مضى يوم ميلادي، ولم تقل لي صوفي: “كل عام وأنت بخير”، كذلك لم تفعلها أية امرأة من نساء “نسوة في المدينة”، حتى شركة جوال ووطنية والبنك لم يفعلوها، ولا محرك البحث جوجل، لم يحتفل بي كما احتفل العام الماضي. ابناي لم يقولا لي كل عام وأنت بخير، ابني الصغير لم أره طوال يوم الثلاثين من تموز، وزملاء العمل تجاهلوني تجاهلا غريباً، كما لم تفعل المنتديات والمواقع الإلكترونية، حزنت لذلك، قليلا على غير العادة، لأنني صرت لا أعول كثيرا على “من هو ليس لي”. زوجتي وبناتي، وبعض الأصدقاء والصديقات، اهتموا بذلك…
لكن… هل يجب على كل هؤلاء أن يقولوا لي كل عام وأنت بخير؟ أعتقد نعم.
صوفي… لم أنس التاريخ الذي ولدتْ فيه، ولم أكن بحاجة إلى الفيسبوك ليذكرني. نسوة المدينة القابعات في كتابي يعانين كلهن من البلادة، لا أعرف تاريخ ميلادهن جميعا فقد بلغ عددهن الأربعين؛ ثمة امرأة ولدت في الأول من كانون الأول، وثانية في الخامس عشر من الشهر نفسه، وأخرى في السادس عشر من فبراير، ورابعة في الواحد والثلاثين من آذار، وأخرى في العشرين من فبراير أيضا، وسادسة في الثالث والعشرين من تموز، وامرأة قديمة جدا كانت من مواليد الأول من نيسان، وامرأة أشد توغلا في القِدَم من هذه، ولدتْ في الأول من كانون الثاني. أعرف أسماءهن بطبيعة الحال والسنة التي ولدن فيها. لكنهن جميعا نسين أنني كنت يوما “على قيد علاقة ما” ليس شرطا أن تكون حبا، بل ربما كانت مجرد متعة عابرة في سرير افتراضي. واحدة فقط كان لها حضور فعليّ خارج العالم الأزرق. تمتعنا عن قرب بالحب كثيرا لكنها ذابت وراء الحجب وصارت تكرهني على الرغم من أنها أعطتني كل شيء وأعطيتها كل ما أستطيع.
ثمة نساء من هؤلاء احتفلتُ معهنّ بأعياد ميلادهن في المقاهي، في أعوام كثيرة، وتواريخ متناثرة على امتداد العام، كانت تلك المقاهي تزدان بنا، لم أكن أشعل لهن شمعاً، لأنهن كن يردن أن يكون الاحتفال صامتاً أو بينيّاً ليظل أكثر حميمية وخصوصية. النادلون كان يلاحظون احتفالنا الصامت هذا. لم أكن أحضر لهنّ هدايا سوى القصائد. أتلو عليهن قصائدي ونحن في المقهى. حبي لكل واحدة منهن وإخلاصي لهن على حدة لم يكن يجعلني أكرر القصيدة الواحدة لامرأتين، لأن كل قصيدة كتبت لصاحبتها وضمنتها ما يجعلها لها، فلا تصلح لغيرها. كانت لغتي الشعرية في تلك الفترة غنية وثرية وتساعدني على أن أفعل ذلك. المهم أنني كنت أشعر بالسعادة أنا وهنّ وكل رواد المقهى، نعيش تلك الحظات بكل ما أوتينا من “غرام” وإمكانية وصل؛ بالنظر والحديث والمتعة الروحية. وكنا نتحدث في أمور أكثر حساسية وجمالا، ولم نكُن نسى السياسة والثقافة والمثقفين. كنا نقول كل شيء تقريبا على طاولة المقهى.
في حالتي هذه لا عذر في الصمت أو في الغياب، متيقن أنني لم أكن سوى عابرٍ كما هنّ، لكنني عابر بذاكرة وفيّة، أما هنّ فعابرات بلا ذاكرة، ولذلك من الطبيعي ألا يتذكرنَ اليوم الذي ولدتُ فيه، وأعتقد أنهن سيقلن إن التقينا يوما: “من هذا الواقف كجذع شجرة مائلة؟” وأنا سأغض الطرف عنهنّ وأمضي كأنني لم أكن أعرف ملمس جلدهنّ، ولا مقاسات أو ألوان “ملابسهنّ الداخلية”. هذه الجملة ليست استعارة من فيلم “أبو العربي وصل”. إنها حقيقية تماماً، وما زلت أحتفظ بصور تلك الملابس في الذاكرتين الإلكترونية والدماغية.
صوفي الوحيدة التي لم تقل لي شيئاً، وظلت تصحبني على حذر، بعد أن قرأت “نسوة في المدينة” ظل التوجس يلاحقها، ربما أحبتني، لكنها لم تثق بي إلى درجة كافية لأرى شعرها مثلا، هل من أجل ذلك لها الحق ألا تقول لي: كل عام وأنت بخير؟ أعرف أنها لم تنس، بل تذكرت، لكنها تعمدت ألا تقول شيئاً، لأنه ليس لها عندي شيء مما ذكرت سابقاً، فهي لم تمرّ في سريري الافتراضي، ولم تخبرني عن ألوانها المفضلة في ثيابها الداخلية، لكنها كانت ترغب في أن يكون لها ولد مني. هذه امرأة عجيبة بالفعل، تنسى عيد ميلادي، لكنها ترغب في ولد يتخلّق في رحمها من نطفي المهرقة على الأسرة الافتراضية.
يبدو أنني كتبت كل هذا لأعاتب صوفي، صوفي فقط، عزة النفس تجعلني لا أرسل لها رسالة أذكرها. أيعقل أن أراسل النساء وأذكرهن بعيد ميلادي؟ فعلتها مرة واحدة مع امرأة واحدة، هزئت مني وشتمتني بأقذع الشتائم. على أية حال هي امرأة تتقن الشتائم جدا، وقاموسها- والحمد لله- متضخم جدا لا ينضب؛ في محادثة واحدة شتمتني 100 شتيمة، لم تكرر أيا من تلك الشتائم. تصبّ عليّ جام غضبها بسرعة متناهية، أتصورها تنام وتحلم وتصحو وهي تبدع في خلق الشتائم التي تتوالد بطريقة رياضية عجيبة، بحيث تسلم من التلعثم والتكرار، شتائمها في الحقيقة لا تُحتمل، لا أدري كيف صبرتُ على قراءتها أو سماعها. أظنني ما زلت قادرا على سماعها، إذ تُعدّ بين حين وآخر وصلة “ردح معتبرة” كلما علا منسوب الأدرنالين في دمها تجاهي وتذكرتني، كانت تختم وصلتها بأن تتمنى لي الموت. فكيف ستقول لي هذه البدّاعة: كل عام وأنت يخير؟ إن حدث ذلك سيكون مخالفا لأبسط قواعد المنطق التي تدّعي أنها مغرمة فيه.
صوفي لا تعرف الشتائم، وإن غضبت، تلوذ إلى حزنها بصمت مكثف، هل هذا الذي جعلها كالبنك وشركات الاتصال وجوجل لم تقل لي “كل عام وأنت بخير”؟ على سيرة البنك وشركات الاتصال معهم حق ألا يعايدوني، فقد أصبحت مدينا لهم بمجموعة من الفواتير، لا أحد يقول لمعسرٍ “مرحبا” أو كل عام وأنت بخير، وكما يقول المثل: امرأة واحدة تحب الرجل الفقير هي والدته فقط، ربما أنا والدتي لا تحبني. هل تصدقون؟ أمي لم تقل لي هي أيضا كل عام وأنت بخير، لا في هذا العام، ولا في أي عام مضى، ربما لم تتذكر أنها أنجبت هذا المخلوق المعسر المتعسر في مثل هذا اليوم قبل خمسين عاماً. يا له من عيد ميلاد مميز! لقد أصبح عمري نصف قرن.
في هذه السنة، وفي هذا العيد، أوقفت كل شركات الاتصال جميع خدماتها عني، وصرت خارج التغطية، كأنهم وضعوني على الهامش، بل ركلوني حتى غدوت خارج النص تماماً وخارج الدفتر بالكليّة، وأطفؤوا المصابيح دوني. صوفي لا تفعل مثلهم، إنها ليست رأسمالية التفكير، وليست شيوعية أيضاً. إنما هي امرأة واقعية، واقعة في “حيص بيص” لذلك هي تنسى أن تقول لي كل يوم “صباح الخير”، فهل ستقول لي: كل عام وأنت بخير؟ أظن أن عليّ أن أفكر بها بطريقة أكثر واقعية، فهي امرأة لا تحب الغرق في بحر من الأوهام. هذا ما أحسسته قبل أيام عندما تحدثنا لبعض الوقت في مناسبة شبيهة بهذه المناسبة. أرجو ألا تعاتبني صوفي على هذه التوجسات. فأنا أحبها على أية حال.
أبي… الغائب الوحيد الذي أوجعني صمته. هذا أول عيد ميلاد لم يكن فيه أبي على قيد الحياة. كان في مثل هذا اليوم يزورني، ونشرب القهوة وندخن سويّة. الآن لا أب لي ليقول كما كان يقول- أحياناً- عندما يتذكر: كل عام وأنت بخير. الأب يتذكر أكثر من أي شخص آخر عيد ميلاد أبنائه، وإن هم تجاهلوا، فإنه لا يتجاهل، ولا يتناسى، ولا يتعامى، إنما صوفي قد تفعل ذلك مضطرة تحت ضغط عواطف مضطربة وآنية وأنانية. إنما أبي فأسمعه يبتسم، وأراه وهو يقول ما عجز كل هؤلاء عن قوله. رحمك الله يا أبي، وأطال عمرك فيّ، أيها المقيم في لغتي وقلبي وعدّ أيامي السالفة والباقية. كم أتمنى أن أعيش أكثر لأشعر أنك موجود فيّ، أعيدكَ إلى جانبي لنتحدث قليلاً، ولو على صفحتين من نصّ، كمثل هذا. أتظنّ أن ذلك سيكفي؟