علي عبدالنبي العبار
08.12.2013
كثرت في الآونة الأخيرة الأصوات الداعية إلى الديمقراطية و الحكم الديمقراطي على منهاج الغرب النصراني؛ حتى تخال أنه لم يعد يوجد أسلوب ثاني للحكم قد مر عليه التاريخ و أسس له الفلاسفة و المفكرون و العلماء بل و لا حتى أنه مر علينا أمم و أقوام و حضارات بمقام و رفعة و عظمة الأمة الإسلامية بنظامها السياسي الرائع البهيج و الذي قدم للبشرية النموذج الأمثل لإحقاق الحق و حفظ كرامة الخلق جميعاً و الأسلوب الأفضل لتسيير أمور الرعية و إدارة السياسة بشقيها الداخلي و الخارجي بل و الاقتصاد و الطب و التعليم و ما إليه .. دولة عظيمة بنظام مكين يستمد أسسه و مبادئه من منهاج الحق جل و علا خالق الكون أعلم به عن كل ما عداه.
ذلك النظام البديع و الذي لم يترك حق إلا حفظه لصاحبه في البر و البحر، بشراً و حيواناً و حتى العوالم الروحية لم ينسى لها حقها .. !!
و اليوم تأتي الأفواج الناقصة بما تتميز به الطبيعة البشرية – و أقول تتميز – من نقص لا ينفك عنها و لا تنفك عنه في كل ما يتعلق بها؛ تأتي تلك الأفواج تقودها بسببِ غفلةٍ أو جهلٍ أو قصدٍ؛ رؤوس مدفوعة بمصالح وطنية أو شخصية أو أجندات لا نعلم كنهها لتفرض على العالم شكل واحد من الأنظمة البشرية الناقصة القاصرة حتى أصبحنا لا نتكلم إلا عنه و لا نقسم إلا بشرفه؟!
و ما يدفعني هنا للاستغراب و الشك هو ما أراه من أفواجٍ أخرى من جيل أبناء الأمة من المتعلمون و المثقفون الذين ينساقون وراء ذلك بجد و جدية، بل و بشغفٍ كبيرٍ للمطالبة بهذا المنهج الواحد للحكم و لا يذكرون إلا هو يتغنون بجماله و يترنمون بابتهالاته و نسوا أو تناسوا هم أيضاً أن علم و مبادئ السياسة طرحة العديد من أساليب الحكم و طرق قيادة و تسيير شؤون الرعية كل حسب ظروفه و عاداته و تقاليده بل و حتى انتماءاته و دينه.
و ما يزيد الطين بِلَّةً أننا لم نكلف أنفسنا عناء البحث و التقصي المتريث المتأني لهذا الأسلوب و ذاك النهج الذي صلح للغرب رغم أننا جميعاً نعلم و بدون أدنى شك نقص هذا المنهج و قصوره عن الوصول إلى أعلى ما يصبوا إليه مفكريه و منفذيه و المؤمنون به، لأن ما في هذه الديمقراطية الغربية من عوزٍ و قصورٍ تتضح جليةً في جوانبِ الحياة الغربية ابتداء من قانون الانتخابات إلى القوانين المالية و المصرفية إلى قوانين الحرية الجنسية حتى قانون الحقوق الدينية، و يكفينا ما أنتج هذا النظام من سلطات خفية و شركاتٍ متعددةَ الجنسيات و ويلاتها على شعوب العالم؟!!
و يكفي ما أقره الكاتب الصحفي الأمريكي “روبرت دريفوس” في توصياته للإدارة الأمريكية بما سماه (تخفيض حرارة السياسة تحت قدر الحركة الإسلامية)؛ فقد أستهل النقطة الثالثة بقوله:”لابد أن تتوقف الولايات المتحدة عن السعي إلى فرض خياراتها المفضلة على المنطقة. و منذ 2001 سببت الولايات المتحدة أضراراً لا نهاية لها بمطالبتها إقامة شرق أوسط أكبر يتوافق مع الرؤية الأمريكية للديمقراطية..” و يتابع القول:”..و ينظر كثيرون إلى مطالبة المتشددين أصحاب الرؤى المثالية في حكومة بوش بالديمقراطية في العالم العربي و إيران على أنه بطانة مقنعة لمزيد من التدخل و التورط في المنطقة..”، و يختمها بالقول:”..و هو ما يعني في النهاية ضرورة أن ترفع الولايات المتحدة يدها عن المنطقة فيما يتعلق بالديمقراطية في العالم الإسلامي”(1).
و من هنا فإنَّ ما أثق به و أعتقده اعتقادا جازماً أننا نحن أمة الإسلام المحمدية لا يناسبنا إلا أسلوبُ حُكمٍ واحد لا ثاني له و لا مثيل له في التاريخ و هو الذي ارتفعت به أمتنا على مدى ألف و أربعمائة سنة إلى سنام العزة و الكرامة و الإنتاج و العطاء و البناء و التطور و التقدم و قل ما شئت حتى أننا نحن أهل التنمية المستدامة و حماية البيئة و التنمية البشرية و حدث و لا حرج و الأدلةُ -لو أن لدي المتسع من الوقت و المجال- كثيرةٌ و حقيقيةٌ و واقعيةٌ صحيحة.
و ما يجعل هذا المنهج أصلح كونه منهج صالح لكل زمانٍ و مكان؛ ذلك لأنه يحمل في خصائصه التمدد و التطور و السعة و المرونة، خاصةً إذا عرفنا أنَّ هذا النظام السامي بُنيَ على أرضية إنسانية واقعية تراعي كوننا بشراً لنا إحتياجاتنا و إمكانياتنا و محيطنا الذي نتأثر به و نؤثر فيه؛ و قاعدة ثوابت إلهيه تتعامل مع أرواحنا و ألبابنا لتمكننا من التعاطي مع خالقنا و العالم الرباني الروحاني من حولنا بالشكل الذي يدعمنا للسمو بهما –أي الروح و العقل- عن مستويات الدون إلى كوننا بشرٌ أبناءُ آدمٍ و حواء؛ و أعمدةُ أركانٍ أساسية نلتزم بها لتلزمنا بالسير على الطريق القويم و الصراط المستقيم و تكون لنا كالمراقب الذي يدلنا على الصواب إذا أخطأنا و كالدليل الذي يرشدنا إلى الجادة إذا ضيَّعنا أو إنحرفنا؛ و لنا في الجُدرِ بعد ذلك و المكملات و الزخارف ما نراه مناسباً مما تصلح به دنيانا و تسير به مراكبنا إلى السلامة و بر الأمان.
و لهذا قال صلى الله عليه وسلم “أنتم أعلمُ بأمور دنياكم”(2) و قال صلى الله عليه وسلم أيضاً “أستفتي قلبك”(3)، و قول علماء الأمة في وجوب مراعاة الأمور التي توجب تغيّر الفتوى “من تغيّر الزمان والمكان والحال والعرف، وما أضفنا إليه من موجبات أخرى اقتبسناها من فقه الواقع المعاش من حولنا؛ من تغيّر المعلومات، وتغيّر الحاجات، وتغيّر القدرات، وتغيّر الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وتغيّر الرأي والفكر، وعموم البلوى. وهذه كلها تعطي المفتي مرونة وسعة في الإجابة السليمة الموافقة للشرع في كل تساؤل يطرحه الناس؛ إن المفتي الموفق هو الذي يحسن فقه النصوص الشرعية، رادّا الفروع إلى الأصول، والظواهر إلى المقاصد، ويحسن كذلك فهم الواقع، فلا يكتفي أن ينظر إلى ما هو واجب؛ بل ينظر إلى ما هو واقع، مزاوجا بين الواجب والواقع؛ كما يقول الإمام ابن القيم. وبهذا يسلم المفتي الملتزم إذ تكون فتواه محكمة، لا يخالفها نقل، ولا يناقضها عقل”(4). و قد تمهّلَ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في تطبيق حد السرقة في الإسلام لأن شروطه لم تستوفى و هو السرقة بطراً بل يسَّر على الناس بالتعزير – و هو الوعظ و النصح – لأن العام عام قحط و الأغنياء قصروا في أداء الزكاة و الصدقات، فوجد رضي الله عنه في التعزير مندوحة عن قطع يد السارق حاجةً و عوزاً(5)، و هذه و الكثير مثلها في تراث الأمة الإسلامية و منهج حكمها السامي و الذي يدل على ما ذكرناه من المرونة لكونه صالحاً لكل زمان و مكان و حال، بل هو الأصلح.
خذ على سبيل المثال شكل السلطة الحاكمة في المنهج الإسلام، فأرضيته البشرية هو كون الحاكم فيها غير معصوم فهو ليس إله أو ناطق بإسمه، و قاعدته الإلهية الثابتة هو أن العدل أساس الحكم، و أعمدة ركنه المكينة الشورى و الأمة. فأساس نظام الحكم الشوري العادل في المنهج الإسلامي هم أهل الحل و العقد (مجلس الشورى) و الذين تختارهم الأمة على أُسُس تناسب معتقداتنا و عاداتنا و تقاليدنا العريقة و مبادئنا السامية و يتم اختيارهم بشروط غاية في الشفافية و الدقة و الطهر و النقاء و الصدق؛ و إنها و الله لغاية في الروعة و الجلال، هؤلاء هم خيرت أبناء الأمة و رجالاتها يشترط فيهم أن تجتمع عليهم الأمة في كونهم ذوي صفات و شيم لابد أن تكون فيهم و لابد أن يكونوا عليها؛ و من أهمها التقوى و الورع و الصدق و الأمانة و الحكمة و العدل و العلم و العمل بهذا العلم و الشهامة و الشجاعة و المروءة بعد الإسلام و العقل و غيرها، و هذه الصفات و الشيم هي التي تعصم –بإذن الله- الأمة و قادتها من الوقوع في انحرافات و منعطفات كثيرة، و لنا في التاريخ مندوحة من تجارب و قصص، و من بين هؤلاء بل و خيرت هؤلاء –و كلهم أخيار- يختار زعيم الأمة أو أميرها أو خليفتها أو رئيسها و لا مشاحة في المسميات. و يبقى للأمة نظام الشورى السامي و لها حقوق في عزلهم أو رئيسهم إذا ما حاد عن النهج السليم و السبيل القويم، و مشاركتهم و مشاورتهم في كل القرارات المصيرية للأمة، و الفصل القائم للسلطة القضائية في المنهج الإسلامي بالنسبة لنظام الحكم الشوري و الكثير مما تزخر به كتب السياسة الشرعية و غيرها.
و على هذا الاساس فإنه لا يوجد شيء أسمه حكومة إسلامية؟! و لكن كما وصفها صلى الله عليه وسلم “خلافة على منهاج النبوة”(6) فهو المنهج إسلاميٌ ربانيٌ لأنه يستمد قواعده الأساسية من المنهج القرآني من عدلٍ و غيره مما ذكرنا سالفاً، و نظم حكمٍ شوريةً إنسانية مرنة بإختلاف تفاصيلها، و أقول إنسانية و ليست بشرية لأنها تراعي الأنسانية الواقعية البعيدة عن المثالية و التي راعاها الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة و أزكى التسليم و طبقها بعد ذلك صحابته الكرام رضوان الله عليهم أجمعين؛ و يتضح ذلك في حديثه صلى الله عليه وسلم في بناء الكعبة لأمنا عائشة رضي الله عنها و أرضاها حين قال :”يا عائشة، لولا أن قومك حديثُ عهدٍ بجاهلية لأمرت بالبيت فهُدم”(7)؟!!
و إني لأتساءل هل هناك من هو عاقل يُعرَضُ عليه هذا النظام النقي المكين المتماسك و يرفض أو يختار غيره؟؟؟!!! بماذا أتت إلينا ديمقراطيتهم؟ الأنتخابات على أساس ماذا؟؟ حزبي قبلي جهوي؟ و ماذا يجب أن تكون مواصفات هذا البرلمان أم هؤلاء البرلمانيين؟؟ لا شيء من ذلك إلا ما يتماشى مع مصالح هذا و ذاك و هذا ما لا يتحقق معه العدل أبداً؛ هل هذا ما تصلح به الأمة أو بَلادٌ هو جزءٌ من الأمة..
و ختاماً لا أريد من مخالف أن يأتي لي بمثالٍ غربيٍ قائل “أنظر للمسلمين اليوم” فسأقول له أنظر للنصارى الغربيين بالأمس، أي بمعنى أننا لا نقيس المنهج و الأسلوب بحال الناس و انحرافاتهم فلا يعني طبيب منحرف سوء الطب و المطالبة بإلغائه؟! أو حادث سيارة إلغاء السيارات من العالم أجمع؟!! أو أو أو.. و إن انحراف المسلمين عن المنهج الرباني القويم هو ما رمى بهم على قارعة الطريق لأن سنن الله لا تحابي و هو عز من قائل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّـهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}** فهو قرار و عمل تتبعه نتيجة؛ و لكنني أريد من القارئ أن يأخذ الموضوع بشكل منطقي و موضوعي و واقعي و يعطيه الوقت و الفرصة أن يختمر في عقله و يشبعه مدارسةً و تحليلاً ليقدم لنا بعد ذلك رأيه بشكل أكثر عدلاً و أدق بحثاً و أروع حداثة؛ فأسلوبٌ و منهجٌ قاد أعظم أمم الكون و أرقى حضارات بني البشر لأربعة عشر قرناً يستحق أن ننصفه و نقف عنده دارسين متمعنين لنعطيه جزء من حقه أو حقه كاملاً.
** سورة محمد الآية 7
1. كتاب “لعبة الشيطان” روبرت دريفوس صفحة 25 (مركز دراسات الاسلام و الغرب) طبعة سبتمبر 2010.
2. من حديثٍ عن أنس رضي الله عنه أخرجه مسلم كما ذكره ابن خزيمة في صحيحه، وابن حبان في صحيحه وغيرهم بروايات مختلفة.
3. من حديثٍ عن وابصة بن معبد رضي الله عنه أخرجه جمع من رواة الأثر, منهم المنذري في الترغيب والترهيب، قال الألباني: حسن لغيره.
4. (موجبات تغير الفتوى في عصرنا) للشيخ / يوسف القرضاوي.
5. و ليس هذا تغييرا في أصل الْحُكْم الشرعي، وإنما هذا من باب السياسة الشرعية؛ لأن الإسلام جاء بِدرء الحدود، أي أنها تُدْفَع إلى أن تَثْبُت ثباتا بيِّنا. والْمَجَاعَة (في عام الرمادة) شُبْهَة تُدفَع بها تُهمة السرقة؛ لأن السارق في سِنِيّ المجاعة إنما ألجأه إلى السرقة الجوع والفاقة، و كل هذا له أصل في المنهج الإسلامي القويم.
6. من حديثٍ رواه الإمام أحمد عن النعمان بن بشير رضي الله عنه الله، و رواه أيضًا الطيالسي والبيهقي في منهاج النبوة، والطبري ، والحديث صححه الألباني في السلسلة الصحيحة، وحسنه الأرناؤوط.
7. أخرج البخاري بسنده عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: يا عائشة، لولا أن قومك حديثُ عهدٍ بجاهلية لأمرت بالبيت فهُدم، فأدخلت فيه ما أخرج منه، وألزقته بالأرض، وجعلت له بابين، بابًا شرقيًا وبابًا غربيًا، فبلغت به أساس إبراهيم. {صحيح البخاري: 1586}. و هذه القاعدة أصل عظيم من أصول الشريعة الإسلامية القائمة على جلب المصالح و درء المفاسد، و معناها أنه إذا تعارضت مفسدة ومصلحة قدم دفع المفسدة غالبًا، لأن اعتناء الشرع بترك المنهيات أشد من اعتنائه بفعل المأمورات، ولذا قال صلى الله عليه وسلم : “إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه”
alabbar111@hotmail.com