طيوب عربية

رواية “باب الريح” المغربي عبد الإله بسكمار أو تباريح الألم وارتجاجات الذاكرة الجريحة  

عزيز باكوش | المغرب

رواية " باب الريح" المغربي عبد الإله بسكمار
رواية ” باب الريح” المغربي عبد الإله بسكمار

إذا أردت أن تعرف مدينة تازة خلال حقبة السبعينيات وما تلاها. إذا ما سولت لك نفسك استشراف معالم “مدينة النحاس” كما يحلو لمؤلف الرواية، سواء كجغرافيا وتاريخ، كفضاءات وأمكنة، طقوس وعادات وثنيات وسلالات، ثقافة وتربية، أصول أم تهجير، أو على صعيد التجاذبات السياسية لدى قبائل الشباشب، وقناعات الطرابيش، وانتهازية الشترتر.  إذا ما تولدت لديك الرغبة في استكشاف خرائط النبض الاجتماعي للإقليم بالتفاصيل الشيطانية المريبة، وإلقاء نظرة على ذهنيات الناس وتضاريس علاقاتهم الاجتماعية، وآليات تدبيرهم للأفراح والجنائز والمسرات، وسبر غور فصيلة من البشرية تبعثر دروبها بنظام. وحتى إذا ما ساورتك فكرة استكناه تضاريس الخبل والجنون وما يهتبل بمارستانات الأوهام، وتحفل به ذهنيات مساطيل البشر، واستطلاع كائنات إنسية في تنوع وغنى روافدها الثقافية والتربوية، في انزياحات منظومتها الأخلاقية، لا تتردد لحظة واحدة في قراءة روايتي “قبة السوق” الصادرة عام 2012، وباب الريح” طبعة 2022. للكاتب والإعلامي التازي المغربي ذعبد الإله بسكمار حتما، المنجزين من أفضل الأعمال الأدبية حول الحاضرة التازية المنشورة حتى الآن، بل وأمتعها على الاطلاق. ثمة مساحات شاسعة للمتاع والموانسة للإستفادة الملهمة. فسحة أكثر من مناسبة لتوسيع قاعدة المعارف، وإشباع مملكة الفضول المعرفي للتاريخ والمجتمع التازي في فترة محددة، تحت سفوح ذاكرة لا تنضب بالذكريات تمتد، وما تجود به من ظلال تتواتر بين السخونة والبرودة حد الإيذاء، سخية محلقة في أعالي السريرة، بجناحين من حرير تحت أسقف البوح القاسي الرحيم.

أما رغبتك في اقتفاء أثر الكاتب، ومن تراه يكون عبد الإله بسكمار في نظرك؟  فالإجابة ببساطة ودون أدنى مواربة . إنه  ذلك الخط المستقيم بين الروايتين. إنه الكاتب الذي لم يسمح لقلمه السردي الانتقائية في التطرق لكل جوانب الحقبة التاريخية المراد الاستغوار في أعماقها السفلية. لقد نفض الغبار عن مجتمع التنشئة في بساطته وتناقضاته العرضانية. مقتحما ومدججا بحبال الذاكرة، بلغة سردية ضليعة، وقدرة مذهلة على الغوص، تزاوج بين الفصحى والعامية، العلني والرمزية، كنهج آمن لرفع منسوب الفهم والوعي بمكونات مجتمع عريق أصيل وتشكلت طبقاته الاجتماعية وتكلست بشعبية فائقة الوصف، وترسبت إلى جانب ما أفرزته حداثة هجينة مع مرور الزمن لتمسي بذلك موروثة ومكتسبة بالكامل.

في روايته ” باب الريح ” التي جاءت بالقطع المتوسط في 182 صفحة، طبعة 2022، لم يكن دور الكاتب ليقتصرعلى رسم الإيجابيات والنأي عن السلبيات، والاقتصار على اقتناص كل ما هو جميل بالأساس في منجزه الحفري بامتياز. بل أصر على غمس ريشته في واقع مدادهما السريالي، وملأ بياض الذاكرة بسرد ملهم سلس رحيم حينا وشديد القسوة حينا آخر، رئيف في عناده، متواتر القسوة، لم يطأ دائرة التمجيد والتزلف لأحد أبدا. فالروايتين في جوهرهما حكواتي واحد، من حكواتيين متعددين يرأسهم مخبول باب الجمعة.   ولأن الحكي لا يستأذن أحدا.  فلماذا يستأذننا مخبول باب الجمعة الدخول في سرديات مشفرة ومرموزة لا أول لها ولا آخر؟  دعونا نتحلق بأجنحة من لذة ملتاعة حول مخبولنا، ونقرقب سوارت الربح، ولي ما صلى على لنبي ما يربح..  

نشر الأديب عبد الإله بسكمار روايته الأولى “قبة السوق” عام 2012، وبعدها ب 15 سنة، سيصدر عملا روائيا ثانيا اختار له كعنوان ” باب الريح. وبينمهما، إصدارات علمية وأدبية. كتاب “تازة بين القرنين 15 و20 الوظائف والأدوار” 2014. كتاب” تقريب المفازة إلى أعلام تازة “2017. قصص للأطفال “أطفال في الزوبعة” 2019.  كتاب “تازة عبر الرحلات الجغرافية والاستكشافية –  نماذج من العصرين الوسيط والحديث 2021.

وفي الروايتين معا، يتشكل السرد الشيق الممتع شلالا متدفقا يتيح استنطاق الحقب المترسبة عميقا في الذاكرة، مانحا الظل للنفس البشرية في ضلالها وتيهانها في سماوات القيظ والمكان، واهبا صفاء البوح تحت مجهر دقيق عالم يرصد ما يمور داخل مستنقع من الإحباط والانتكاس المتجدد.  وإذا ما اعتبرنا رواية ” باب الريح” امتدادا تيميا لرواية “قبة السوق”، وبالرغم من سعة مخزونها، وجاذبية أسلوبها في الحفر قصد استخراج المغمور وتفكيك المرموز، فإن هناك افتراضا بديهيا يقيم للسرد حدودا، كما للحكي السخي شبه قيود. إذ لا يمكن أن تتشكل طبقات الحكي المتشعبة التكوين، إلا عندما تسمح بذلك قوى طبيعية أخرى. من هنا يأتي الإسناد المعروف “أي تشابه لشخصيات الرواية مع شخوص واقعية هو من قبيل الصدفة، ولا يتعدى الضرورة الفنية «. كقراء عاشقين أو مفصليين، سنكتشف مدينة من نحاس، “مدينة النحاس بنتها الجن لسليمان بن داوود عليهما السلام في فيافي الأندلس بالمغرب الأقصى قريباً من بحر الظلمات ” وفق بعض المراجع ” وقد انتقد المؤرخ ابن خلدون هذه القصة، واستبعد أن تكون واقعية حيث قال في كتابه “تاريخ ابن خلدون” بأن هذه القصة مستحيلة منافية للأمور الطبيعة في بناء المدن واختطاطها، وأن المعادن غايتها في الأرض هو صنع الأواني والخزف”. وبالعودة إلى مدينتنا، أبطالها حكواتيون مستنيرون، ومعتوهون متنورون، ومخبولون فلاسفة، أناسها صالحون طيبون وديعون عند الاستمتاع الشقي أوالموانسة الرحيمة.  قوادها سياسيون أغبياء جهلة، وبناة مجدها حرفيون بسطاء بفكر ثاقب، وجموح لا يحد، ولن نستطيع رغم انجرافنا مع تموجات السرد وانزياحاته الجميلة في نهاية المطاف، سوى الإذعان لصوت الحكي النبيل لمخبول باب الجمعة بمنتهى الأريحية والصغي المستنير.

لكن قبل ذلك، من تكون باب الريح إذن؟ إنها ببساطة، أفضل مكان تعلن فيه الطبيعة شراستها، فتصبح رياحها حمقاء تتلاعب بالأردية والبشر والحجر.  في باب الريح تسلط العواصف أجنحتها الشرسة على الحيطان القديمة والمنازل الكئيبة الطالعة في خاصرة “قبة السوق” ذلك المجال شبه المغلق المحمي من شدة الأنواء والأرياح”.  والكاتب إنما أراد هنا تعرية ما تختزنه الأبواب التاريخية كمداخل لنبض المجتمع وما تمور به الفضاءات من احتكاكات ومشاهد بصرية مخبولة متناثرة أمام الريح. إذ عبر هذا الباب، النفق السردي الطويل المفتوح الممتدة جروحه عميقا في الذاكرة، نرافق مجانين المدينة، ونتقصى أولياءها، ونصيخ السمع لحكمائها، ونلعن بصوت رجيم انتهازيي المرحلة وساستها الأغبياء، لا سيما من أطلق عليهم الكاتب اسم ” الشترتر”. إن اقتفاء أثر الرجل الذي امتهن الترويع والترهيب لمرتادي السوق البراني، وأدمن المرور المجنون العاري بأبواب المدينة وفضاءاتها العامرة والصاخبة بدء من باب الجمعة، بوقلال، باب الريح، يشكل عبئا إضافيا ومؤثر فعلي سيطبع حياة الأفراد ويساهم في تشكيل جزء من ذواتهم، إنه دمغ سلوكي ينضاف إلى قسوة الرياح العاتية التي تخبط أبواب المدينة وتعلن سطوتها متلاعبة بالبشر عابثة بالطرابيش والملاءات والسلاهم، وبقوتها العاتية في أيام الزمهرير تستطيع إيقاف محركات عربة بأربعة خيول عن التقدم شبرا واحدا.

في “باب الريح” نتحرى المعيش اليومي في نماذج من البشر اعتقادا وممارسة، نقتفي أثر شوافة السوق البراني التي تستنطق الماضي الحاضر والمستقبل بأشياء حقيرة. تضرب الكارطة، أوراق لعب مهترئة، تمني الحيارى والمفلسين والحالمين والواهمين ” وتضخم آمال العانسات والباحثات عن الزوج الرحيم، أو الحظ اللعين. وتضرب الخط للواتي يسحرن لأزواجهن أو من لهن شريكات غريمات ” الشوافة التي لها شأن وجاه، حظيت ولا تزال تحظى بتقدير مجتمعي معتبر. أسقطت العديد من الوجوه والأعيان في شباكها بمن فيهم الصديق بطل الرواية.  وطارزان ذلك الشرير الغامض الذي يعبر صراحة عن رغبته الجارفة في تدمير العالم بحركة دائرية لخاتم تضخم حد التقزز ببنصره، سيدفن لاحقا يدفن على يد ثلة من بائسي المدينة ومنسيي باب الريح بأعالي مقبرة سيدي عبد الجليل.  والمدعو بسلام الممرض الإرهابي مع زوجته دون غيرها من عباد الله. لأنه في الخارج أجبن من ذبابة”

إن هذا العمل الروائي المدهش حقا، هو نقل حي ومباشر للصراخ والجنون والهلاوس والتناقضات وأشكال التمرد والعصيان الأسري والظلم الممتد المترسب عرضانيا في المجتمع في حقبة السبعينيات وما تلاها بمدينة النحاس.  إن شخصية “النفزة ” العجنهي المتكبر الذي يتعمد إذلال الدراويش، المجدولي المختار، الفياشي ،المنجوري، بوحسوس المظلوم التعس الكادح في محطة حافلات شركة بوقلال. والذي سيضع حدا لحياة “النفزة” بثلاث طعنات قاتلة ذات زوال مشمس وهادئ بزقاق الحاج ميمون ثأرا لكرامته المستباحة.  فهذا المياوم البسيط سلم نفسه للبوليس بعد العملية مباشرة، بعد أن شعر بإزاحة ثقل كبير عن حياته”لم يفر من العدالة كأي جبان نذل.  أما مخبول باب الجمعة، فقد أخذ زمام الحكي فيواصل دون كلل أو ملل.

أولئك الذين جايلوا  الكاتب  وتنفسوا هواء باب الريح  سيتذكرون سلسلة قائمة طويلة من مجانين المرحلة ”  تسديدات حجرية  “الشريفة” ذلك المخبول  بعصاه الشهيرة،” اطرب بقليب وتشوف بجنيب كنعجة مع الديب”  مداهمات المخبول  طارزان، صاحب خاتم ضيق البنصر حد التقزز ،  صرخات “إيرجو” صاحب أخطر اللعنات وأجرئها على الإطلاق يتطاول على الكون وخالقه ،  خشخش، إلى تعرية جسد عمي باكورة باع عمو وشرا كورة، مخلوقة غريبة تطوف على المقاهي تستجدي بإلحاحية ووقاحة وإصرار، إنها بومة حقيقية ملتحفة بجلباب رمادي يشترك مع المولى عز وجل في صفتي القدم والبقاء”سرعان ما تنهال باللعنات “اليهود الكفرة الله يعطينا لفنا، الله يفنيها علينا وعليكم ،اقلوب الكياس اقلوب الحجر”

إن قدرة الكاتب على المزج بين سوداوية الكوميديا، وكوميدية التراجيديا، كانت بارعة للغاية. وكأنه يجعل من سردياته ترجمة حقيقية لإكسير الحياة التي لا تستقيم إلا بضلع أعوج، فالحياة تبدأ بالموت، لتعلن ولادتها من جديد. وهي تعتبر من مميزات السرد الجميل الحبكة، والغني بأساليبه وصوره البلاغية عند الكاتب، ورسمه لأحداث واختياره لأبطال رواياته. تلك القدرة المذهلة التي استمدها من قدسية مهنة الأستاذية على مدى أربعة عقود.. وإذا كان كاتب روايتي “قبة السوق” وباب الريح ” يعيش اليوم خريف عمره في تازة، معقل انتمائه الروحي متدثرا بالقدر الكافي من وجع ذكريات الماضي وضجيج الحاضر. فذلك لأنه عاش فترة من شباب متقلبة الأطوار.  طالبا جامعيا ثوريا وتقدميا في السبعينيات، وفي مطلع الثمانينيات أستاذا وصحفيا متمتعا بروح استقصائية، مسكونا بهاجس البحث والاطلاع مهووسا بالقراءة مسكونا بالإبداع.  وقد لبس جبة المؤرخ من خلال الحفر بجرأة نادرة.

وتبقى شخصية الصديق بن كمران المازوني البطل الرئيسي في الروايتين معا، الدربكي في الأصل والمتفنن بعد ذلك في صنعة الدوائر”إسفنج مقلي في الزيت” البسيطة والمركبة في قبة السوق القلب النابض للمدينة. وأحد أعيان مدينة النحاس وأقوى المثالين ومنتجي النوادر وصناعة المتعة بلا تكلف وأصحاب الرأي فيها كذلك. ثم عائلته الكبيرة وزوجته الفاضلة كنزة بنت الفقيه الوزاني، وأبناؤه عبد الهادي عبد الوهاب عباس وعبد الخالق وميلود… دليلا على الاندماج القسري في المجتمع بغناه ومكوناته ونبضه اليومي.  شخصية نموذجية ستشكل لاحقا صفحة مربكة من كتاب التجاذب السياسي الأسري الممتد عرضانيا في المجتمع. الصديق الرجل الذي شهد كل المحطات، وعايش النكبات واستأنس الرجات والصدمات وانتصر عليها بالنكتة والفذلكة.  رجل الظرافة والمؤانسة بامتياز في المجالس والجنائز والأفراح. علاوة على ذلك الرجل عاشق للمتع ومولوع بالموسيقى يبسط الناس وتنبسط أسارير زبناء قبة السوق وعابرو سبيلها، على إيقاع نغمات التولالي والرايس والوكيلي ثم عبد الوهاب وأم كلثوم حتى النخاع، محب للحياة متيم بالسينما، ولم يبخل على نفسه وعلى كنزة زوجته بليال ساهرة مع فيلم لفريد الأطرش على شاشة سينما الأطلس القاعة الوحيدة بتازة العليا. مواكب وفي لما تمور به الأحداث وطنيا ودوليا عبر الإذاعة الوطنية والتلفزيون لاحقا.    

والصديق إلى ذلك ملجأ رئيسي لأصحاب البذل الكاكية للتزود بالدوائرالحريرية ” شي زلافة دلحريرة ألمعلم الصديق” شي دوائر”اسفنجات مقلية بالزيت شهية ومقرملة ” سخونة أبا الصديق” كان يفلق البيضة بشهية فادحة ويخلطها بقديد يتحلب له ريق البشر والحجر”وكان يتميز في قبة السوق بسخريته المريرة، ونطق متسم بتثاقل معروف في المدينة كلها «هذ خينا عوال على الحشاوي وفالصباح دربي العالمين” يقول لبائع البيض الذي وضع الصالح أعلى الكيس والفاسد أسفله. دايرلي أولد اللاز “الحسنات مالفوق والسيئات من التحت”

وعندما يشتد الوقت ويضيق الحال يرثي ترديه “يقذف الصديق مرارته عبر نكتة سمجة او تمتمة إلهية أثناء سجود ما، وخلال دعاء ملتبس أو حتى ببضعة شقوفا” مخدرالكيف” أو تلال من مخدر طابة الحبيبة، أو كويرة معجون طازجة لزجة. مخدر منتج محليا غاية في التنغيم وتفريغ لهب الدواخل «الله علي وعلى حالتي أنا غير احمار الموقف «ص 24 وهي مشاهد بصرية طريفة ومليحة طبعت قبة السوق كما وسمت مدينة النحاس من أعلاها إلى أسفلها.

وجاء اليوم الذي شهدت فيه مدينة النحاس اكتساحا غير مسبوق بفوز قبيلة الطرابيش” حزب الاستقلال” بجل مقاعد المجلس البلدي. وهو حدث سياسي بارز سيلقي بظلاله على التركيبة الأسرية للصديق. لا سيما وأن ابنه عبد الهادي ساهم في ليلة احتفالية مشهودة بمقر الطرابيش بأعلى باب الجمعة، فيما ظل أخوه ميلود ثم عبد الخالق غير راضين بهذا الفوز، بل متعاطفين مع الشباشب” حزب الاتحاد الاشتراكي لقناعتهم بالتضحيات والشعارات التقدمية والثورية التي يحمونها ويدافعون عنها.  وشهد طرابيش المدينة من حرفيين ومياومين وتجار قبة السوق احتفالات ورقصات فرح وانتشاء بهذا الحدث.

وفي مقابل تعاطف عبد الهادي وميلود مع قبيلة الشباشب، نكاية وتشفيا ضد قبيلة الطرابيش الذين يوزعون” أكياس الدقيق ومولاتي الزرقا ” على البسطاء والأميين في حملاتهم الانتخابية مقابل وضع الورقة الانتخابية الزرقاء لقبيلة الطرابيش، هناك بروز حماسي للمشروع الشباشيبي رغم الانتكاسات والهزيمة، فقبيلة الشباشيب في عرف الطرابيش و”الشترتر” ظلت عرضة للسب والشتم بوصفهم ملاحدة لا يؤمنون بالله عز وجل. ولا يثقون بالقدر خيره وشره. ولا شك أنهم مساخط الملك، كما أن هؤلاء يتعاطون الكيف والمعجون ويبرمون “الجوانات” سجائر محشوة بمخدر، وأكثرهم يكرعون الكؤوس حتى الاغماء ” مع اعتلاء مفاجئ بإيعاز من المخزن ما أسماهم الكاتب “قبيلة الشترتر” كنموذج لأعطاب المرحلة.   

ويبدو أن الكاتب هنا يلمح بأن الرهان في التحديث المجتمعي، واعتلاء قيم الدمقراطية عبر الفكر الاشتراكي كان قويا وجارفا في أوساط شبابية حالمة، بحيث لم نكن نقو نحن الذين عايشنا هذه الحقبة بالذات على القول بأن الاشتراكية فاشلة.  في وقت لم يسلم فيه أي كاتب أو صحفي مستنير من الرقابة السياسية، والضغط الاجتماعي، ولعل هذه من بين الظلال التي سمحت بتغيير أسماء أبطال الرواية الحقيقيين واستبدالها بألقاب من صنع الخيال الخلاق.   

الصديق هذا الكائن المتعدد المواهب والتجاذبات شخصية المرحلة وعنوانها الأبرز.  إذ فضلا عن كونه أكبر حرفيي قبة السوق، وأحد وجهاء مدينة النحاس البارزين، فهو شاهد عصر، ووثيقة تاريخية مساعدة على تفكيك أكواد وعلب تركيبة أسرة، مجتمع مبعثر الملامح متناقض المسارات متداخل العلاقات متوازن في حبك المتاهات. إنه أكبر شارح وأوثقه، وفاعل ومتفاعل مع تمفصلات واقع حياة اجتماعية بتجلياتها الظاهرة والغابرة. رجل الطربوش الأحمر المبهج مع الجلابة تحتها سروال قندريسة فضفاض منتعلا بلغة بيضاء، عنوان لشخصية محورية عاشت حزنت واستمعت أثرت وتأثرت وساهمت في تشكيل وبناء تجاذبات المرحلة، بسياسييها الأغبياء الجهلة المطربشين، وملامح الصاعدين المستنيرين الشباشبة وقبيلة” الشترتر ” من لا لون ولا طعم لهم.  فقط الرائحة. وهي طغمة فاسدة تشكلت بإيعاز من المخزن للتضييق على طموح الثورة الناشئة.

من خلال السرد نتعرف على الصديق الذي يعيش اضطرابا وسط ثنائية سياسية بين من أسماهم “الاستغلاليون أصحاب الطرابيش ” أتباع حزب الاستقلال” سارقو الجلود والملاعق والتجزئات والأموال. مركب مصالحي من اللصوص، آكلوا السحت وأموال الفقراء، ومن سماهم ب موالين الشباشب والمكلخين والمقملين والحشايشيا والموسخين. ويقصد اتباع الاتحاد الاشتراكي.  “واما لك أبا الصديق ياك لاباس؟  يميل حالي أكثر ماراه مايل” يرد الصديق بأوتار صوتية متسامية في التناغم الممتع ”  

هو إلى جانب ذلك هو لسان حال مرحلة بتردي الوضع الاجتماعي والاقتصادي لأغلبية الساكنة فترة سادت فيها الأمية والجهل والاعتماد على الذات لدى أغلب الفئات الاجتماعية التي امتهنت حرفا ومهنا يدوية وتجارة لا تسمن ولا تغني من جوع. فئة شكلت فريسة سهلة للمركب المصالحي الطرابيشي وعبدت الطريق أمامه للركوب المريح، وتحقيق قفزات عقارية لازالت ظلالها تتراخى حتى الآن «أويل من خانتو صحتوا” قالها الصديق بتموج متسم بالتثاقل الممزوج بمكر السخرية اللاذع «الصحة بلا جيب لاش؟  لأي شيء تصلح؟ الصحة مع الحزقة والميزيرية الموت أفضل منها “

من جهة ثانية، الصديق شاهد عصر وصندوق أسود لحفظ تواتر المعارك واحتكاكات وصدامات المرحلة. إنه زاوية متفردة لرصد أبرز حركات وسكنات ومشاهد درب بني كلبون. وموثق نبيه لمرحلة بكل تجاذباتها السياسية المصالحية، ونظرتها الواعية المتزنة في تقييم الأمور ـ وإن كانت لا تخلو أحيانا من قفشات مرة وسخرية سوداء تحتاج وحدها لرسالة تأملية عميقة. ” يقول عن قبيلة الطرابيش «أوراق الانتخابات الملونة “الكل أصبح زعيما، الصراخ والهذيان، الوعود المعسولة، والجنات الموهومة.  أحد من أسماهم بالخنازير أقسم بأغلظ الإيمان مع أنه لا إيمان له.  واعدا بسطاء قبة السوق وبائسي أحراش وباب الريح وأيضا الساكنة السفلى لمدينة النحاس بصنع قطار طائر ودون أجنحة، بقوة السميع العليم وإرادة الشعب العظيم وعزيمة هذا الخنزير” قطار يربط مدينة النحاس علياها بسفلاها.

ومادام الشيء بالشيء يذكر، تشاء صدف التاريخ الماكرة، أن يقدم أحدهم من نفس قبيلة الطرابيش ومن أصول تازية، بعد مرور خمسة عقود. على تقديم وعد مشابه لساكنة فاس في عز حملة انتخابية بإنشاء بحر محيط بمنطقة واد فاس بالعاصمة العلمية. هي لعبة سياسية يتقنها البعض فعلا، لعنة الله عليهم أجمعين” قالوا للحمار ما أحسن لك، واش لحذورة ولا العقبة، قاليهم الله ينعل والدين ماهم مجموعين” ففي العقبة يتعذب هذا المخلوف البئيس، صعودا مؤلما. وفي المنحدر يندفع نزولا رهيبا عبر عذاب مضن من نوع آخر، بفعل ثقل الضربات المبرحة التي تنزل عليه بسبب او بدونه” ص21.

ويرتفع منسوب جلد الذات في قالب من السخرية اللاذعة حين يشتري الصديق كبش العيد، ليجده جلد فوق عظم فيحول الفرحة الأسرية المقدسة إلى انتكاسة دائمة “يوم عيد الصديق كحل زحل ” العيد عند اسيادي ماشي عندي أنا، خلا دار لالا. ووجه أصبعا فظا إلى وجهه” ويتابع بغصة” أويلي الخروف اعباد الله ب 15 ألف فرنك فيه شبر دالشحمة، وزقة دليدام، تفليقة داله الحد، ثم يضيف كمن أخذته الصيحة خلقني ربي غير حشية، انا غير حمار الموقف ثم في تهدج” الله يهزني عندوا” ص76 

ولإبراز فداحة الظلم المقترف في حق بعض النساء من طرف القضاة وبعض إقطاعيي ومالكي زمام الأمور والسلطة خلال هذه الحقبة، نتعرف في فصل مأساوي آخر على المدعوة “حقيقو فريطيزة”، إحدى حفيدات القاضي الفقيه الطاهر الذي كان مهيمنا ظلما وعدوانا على مساحات شاسعة بكل الطرق الوسائل بفضل سلطته كقاض معروف «فانتقاما وثأرا لكرامتها ظلت حقيقو ترمي أزبالها وقذارة بيتها على قبر جدها الأكبر «القاضي” تلقيها على رمسه المتقادم. وتبصق على قبره بحقد سرمدي وألم كاسح «الله يحرقك في قبرك، اعطيتي الورت للدراري، وحرمتي الوليات أش تقول لمولاك؟ تفو؟  وغير ذلك أشكال الظلم المسلط على البسطاء المغلوبين على أمرهم، ” من شاخوا وسط البيصارة والحرمان، مرضوا ثم رحلوا عن هذا العالم ببساطة ” 53

لكن الصديق بطل الروايتين معا، ستجبره الظروف ذات خريف كئيب على اللجوء إلى شوافة السوق البراني وبإلحاح من زوجنه كنزة بنت لفقيه الوزاني. وكان الهدف هو استشراف مصير ابنهما البكر ميلود ” المشكوك في انتمائه لتيار الشباشب ” حزب الاتحاد الاشتراكي” ويبدو أن الصديق جرب مع ابنه العاق كل سبل الهداية، دون أن يفلح في وضعه على الصراط المستقيم “إذ فضلا عن الأدوية والأسحرة وعظام الجردان وقراءة الأكف والصحون والفناجين لم يفلح كل ذلك في ثني الإبن المتمرد العاق، إلى أن توجه الصديق ذات يوم أغبر إلى الابتدائية، وتمرغ ببساطة رهيبة أمام وكيل الملك ليقبل عثرته ويعتق رقبته من ابنه الشقي ” وكان شهرا موقوف التنفيد هو كل العقاب”

ونحن نصيخ السمع إلى سيرة وسلوك ميلود الإبن البكر العاق الذي اتخذ من والديه سورا قصيرا للسب والشتم، نشعر بعمق الأسى وسعة صدر الصديق في الصبر والمكابدة. ونتحرى الأسباب والآثار وسوء التربية ونتجرع الندم حيث لا ينفع. لكن حين تصعد شرارات اللهب إلى خلايا رأس الصديق فيصرخ في وجه ميلود “غادي نديك لسيدي فرج أو لبويا عمر أ الجيفة أمسخوط الوالدين “.  فميلود هو الولادة الثالثة بعد أن لم تكتب الحياة للوليدين الأول الذي توفي في المهد، وتلاه الثاني. فتسميته ميلود جاءت كبشارة خير تيمنا بالبشارة والحياة المتدفقة بعد طول هم وغم. لكن للقدر خيارات محزنة 

وفي حكي عباس “هذ بنادم يقصد ميلود “فيه “لكين” يعني يحمل معه النحس، أينما حل وارتحل ومنذ عاد من اتحاد الجمهوريات” كان ميلود أحد شباب تازة وأنضج الأطر الحزبية وأكثرهم حماسا ممن اختارهم الحزب آنذاك للسفر والدراسة   في جمهوريات الاتحاد السوفياتي. وحصل على دبلوم مهندس معماري. لم يسعف ظروف المدينة على إدماجه واستغلال خبرته.” يبدو أن الصدمة كانت طاحنة، فخلطت لديه الأخماس بالأسداس مباشرة بعد رجوعه إلى البلد والمصائب تلاحقنا” يعلق مهبول باب الجمعة” لتشتعل المعارك الطاحنة من جديد، دورة حزينة لا نهاية لها. ومع الذهول لظهور اسم عبد الهادي في الجريدة سيعم الأسرة فرح طفولي، ياليت أيامنا كلها مقالا ت “

والحقيقة، أن الرواية في جانب على قدر كبير من الأهمية، تنقلنا إلى صفحات مشرقة من الوعي الجماهيري بتازة، والتعبئة للنضال ضد الحكرة بكل تجلياتها الظاهرة والباطنة. تترجمها أخبار الإضرابات التي تزعمها رجال التعليم طلائعيا بإيعاز من الشباشب، الذين لم تقتصر تحركاتهم على تأطير الشبيبة بل ساهموا في تعبئة الحرفيين، وأسسوا تجمعات للصنايعية والنقايرية والقطانين والحمالين والإسكافيين والكوايا وبائعي الغاز والدخان والحمالة.. بهدف التصدي لكل أشكال الحقرة والوقوف ضد القهر. كما نتعرف كذلك على صور بطولية من المقاومة التازية ضد المستعمر، فبعد إعلان الاستقلال أحرق القوم الهائجون سيارة أحد الأطباء الإفرنج، مع أنه كان يؤدي واجبا إنسانيا. ونتعرف على الهجوم على دار العسالي الذي كان يتعاون مع المستعمر. في محاولة لحرقه حيا باعتباره من خونة الوطن، الوراية تحلق بنا أيضا في عالم الموضة والجمال الأنثوي خلال تلك الحقبة.  في شخص منانة بنت الجغرودية المعروفة بخربوشة التي طارت شهرتها مدينة النحاس. كائن أنثوي ذاهل بجغرافيته وأنساق جنونه تميزت المرأة بسفورها المبين، عينان كحليتان، بياض شمعداني رهيف، شعر منسدل حتى الخصر، رغم تجاوزها الثلاثين ملامح جمال إجرامي متفرد” ص72

بالعودة إلى شخصية ميلود الابن البكر العاق الذي ناصب العداء لوالده الصديق لأسباب سيكشف عنها دون مواربة.  نجده ضحية لسوء تربية وأثر مدمر لتربية غير لائقة ” في هذا الصدد يقول أخوه الأكبر عبد الخالق ” تلقى ما تيسر من وجبات اللكوط وقضيب الزيتون والسمطة على يد أبيه، وعلى يد فقيه لمسيد المرحوم سي حميدة الكحلوش بواسطة سوطه الجلدي الشهير، بكل حماس وسرور. تبعا لتوصية الصديق نفسه ” انت ذبح وانا نسلخ ” حتى انطبع وشم أبدي لازم ميلود إلى النهاية. وبمجرد ما انفتح على اليفاعة، بدأ يرد الصاع صاعين، ولم ينس أن ينكل أيضا بإخوته” إنه نوع من الانتقام للذات من ظلم لحق بها جراء تربية غير لائقة في فترة حساسة ما ليس إلا. وإمعانا في الانتقام للاحتقار الذي لحقه من فقيه المسجد ووالده الصديق، ظل ميلود يتهكم بمرارة متهكما من تواتر الليالي التي يقضيها والده دون انقطاع مع شلته حتى الثالثة صباحا، أمام الصواني المملوءة بالشقوفا ديال الكيف إلى جانب كؤوس الشاي المنعنع، مع تلال طابا وكريات مخدر”المعجون”. وهو نفسه الذي لا يتخلف عن المواعد الخمسة المعلومة قياما وركوعا وسجودا. والله غفور رحيم.

إن انبهار الكاتب يتيمة الحكواتي، حفزه على اعتماد الحكي المضلل سقيفة تحمي مشروعه السردي من منزلقات الذاكرة في أبسط تجلياتها. الأمر الذي عمل على تقوية الثقة في المضمن السردي باعتباره أقوى سند وأحد أشد الحوافز جرأة لنقل الثقافة الشعبية بتناقضاتها بغنى وثراء مكوناتها، وتأصيل الموروث المتداول بانزياحاته وتناقضاته في إنتاج النماذج البشرية. جاء ذلك جليا وواضحا. إنه السبيل الآمن لإنجاز السرد الروائي بمخاطره وانجرافاته الصعبة الارتياد. لكنه سرعان ما سيتردد قليلا في السير على نفس الطريق. وسيكتشف أن الميل إلى الاختباء والصمت يتنافى مع روح العمل الجماعي وفلسفة الأدب، الأمر الذي تركه يسرد الواقع المعيش في حكايات أقرب إلى الخيال منها إلا الواقع، متأثرا في ذلك بخزان لا ينضب من ذكريات الطفولة والشباب التي قضاها بتازة العتيقة. لكنه ظل يتفادى إلحاق أي ضرر مهما كان بحياة بعض من مجايلييه، أناس حقيقيين ربما كان يشاطرهم توجهاتهم وقناعاتهم في الثورة والتمرد والعصيان الثوري والتقدمي الذي ميز تلك الحقب من سنوات الرصاص.

من جهة أخرى، تلخص الرواية جزء من تاريخ المدينة الذي “يفسره القاتل والمقتول ” ويظل الصراخ والجنون طبقة تربوية مترسبة في سلالات مدينة النحاس العليا بأزقتها وأسوارها وأبراجها ومعابدها وأضرحتها ودورها الكبيرة من باب الجمعة لباب الزيتونة لباب الريح، ومعها الريح والتسريح وعبو والريح «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم زهرك المكفس أصديق الميمون لمقود” ثم يردف بمرارة مروعة ” الله يلعن دين ماها قسمية حتى يموت الكلب” ص44.    وعقب اختيار الصديق لمباشرة أحد أبنائه حانوت الثياب بقبة السوق، سيلتحق بعالم الأثواب بجانب مقلاته بعد صرفه عن الدراسة دون استشارته «هذ الولد ما يقضي طايلة فالقراية”. لكن في لحظة الأقوى تصعيدا وتوهجا. سيفجر أحد الزبناء وهو أستاذ الفلسفة لهيبا كامنا مستعرا في الدواخل ” لن تجد مثل عالم الحروف والكلمات والمفاهيم صدقني؟  فتى في مقتبل العمر، يهفو إلى عالم غامض من الرؤى والخيالات والأحلام، وربما الأوهام أيضا، هو عالمك الحقيقي والأوحد، أسمى من كل تلك الثياب والاقمشة والشراوط «. وأضاف “

اهتبل فرصة العمر، وحاول تكوين نفسك قبل فوات الأوان ” رنت الكلمات داخله كرقصة قاهرة مجنونة كأسئلة معذبة لتباريح الجسد والروح كعلامات تعجب واستفهام مستفزة لكل الدواخل” ص58 وكانت لحظة فارقة للتاريخ والحقيقة.

كنت أقرأ فصلا من رواية (باب الريح) حينما اجتاحتني موجة ضحك هيستيري. فاضت دموعي ومسني شعور بالخجل من نفسي. كانت المقهى شبه مملوءة بالزبناء، فيما أقبع في الواجهة مثل مقدم نشرة الأخبار. أضحك ثم أمسح دموع الضحك ألتفت يمينا ويسارا ثم أضحك وقد دسست رأسي في صدري في الصفحة 80 من الرواية، يسأل موظف الفندق العتيق ببوجلود بفاس البالي الصديق بنكمرة القادم من مدينة النحاس بصفته مسؤول الأسرة عن بطاقته الوطنية كوثيقة ضرورية لتسجيل المبيت. وبعد أن فتش الصديق جيوب جلبابه قال في حسرة: نسيتها اسيدي في مدينة النحاس! تأمله صاحب الشاب الوسيم خلف الكونطوار. وقال بعد صمت: إما انت نحاس وإما منحوس. تنبه الصديق وكأنما لسعته عقرب فرد في مكر ملحق: وليَّهْ ماتقولش أنا عندي لقل…وي ذالنحاس؟ وأشار إلى قبله” . الصديق ليس كائن طوبيسي كما يقال . إنه مزيج من شخصية متعددة المشارب ، عاشق السفريات والتجوال . ومحب للمتع في أجواء عائلية من مدينة النحاس إلى مناطق متفرقة خارجها، فاس ومنها إلى حامة مولاي يعقوب، مرورا بسيدي حرازم. ثمة صدف تلهب الدواخل وتصنع الأمزجة وتخلق التوازنات أينما حل وارتحل ضابط الشرطة بكوميسارية فاس طلع ابن تازة وصديق العائلة. رجل الشقوفا بالحافلة والحامة، في حافلات تازة وجدة والأسواق أو عبر قطار الكاتريام بكراسيه الخشبية المهترئة، الذي يتجرجر ويتأرجح ويتزلزل. وحين سأله أحدهم “اودي كاين الفرق غير في الكوسانات راه تران تران «الكوسانات هي فاش قالت خرر” يعلق عبد الهادي. “

وبعد كل هذه الملاحم والبطولات وصراع الأجنحة وسطوة المستبدين وصراخ الحمقى وتهافت المجانين. تم العثور على طارزان باردا معلقا في أحد أعمدة الكهرباء بأحراش قلب لمدينة العتيقة. هل وضع طارزان حدا لحياته بعد ان تعب ومل من كل شيء؟ هل استطاع غريمه بوسلام أن يغدر به ويجهز عليه ويعلقه بعمود كهربائي بباب أحراش بهذه الطريقة البشعة؟ هل انتقم أخيرا من تنكيل بوسلام بزوجته الوديعة زينب دونما فرق بين الحق الباطل؟ هل طمع مجهولون في خاتمه اللامع فقاومهم بشدة؟ وبين هذا وذاك يظل الصديق بطل الروايتين الشخصية الخالدة بما تحمله من مواصفات الحكمة والاتزان في نظر المؤلف، التهور والانزياح في نظر الكثيرين هو دينامو الحكي، ومحور النبش في حقب اجتماعية مفرطة الحساسية تاريخا واجتماعا، بشغبها الماحق، ودهاء جيلها الطموح وبساطة أهلها الطيبين”.

ومع مرور الزمن، الذي سيفعل فعلته، لم يعد لمعلم الصديق كما كان، لا سيما بعد أن فقد ابنه عبد الخالق، وبعد أن أفاق من غيه وضربه اللحد، هدوء غريب ملفح بالحزن الدفين.  لعله ذلك العذاب الداخلي المحزن. لقد وضع الصديق مسافة بينه وبين الجمع المبارك. شلة الحصيرة والشقوفا وتاي ومعجون الكيف . فلا حميدة لبصير ولا الحاج الصرعاوي ولا بيبي بائع المسامير ولا المجدولي الحلاق ولا الخنفوس الذي انتقل إلى جوار ربه فالجميع انفرد بنفسه وذويه أو رحل بالمرة عن هذه المقلاة القذرة ” وأصبح الصديق يساعد في اشغال البيت ويطبخ ” أنا عييت وتهديت الصحة مشات “

ورغم كل الانزياحات المتفرقة. فالتغيير قد همنا جميعا بدرجة أو بأخرى نحن إلى بعض التوازنات الملتبسة. وميلود باتجاه مزيد من الأحلام والأوهام والانزياحات، كنزة لم تتغير كثيرا، زاد الذهول فقط مع شعور مختلط تجاه الكاملة وأبنائها ويخطئ من يعتقد أن الصديق بقي هوهو. شيء ما تحطم بداخله مرفأ صميمي وخيط سري بات واضحا وهشا معا”ص171.  منذ رحيل عبد الخالق أصبحوا يذكرونه. أما الزيارة والترحم فلا تتم إلا عبر فترات متقطعة متباعدة. لا تنس أنه مقيم في المجاهدين بالبوغاز على بعد مآت الكلمترات.  فكأنما نذر الشاب نفسه وقد راح للغربة في مقتبل العمر في أبهى مشاهدها غربة في الحياة وفي الممات ” ص172.

في الصباح وما أقل أحلامه الساحرة ذهب إلى الموضع المعلوم من المعهد العالي للتنشئة.  فوجد اسمه براقا على لوحة الشرف. لم تسعه الأرض من الفرح. وكيف ينبعث هذا الملعون من قلب الأسى والألم؟ خلال المباراة المعلومة، استبدت به لا مبالاة رهيبة. لم يعد يهمه إن كان للأمس غد أو لليل صباح، أو لزمنه أي أفق.  لكن سبحان مبدل الأحوال. أحس الآن أنه يعانق الوجود بكامله. المجال الأرض الوطن السماء الشمس الناس.  يتدفق الحب دون مرافئ. هو كذلك زف الخبر إلى أخيه عباس ثم الصديق الذي فرح أيضا وبعده الأم.  التي جددت رضاها عليه ودعت معه ومعهم ومع الأخ الأكبر”.

لكن زيارة البقاع المقدسة لغفر ما تقدم وما تأخر واجب أخلاقي. بدأ الصديق في الغدو والرواح من أجل تدبير الوثائق وأتى اليوم المعلوم. فوجدوا الطائرة في انتظاره ودموع المآقي تبل الرائح والغادي رشوا عليه ماء الزهر والتحف هو بالبياض.  وانهمرت الدموع مجددا.  وفي روعة السحر كانت الإذاعة تعلن بناء الجدار السادس في الصحراء من طرف القوات المسلحة. انتهت الحرب عمليا وقذف بالمرتزقة خارج الحدود. ص182  

عبد الإله بسكمار إعلامي وصحفي وأستاذ ومبدع وهو اليوم واحد من أبرز الروائيين في الحاضرة التازية، ليس لأن كتاباته تتضمن فهما عميقا لذاكرة مجايليه، وتحليلا ثاقبا للحالة السياسية الثقافية والاجتماعية لبلد نشئته تازة، بل لكونه يتعامل مع مجموعة متنوعة من الخلائق البشرية وبعقلية مستبئرة مستنيرة ومتبصرة.

بدأ عبد الاله بسكمار النشر أواسط الثمانيات في الصحافة الورقية بدء من الاتحاد الاشتراكي، الأحداث المغربية، صوت الناس كما في منابر وطنية بالمعنى الرصاصي للتحقيب التاريخي بالمغرب. وله ريبيرتوارا متميزا في مجال الحضارة والتاريخ المدني للحاضرة التازية. هو من مؤسسي ورئيس مركز ابن بري للدراسات والأبحاث وحماية التراث بتازة. وعضو النقابة الوطنية للصحافة المغربية   وأحد نشطاء العمل الجمعوي الجاد وهو إلى ذلك سكرتير التحرير لجريدة تازة بريس الإلكترونية.

يبدو أن الأديب عبد الإله بسكمار قد عثر بعد مسار طويل على ضالته في  الرواية ،كمجال السرد الأدبي، الذي منحه قدرة هائلة على الاستبئار والنبش في الذاكرة بأدق التفاصيل، وبنفس القدر مساحة شاسعة للتأمل بحرية واستقلالية في شحنة الذاكرة ،كما في طبيعة ومجريات حياة شخوص وشخصيات مرت سادت ثم بادت، ذلك أن تنقيط المشاعر بعد رصدها، والتعبير عنها بموضوعية بعيدا عن النمطية في الكتابة، جعلت الكاتب يحلق عاليا في سماوات الإبداع سواء عبر صيغ البلاغة والتشبيهات، أوفي استلهام الموروث المجتمعي مادة لنسج متعة الخيال الأدبي. وهو في ذلك ولا شك مثل صقر ثاقب النظر، يرتفع لديه منسوب الحساسية تجاه مالا يليق. موهبة خلاقة في تنويع الأساليب اللغوية وزوايا الرؤية الفنية لذبذبات المجتمع ونبض معيشة اليومي في محاولة لإخراجه من الضحالة والابتذال.

ولأن حبل إنتاج السرد الأدبي موهبة متواصلة وبحماس في تجربة عبد الإله بسكمار كأستاذ للغة العربية بسلك الثانوي وصحفي مقتدر.  فهو مواظب على نشر أفكاره وخواطره وما تجود به الذاكرة من شذرات بتواتر على صفحته الرسمية بالفايسبوك. هناك يبدع أشعاره وقصصه بسخاء كما ينثرها بذورا يافعة بين الفينة والأخرى بجريدته تازة بريس أو في مختلف المنابر والمواقع والصحف الورقية والإلكترونية.

  يتميز الكاتب باستحضار كل تفاصيل الموقف الذي يريد التعبير، عنه فيكون جزءا منه. فتراه محلقا عاليا في سماوات المرحلة بأجنحة مدببة الحواف، يلتقط الأصداف من عمق المياه الراكدة، ويقتلع من الغابة نباتاتها الطفيلية المتوحشة بقفازات من حرير. واصفا المخبول بخبل، والداهية بدهاء والظالم بجفاء والمظلوم برهافة حسية، كما لو أن القارئ يتعاطف وإياه بعد أن يراه.  ويبدو جليا أن السرد خيار يبدع فيه الكاتب بألوان الطيف موصلا الإحساس الداخلي بالصورة الواقعية على نحو شفيف. وفي اعتقادي أن الرواية الأدبية عند عبد الإله بسكمار باتت وجهة معتمدة في صناعة اللذة التي تلتمع نشوة في خيال كل القراءات.  وقد أفلح إلى حد بعيد في الابتعاد عن النص الأدبي الجامد الخالي من الشعور والعاطفة الجياشة، وأبدع نصوصا لا تكلف فيها، تشبه بطارية طويلة الأمد لحشد المشاعر وشحن العاطفة وتزويدها بساعة حكي يمتد مفعوله في الوجدان.  ميزة أخرى لدى الكاتب هي الانسيابية والسلاسة في الانتقال من صورة إلى أخرى، ومن فكرة إلى أخرى برشاقة وتقلب سهل الإدراك. الماضي ذكريات وحنين.. كل هذه الطبقات الروحية المترسبة في الأعماق، تحملها طيور السرد متموجة على أجنحة مهاجرة بحس روائي جذاب ومثير. وفي كل هذا يتحرك الكاتب وسط زخم لغوي زاخر بالمعاني والمفردات والتراكيب والأساليب عميقة ساردة للأحداث والتفاصيل بلذة مثيرة ومهيجة.

في   ذاكرة مدينة تازة العتيقة سنوات السبعينيات وما تلاها، أبدع الأستاذ عبد الإله بسكمار في تجسيد حركيتها وتموجات سيولها وأنهارها، ورصد أحداثها بشكل درامي بالواضح تارة والمرموز في حالات كثيرة.   ولعل من أعسر المهام هو الكشف عن أكواد الهشاشة، ورداءة المعيش اليومي للكائن المترهل بأنفة وكبرياء. ولعل فضاء تازة العتيق زمنا ومكانا، كان الأنسب له خصوصياته ومميزاته مرتبطة بالضرورة بالانتماء، أسئلة حارقة مارقة أثارها الكاتب وهي بالكاد لا زلنا نعايشها ونتعايش معها، وتبقى الإجابة عنها معلقة إلى حدود الآن.  رصد من خلالها الأستاذ سيرة المكان والشخصيات على خلفية تاريخية أخذت أبعادا اجتماعية كاشفة لتفاصيل كثيرة من العادات والتقاليد، والطبيعة الإنسانية.

قبة السوق قاسمنا المشرك، كفضاء يعج بالحركة كقلب نابض للحاضرة العتيقة دخلت التاريخ الروائي عبر بوابة واسعة، شخصها الكاتب في لوحة فسيفسائية أنيقة وبراقة، كانت له جواز مرور إلى عالم مليء بالحكايات والتفاصيل والصخب، عكس ما يجري في الأحياء الهادئة المستقرة، حيث صاغ شخصياته بحرفية ومهارة عالية، أهله ذلك لأن يحتل الريادة في مصاف الروائيين الكبار. كذلك فعل مع باب الجمعة وباب الريح وأبواب تازة العظيمة.

تتزاحم الأحداث إذن وتتسارع في القبة تاركة تداعياتها على الصديق الشخصية الأقوى في الرواية، وعلى عبد الهادي وعبد الخالق، عبد الوهاب ميلود عباس والسي عبد السلام وكنزة وفاطمة، والمعلم السبيع وقدور بن سليمان وبوبكر السوسي، وعزوز المغراوي واحميدة لعور والشريفة، وغيرهم كثير. وهي شخصيات تمثل رموز قبة السوق طبعا، وتحمل على أعتاقها أكواما من اللاءات والآهات تطمح إلى الوصول إلى آليات تمكنهم من حياة إنسانية كريمة، لكن دون جدوى.

ما من شك أن الكاتب وهو يسرد علينا أحداث باب الريح، وقبلها قبة السوق، والآتي في الزمن الروائي، يدعونا دعوة حميمية إلى استرجاع الذاكرة، خصوصا أولئك الذين عايشوا الظرفية التازية التي تؤرخ لفترة السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، بالإضافة إلى اللمسة الإبداعية والجمالية والجرأة التي تميز بها قلم الأستاذ في تناوله الأحداث والشخصيات، وهذا مكنه من توسيع أفق إبداعه على اعتبار ان الجرأة لا تفسد الفن، ولا تسمم الرواية. شخصيات اختار لها أسماء مستعارة، وهي بالكاد من معايير ومميزات العمل الإبداعي المتميز الهادف والفعال.

مقالات ذات علاقة

مواويل من زمان الوصل

بادر سيف (الجزائر)

حدثني البحر

حسين عبروس (الجزائر)

‘الكتاب الالكتروني العربي’ يحتفي برضوى عاشور

المشرف العام

اترك تعليق