أحمد البخاري
الصادق النيهوم “مفكّر إسلامي” ، هذا هو أول شيء خطر بذهني وأنا أقرأ كتاب ” نقاش ” للصادق النيهوم، الذي ما إن إنتهيت منه حتى تشكّلت لدّي مقدمات واضحة لفكر النيهوم وإلى ماذا يرمي، مما جعلني أمسك القلم، في محاولة فهم وتفكيك متواضعة لفكر النيهوم، ولأبيّن لماذا أطلقت عليه لفظ المفكّر الإسلامي، عكس ما كان يعتقد الآخريين..
الحقيقة إن إستراتيجيات وحلول النيهوم العملية للخروج من المأزق الحضاري والفكري الذي نحن فيه، دائماً ما تنطلق من داخل النص والفهم الإسلامي، وأبجديات المشروع الإسلامي، فالنيهوم يحاول إطلاق فهم جديد للأيدولوجية الإسلامية من خلال تقديم رؤية جديدة للإسلام والقرآن، رؤية جديدة تحاول أن تكون أكثر تنويرية وعمق، أي خلق بُعد فلسفي للإسلام والقرآن تحديداً ، وهو ما حاول فعله مفكري عصر النهضة، وأولهم إيراسموس، الذي حاول وضع تصوّر وقرآءة جديدة للإنجيل تبعده عن التطرّف والغلو والتكفير، ووضع بعد فلسفي له لتحويله من دين طقوس وعبادات إلى دين إنساني، وهي خطوة كانت مهمة للتدرج في أنسنة عصر التنوير قبل أن يأتي اللاحقون ويضعوا فلسفاتهم الإنسانية المجرّدة.
إذن قلنا بأن النيهوم في كتابه “نقاش”، يفعل ما يفعل أي شيخ دين تقليدي، وبنفس طريقة “الإسقاط” التقليدية، أي أنه يتحدّث بما يريد ثم يطعّمها بآيات قرآنية كأنها تدعم هذه الفكرة، ومع أن الكلام والآيات ربّما تكون منفصلة على أكثر من سياق، لكنه يصر على إسقاط كلّ كلماته على آيات قرآنية لإضفاء التأكيد الربّاني على هذه الكلمات، وهو ما يذكرني بأسلوب “سيد قطب” في كتبه، نفس الطريقة ونفس الديناميكية، وإن إختلفت الرسالة بالطبع بين فكر متشدد وفكر متنوّر.
وملخص ما يريد إيصاله النيهوم في الفصل الأول من كتابه “نقاش”، هو أن المعنى القرآني والفلسفة القرآنية لمعنى الحياة والموت لا تعنى الحياة والموت الطبيعيين، بل يُقصد بها، الحياة = النمو الفكري/التطور الفكري ، والموت = يقصد به الجمود والموت العقلي، ومن داخل هذه النظرية ينطلق النيهوم في تفسير وفك رموز العديد من المعاني القرآنية.
فالصنم في القرآن يقصد به الجمود الفكري، وعبادته يقصد بها عبادة التخلف، والكفر ليس هو عدم الإيمان بالله، بل هو عمل موجه ضد التطور الإنساني، أما عبودية الله، فالإنسان ليس مخيراً فيها، لأن عبودية الله تعني النمو والتطور الإنساني، حتى مناسك الذبح، يفسرها النيهوم بأنها تفضيل نموذج التطور الفكري على نموذج التكاثر لدى الحيوان.
ولكن يبقى السؤال الأهم، هل يحمّل النيهوم القرآن أكثر مما يتحمل، ألا يمكن أن يكون القرآن لا يعني كل هذه المعاني ببساطة، وأن الكفر يعني الكفر، والإيمان يعني الإيمان، والعبودية تعني العبودية، والصنم يعني تلك القطعة الحجرية التي على شكل إنسان.
إن النيهوم مفكّر إسلامي يصرّ على أن ينطلق من الحل الإسلامي ليعالج كلّ القضايا، فالجامع هو ديمقراطيتنا، والصلاة هي رياضتنا وجلسات العلاج النفسي لنا، والتنوير والثقافة والتحرر هي مرتكزات وأهداف إسلامية، والتعليم والقوانين لابد جميعها أن تنطلق من منطلق شرعي، إذن فهو ينكر أي إجتهاد إنساني خارج هذا الإطار ، بل يحثّ على توجيه الإجتهاد الإنساني في داخل الشريعة الإسلامية نفسها، وهو بذلك يعزز تجديد الفكر الإسلامي ودمجه في الحياة الدنيوية لا فصله عنها.
وفي نهاية الكتاب يؤكد لنا النيهوم على سعيه لدمج المنهج الإسلامي داخل الحياة الدنيوية لا فصلها، فتجده يقدم مجموعة من الحلول لتطبيق هذا، فقد أقترح توزيع مناهج كلية الشريعة على كلية الحقوق وكلية التربية، واعتماد ثقافة رجل القانون والمدرّس كثقافة إسلامية مؤهلة للوعظ، أيضاً إقترح مجلس إفتاء بدل المفتي به خبراء إجتماعيين وعلماء، وتسخير المسجد للتعليم وليكون مركزاً للخدمة الإجتماعية، وهو بذلك يقدّم نموذج لدولة إسلامية معاصرة لم يسبق لها مثيل، تعتمد في آلياتها على دمج الآليات الإسلامية داخل مؤسسات الدولة الحديثة.