قراءات

ضجيج المسلاتي

(الضجيج) المجموعة القصصية للكاتب محمد المسلاتي
(الضجيج) المجموعة القصصية للكاتب محمد المسلاتي

(إلى الذين يصنعون الخبزو السلام و الحب، رغم الحزن وطواحين الزمن وضجيج الحياة المستمر..).

هكذا صدّر المسلاتي مجموعته القصصية (الضجيج) قبل أكثر من أربعين عاما.

كنت أدرج نحو الخامسة عشرة حين وقعت بين يدي هذه المجموعة أثناء زياتي لمكتبة الشعب القديمة في قلب مصراته (أي بعد صدورها بنحو خمسة عشر عاما أو يزيد). قرأتها مرة ومرة إثر مرة. لقد سكن النواح المتصاعد من السطور أعماقي واستقر صمت مخيف في الفراغ وراء أضلعي على نحو لا يصدق.

هي باقة قصص ترسم واقعا مريرا في مجمله، لكنها في الواقع لاتتخذ من المكان قاعدة رئيسية بالرغم مما يظهر من نقيض لذلك، هي تخاطب الإنسان أينما كان. هي تحتوي على مواقف ذات نظرة تأملية غائرة تجاه الحياة والموت و البشر، ولقد احتوت هذه المجموعة الفريدة على قصص حادة الأثر تجعل أعماقك تلهث كأنك تمشي على بساط من الإبر الحادة. مثل (ستشرق الشمس يا طفلي)، و(حكاية رجل من القرية)، و(انتحار).

وعلى الرغم من مُضي أكثر من خمس وأربعين سنة على صدورها إلا أنها لعلها من المجموعات النادرة من الأقاصيص التي جعلت محمد المسلاتي يقدم فنا فريدا عبر سرد نسجه نسجا خاصا يتجاوز رحاب التاريخ والمكان، نسج فيه اختراق هائل وتحسس خاص لمواطن جمالية لم تكن مألوفة في هذا النوع من الكتابة، وهو قد وصل بالفعل إلى تلك الحدود القصوى التي تجعل منه رائدا كبيرا لم يستوفى حقه وحقها.

اليأس حتى الموت، والأمل الذي يناضل ليبعث بقية من بصيص نور للحياة، السائر سيلحظ دون شك أن ثمة قوة صاعقة تتحرك جيئة وذهابا بين هذين القطبين، هذه القوة هي التي تتابع سر الموت والحياة، في محاولة أليمة مضنية تجاوزت حدود المطروح في السرد القصصي الليبي لرصد وتحديد نوع تلك العلاقة الغامضة بين هذين الكائنين.

الموت ليس مدمرا بالكلية الحياة ليست عملية بناء بالكلية، العلاقة بين الموت والحياة تظهر كأنها علاقة توازن واكتفاء متبادل دون أي خلل في الرتبة. الموت والحياة، الأمل واليأس كائنان خفيان يعملان معا في طقوس غاية في الغرابة ليصنعا شيئا اسمه الواقع المعاش بكل آلامه ونجاحاته ومتناقضاته. لذلك، ربما يمكن القول ما يحدث داخل أروقة (الضجيج) هي محاولة استراق السمع إلى أصوات هذين الكائنين وتتبع آثار خطواتهما وهما يبنيان التاريخ والواقع والحياة المريرة من عين راصد لا يكاد ينفصل عن كل ضجيج رحى الحياة الدائرة التي لا تتوقف.

وربما مفتاح السر الذي يخلع تلك الهيبة عن سرديات هذه المجموعة كتابة هو تلك القوة الصامتة التي يملكها الكاتب نفسه التي تمكنه من فتح مغاليق السر الكبير المتواري خلف الحرف المكتوب وإطلاقه في الفضاء، وهذه القوة يستطيع بواسطتها تحقيق ما يسمى بالاختراق والولوج إلى فضاءات جديدة يكون رصد الأشياء والواقع منها شيئا مثيرا للتأمل والدهشة، وهذا لا يحدث إلا في لحظات وعي خارقة يظهر فيها كل شيء بمظهر غريب وغامض يحتاج لإطالة التأمل والتفسير والتأويل.

(الضجيج) هي باقة قصص كتبت للإنسان وأوجاع الإنسان وفجيعة الحياة وجلال الموت وجبروته..

مقالات ذات علاقة

تمثلات فكر النهضة في كتابات المرأة العربية

مريم سلامة

في رثاء الشعراء

ناصر سالم المقرحي

علي الزويك .. القائل بالروح عند عتبة عيادته

صلاح عجينة

اترك تعليق