أمينة بن منصور
ربما لم يعد يناسبني الكلام، أشعر أنه ينصب لي فخاً في كل مرة. يغريني بأن أضع صدري فوق حربته ليرفعني عاليا، أكون مندهشة ومصطحبة أحلامي بملامسة نجمة. ولكن ألم الحربة اللاذع يجعلني أصمت، أعض على شفتي وأغمض عيني وانتظر العودة لخيباتي التي أجدها في انتظاري وهي تبتسم ساخرة من فجوة تتوسط صدري.
لم يعد يناسبني الكلام، لأنه يتسرب كمادة سريعة الاشتعال من شرخ في الروح، يذهب بعيدا ليشعل حرائق لم أعد أقوى عليها.
هذا الكلام الذي حاربت من أجل أن يكون طريقا لي في أرض الهزائم والخسارات القاحلة، أعبر منه كي أنجو، ها هو يقدمني قربانا للحزن المالح. لم يشفع له أنني تعلمته في سنٍ متأخر حتى ولم يشفع له أنني قضيت نصف عمري أخافه، وأن الكلمات التي كنت أود قولها تتهشم سريعا في فمي.
خذلان الكلام يقربني من الصمت أكثر، وهذا أمر غير مكلف في كل الأحوال. اكتفيت من الكلام الذي يكبر به وجعي. كل ما أحتاجه الآن برفقة الصمت هو التحديق في فراغ بعيد أو لبقعة قريبة من قدمي، وأصبع واحد أخط به الأسماء والأحلام واللحظات التي اقتربت من تحسس قلبي، ومن ثم أرسم نصف قوس مقلوب على هيئة ابتسامة وأعود إلى فراشي كذئب خائب تخلى عن صوته للريح.
فشلت في ترويض طقوس الكلام، زهد مني ولم يعد يأتي حتى في مناماتي الهزيلة، لذلك قررت أن أروي حكاياتي بالصمت، أن أغني للفراغ ولصباحات الوحدة، ولفنجان قهوتي.
وأن أغفر لبقايا الحب في أوردتي وأطلقها حرة في الحقول والغابات البعيدة ومصبات الأودية لعلها تجد من يعتني بها.
ها أنا أحمل امتعتي الضئيلة وأعود لنافذة الشمس، أراقب من بعيد قطارا يلوح لكل الذين أرهقهم الكلام، انتظر تلويحتي وإلى جواري صمتي ودفاتري القديمة، أردد ما قاله “درويش” يوما:
“لا شيء بعدك سوف يرحل أو يعود”.