبد الرحمن منيف “الأشجار واغتيال مرزوق” يأخذ حضوره لخصوصية المعاناة الإنسانية التي عاشها البطل والجديد في ظروفه الموضوعية. وعلى مستوى مصر، فقد ظهر العديد من الأعمال الهامة الى جانب أعمال الاستاذ الكبير نجيب محفوظ منها أعمال صبري موسى، جمال الغيطاني وابراهيم أصلان والعديد من الأسماء الأجد، خصوصاً الحضور النسائي مثل سلوى بكر وميرال الطحاوي التي تملك فضاء سردياً مصرياً خاصاً له تمايزه دون غيره من كتّاب في مصر، وهذا نتيجة الفسيفساء الثقافية والتي تمثل التنوع في قطر واحد. فما بالك لو تحدثنا عن بقية الأقطار العربية؟ ففي الوقت نفسه، كان محمد عبد الولي أنجز العديد من نصوصه السردية في اليمن ولم تصل القارئ العربي الا في الفترة الأخيرة. ومنذ سنة أثيرت ضجة عالمية بخصوص منع رواية “صنعاء مدينة مفتوحة” علماً بأنه قد توفي منذ عام 1972. أما إذا انتقلنا الى المغرب العربي فهناك النص الخاص للطاهر بن جلون ومحمد شكري وروايات محمد برادة وغيرهم من المبدعين الى جانب أعمال كتاب في الجزائر استطاعوا ان يخرجوا بنصهم من توق العزلة مثل طاهر وطار ورشيد بو جدرة وواسيني الأعرج وغيرهم، خصوصاً الجيل الذي لم نقرأ له أعماله وإن كنت قد اطلعت على بعض الأخبار في الأسابيع الأخيرة عن وفاتهم في المنفى وأتذكر مجايليهم الذين تم تغييبهم من الذاكرة العربية. فقد انتبه الأخوة في الصحف العربية هذا الشهر الى وفاة محمد ديب والقليل من النقاد من قرأ أعماله بداية من الثلاثية الى “قابيل”. أيضاً المبدع مالك حداد وكاتب ياسين ومولود فرعون وغيرهم. وهناك النص المتميز الروائي في تونس وتحاصرني مشكلة الإشارة الى بعض الأسماء وتغييب البعض لأن الريبورتاج ليس استعراضاً لمعلومات فكرية. وقد تمت الإشارة الى مبدعين مهمين في ليبيا ونعرف الحضور الذي تحقق للمبدع السوداني الطيب صالح. وهذا الاستطراد قد نستطيع ان نجيب عنه بمختارات لمبدعين من كل قطر عربي ليؤكدون أن الرواية العربية لم تقف عند نجيب محفوظ، فقد كان للمرحوم مؤنس الرزاز وزميله غالب هلسا حضورهما وأيضاً هناك الحضور الذي يأخذ خصوصياته لحنا مينة في سوريا ولكتاب من بقية الاقطار العربية. وعندما نشير الى الخريطة الابداعية، فإن رواية مثل “مريم الحكاية” لعلوية صبح تفرض حضورها الطاغي وخصوصياتها وتشابك العلاقات داخلها. من هنا، يجد المرء نفسه أمام الكثير من الأعمال. ولم أشر الى أسماء أخرى من لبنان لها تمايزها وقدرتها السردية وحضورها. وأعرف أنني لم أتحدث عن أسماء كثيرة مهمة ولكن هذا على سبيل المثال.
أنت أقمت في مصر والامارات ودول خليجية أخرى واليمن والمغرب وسوريا وقبرص وتنقلت بين البلدان العربية كيف ترى الثقافة اليوم بالنسبة الى العقود السابقة؟
ـ ربما كانت الظروف مختلفة بين الماضي القريب والحاضر. فقد كانت وسائل التواصل شبه مهدومة في انتاج مبدعي الوطن العربي في الفترة الماضية وعلى الرغم من زخم قنوات التواصل الآن، خصوصاً الفضائيات وسهولة متابعة ما ينشر بواسطة الانترنت ووسائل الاتصال الحديثة من صحف ومجلات، الا أن المفارقة ان هذا الكم خلق تشويشاً أكثر من ترسيخ لحضور أسماء تستحق ذلك. في السنوات الماضية، كان النص الذي يصدر يجد مكانه ويجد متابعته في حدود المتاح ولكن الكم الهائل من الأعمال التي تغرق السوق العربي اليوم وفي غياب الناقد الجاد وغير المجامل يجعل من مسألة المتابعة واكتشاف الأصوات الهامة مسألة صعبة. والزمن كفيل بتحقيق الحضور الحقيقي للذين يستحقون ذلك ويغيب الكثير من الضجيج الاعلامي. أيضاً، نتيجة الكثرة، لم تعط الفرصة كاملة لما يصدر، الا أن مسألة كم اسم عربي لهم حضورهم وكتاباتهم أمثال غائب طعمة فرمان وغيره من الزملاء في كل المنطقة العربية، يقابلهم اليوم العديد من مبدعين يحفرون حضورهم، خصوصاً على مستوى الكتابة العربية. فرواية ميسون صقر الأخيرة فتحت جغرافية جزء كبير من منطقة الخليج واستحضرت نماذج انسانية لم نكن نعرف عنها شيئاً وغيرها وغيرها…
وفي النهاية فان الثقافة اليوم بالنسبة الى العقود السابقة قد ساهمت بعض الأسباب في تواصلها الذي كان شبه مقطوع، أيضاً الحضور الكمي الهائل لمبدعين شباب، وشباب تجاوزوا هذه المرحلة يعني الجيل الذي سبق الحاضر، وتحقق التواصل بينهم طرح العديد من الأسماء والنصوص والقضايا السردية المختلفة رواية وقصة ومسرحاً بالاضافة الى الشعر ـ ديوان العرب، وتبقى مسألة المقارنة بين الماضي والحاضر تحتاج دائماً الى الانتباه الى الظروف الموضوعية التي يجب أن نضع أعيننا عليها قبل إصدار احكامنا، خصوصاً في مسائل لا يكفيها الحيز الضيق عند استعراضها.
تكتب النقد والدراسات والأبحاث هل ترى ان في مصلحة النصوص الأدبية ان تواجه بنقد غير خاضع للمدارس النقدية والايديولوجية والسياسية كالبنيوية والتفكيكية والواقعية الاشتراكية والقومية؟ وكيف ترى حالة النقد الأدبي اليوم في العالم العربى؟
ـ ربما منهج الدراسة الأكاديمية هو الذي فرضته دراسة القانون وهذا ما يجعلني في بعض الدراسات ـ وليس الأدبية بالطبع ـ أن أحاول تحقيق منهجية. أما على مستوى التعامل الابداعي، ضمن المآزق التي استوردناها في منطقتنا العربية، العقول الأكاديمية التي درست في الغرب وبعض مناطق الشرق وجاءت بنظريات وحاولت اخضاع النص الابداعي العربي وحشره في نموذجها محاولين ان يستغرق هذا الإنموذج ويجبّ في داخله ما يكتب من عمل ابداعي، وهنا أصبح المتلقي في حيرة حيث لم يعد النقد ذلك المضيء للنص بل أحياناً لا نستوعب النص في ظل متابعة ما يكتب عنه. وأعتقد أن ما كتبه العديد من النقاد العرب تحت ذائقة اختياراتهم الايديولوجية والسياسية قد أفسد التواصل بين الجيد من الابداع العربي وبين المتلقي. والحمد لله ان الذين يقرأون لهم ليسوا بالكثرة. فقد ساهم بعض الذين اشرت اليهم في تكريس نصوص ليس على درجة كبيرة من الأهمية قياساً بغيرها، من مجايليهاا. ليس هذا فحسب بل الجريمة تكمن في تغييب نصوص تستحق فعلاً كل الحضور لأهميتها وجديدها وجديتها. وهذا ما يجعل المرء يقول ان الخريطة الإبداعية العربية تشوبها الكثير من الهنّات. والناقد الأدبي المفقود في منطقتنا العربية هو الناقد الذي يركز على النص ويحاسبه من داخله ولا يحمله ما هو بعيد عنه أو يثقله بالزوائد التي تبعده عن المتلقي وتقدم صورة محدّبة أو مقعّرة ولكنها بالتأكيد ليست الحقيقية.
___________________________________
نشر: المستقبل – السبت 14 حزيران 2003 – العدد 1321 – ثقافة و فنون – صفحة 20