رسالة إلى معالي وزير التربية والتعليم
تندرج هذه المادة ضمن الكتابة الخاصة التي أحاول فيها الإضاءة على الوضع المتضعضع في فلسطين، وخاصة فيما يتعلق بمجال عملي في القطاع التربوي، مشرفا تربوياً، وما أريد الإضاءة عليه هنا مآلات الخراب القيمي التي آلت إليه أوضاع القطاع التربوي الفلسطيني، ولعل أهم ما يسوءه ويفسده هو انتهاج الوزارة بقطاعاتها المختلفة نهج التعيين بالواسطة والمحسوبية التنظيمية فقط، دون النظر إلى اعتبارات الكفاءة أو الخبرة أو السجل المهني للموظف ما يخلق حالة من الإرباك المفضي إلى انعدام القيم العامة وقيم المهنة.
شهدت القطاعات التربوية في السنوات السابقة “جرائم فساد” متعددة في هذا الجانب، بدءا من التعيينات العليا، الوكلاء بمسمياتهم كلها، والمديرين العامين أيضا في الوزارة وفي المديريات الفرعية التابعة لها، ولم يكن المعيار سوى الثقل التنظيمي الفتحاوي الذي يتمتع به الشخص المنافس، هكذا شهدت الساحة تعيينات مديري التربية والتعليم ورؤساء الأقسام، والمشرفين التربويين ومديري المدارس، وموظفي المديريات، والترقي في المناصب، فلم يكن استحقاقا وظيفيا إنما كان بناء على التوصيات الأمنية (المخابرات والأمن الوقائي) أو بناء على إعدادات تنظيمية جاهزة لشغل هذا الموقع أو ذاك.
لقد أصبح الأمر سيئا للغاية إلى درجة أن مقابلات المعلمين الجدد خاضعة هي أيضا إلى منطق الأمن والتنظيم حسب تصنيفات “البلاك لست”، وما يقابلها من “الوايت لست”، حيث تشمل الأولى “المغضوب عليهم والضالين” الذين يجب أن تخسف بهم الأرض والعلامات ليتراجعوا في ذيل التصنيف فلا يحوزون على الوظيفة، وأما الثانية فهي قائمة “المحظوظين، النبلاء، أبناء التنظيم، أصحاب المحسوبية” الذين رضي عنهم الأمن وأرضاهم وأبلغهم مناهم دون أن يكونوا كفاءات في الأعم الأغلب.
هذا الوضع القاتم الأسود من التعيينات أنتج أوضاعا مأساوية غاية في الرداءة في كل مفاصل الوزارة بدءا من أدنى السلم الوظيفي الذي يشغله المراسلون وأذنة المدارس وحتى المديرين العامين، وهكذا أنتجت هذه الحالة فوضى غير مسبوقة وترديا مستفحلا في كل الدوائر بدءا من المدرسة وانتهاء بالوزارة نفسها، فوجدنا مثلا:
تمتع المديرين العامين والوكلاء المساعدين وغيرهم ممن هم في مستواهم الوظيفي بامتيازات وحقوق لا يستحقونها مادية ومعنوية، وبعثات خارج البلاد، وسفر وتعليم على حساب الدولة.
تمتع هؤلاء جميعا مما جاءوا ضمن آلية التوظيف الأمني الفتحاوي بالأمان الوظيفي حتى لو لم يقم أحدهم بما هو مطلوب منه، فكلما قصر أحدهم في أداء مهامه، يكون ظهره محميّاً مسنودا بواسطة أمنية تنظيمية تحميه، فيزداد بلادة وسوءا وانفلاشاً. فمن يستطيع أن يحاسبه وهو ابن التنظيم، ومن أتباع فلان؟ فصاروا يتمتعون بالعنجهية والادعاء الكاذب والتنمر على عباد الله واستهانتهم والنيل من كرامتهم الشخصية.
أفرزت هذا النهج القحطاوي الفتحاوي موظفين غير قادرين على القيام بمهامهم لو صادف أن أحدهم يريد أن يكون مخلصا لعمله ويحترم موقعه، لأنه ليس كفاءة في أصل وضعه.
يسبب هذا النهج عند الموظفين خارج هذه المنظومة من الفساد الإداري التنظيمي ما يعرف بالاحتراق الوظيفي وما يعنيه من إحباط وعدم الرغبة في العمل، فهؤلاء لا مجال لأن يكونوا ضمن المنافسين على الوظائف مهما كانوا عارفين وعالمين بأعمالهم، وسيكونون في كل مرة مرؤوسين لرؤساء تافهين لا يعرفون كيف لهم أن يتصرفوا، فكم حرمت هذه الآليات المنحطة من كفاءات لتكون في مواقع متقدمة.
أنتج كل هذا أخطاء كارثية في كل المواقع، بدءاً من التدريب وإعداد مواده، أو تأليف كتب المقررات الدراسية أو إدارة الامتحانات العامة، وخاصة ما شهده امتحان الثانوية العامة في السنوات الأخيرة من إرباكات مشينة لم تكن لتكون موجودة لولا هذا النهج المعيب في التعيينات، وتحديد المسؤوليات.
شهد القطاع التربوي في الفترة الأخيرة الكثير من قضايا التحرش، أو التصرفات غير الأخلاقية برضا الطرفين في مكان العمل، ما جعل هذه البيئات بيئات موبوءة، وغير أخلاقية حيث تتم فيها هذه الأعمال. وبدلا من أن يحاسب الفاعل بالفصل أو التوقيف تتم مكافأته وترقيته، كما تم مع أحد المديرين العامين عندما سرّب أسئلة التوظيف في سنة من السنوات، فتمت ترقيته وتمت محاسبة من هو أدنى منه، ليتحمل وزر قضية هو ليس له دخل فيها، عدا ما في هذا الأمر من تشويه السمعة فإنه يشير إلى نوع من المافيا التربوية التي تجعل المرء محاصرا بكل أنواع السيئين في المكان الذي يعمل فيه، إذ يمارسون أدوارا قذرة في الوشاية وكتابة التقارير للجهات الأمنية ولرؤساء العمل.
عدا ما يقوم به بعض الموظفين من استغلال أماكن عملهم لإنجاز مصالح شخصية، فإنهم يستغلونها أيضا لترويج مواد غير أخلاقية، كما فعلها أحدهم عندما كان مشرفا تربويا مستغلا معرفته العلمية لصنع مواد إباحية وأفلام وتخزينها على أقراص مدمجة وبيعها. ومن اللافت للنظر أن هذا الشخص تمت ترقيته مرات متعددة، بل ويشارك في التحقيق مع الموظفين في قضايا تربوية.
محاسبة صغار الموظفين غير المحميين بهذا النهج، وإطالة اليد على هؤلاء بفعل القانون، فيتم فصل هؤلاء من الخدمة أو معاقبتهم، على الرغم من أن غيرهم أتى بما هو أشنع من ذلك في الإدارات العليا، فتم غض الطرف عنهم، كأن شيئا لم يكن.
إشاعة أجواء من النفاق والكذب ومسح الشخصية في أماكن العمل، فالمسؤول يجب أن يطاع طاعة عمياء لأنه قادر على كل شيء، يعطي ويحرم كما يحلو له، لذا فقد ساهم هذا الوضع بوجود الشللية المستفيدة من كل الامتيازات التي يوزعها المسؤول على هؤلاء الطبالين، ومستعد أن يخترق كل اللوائح من أجلهم، فهم أركانه وأعمدته التي يقوم عليها.
الخراب العام في الميدان التربوي، واستفحال سيئاته واتساع الخرق على الراقع، لنصل إلى أننا خسرنا كل شيء، الموظف المثالي والمعلم المنتج والمدير الكفء، وصارت حالتنا التربوية مزرية وعقيمة، وصار المسؤول يتجنب البحث عن صلب المشكلة بل يدور حولها، ليس من أجل أن يحلها، بل ليميت القضية ويضعها على مسار غير حقيقي للحل، لأنه سيكون محرجا من الحل الصحيح الذي هو يعرفه بكل تأكيد.
خراب العملية التعليمية برمتها، وصارت غير قادرة على إنتاج جيل يتمتع بالمعرفة العلمية والنهج التفكيري الصحيح، لأن من يقوم على العملية برمتها “جاهل” و”مدّعٍ” لا يعرف كيف يجب أن تدار الأمور، فالمعلم لا يحسن التعليم لأنه ابن “للوايت لست”، وكذلك مدير المدرسة والمشرف التربوي وحتى الإدارات العليا والمسؤولين في كل موقع.
أنتج كل ذلك حالة من الولاء للتنظيم وليس للوطن، وللعصابة المتحكمة وليس للوظيفة ما جعل الأمر سيئا للغاية، ويزداد سوءا في كل مرة، لأن هذا النهج مكرس ومحروس من أعلى المستويات في الدولة والتنظيم، وفي الوزارة والجهات الأمنية.
على أية حال، لا أعتقد أن المسألة عصية على الإصلاح لو أردنا ذلك، فيكفي أن نطبق القانون على الكل بعدالة، وأن نعطي الحقوق لمن يستحقها دون تمييز، فجميعنا أبناء وطن واحد، ومن حق كل موظف أن يشعر بحصوله على حقوقه المعنوية والمادية والترقيات إن هو أخلص في عمله. وعلى الجهات الأمنية والتنظيمية كفّ أيديها عن كل القطاعات التربوية وغير التربوية ليكون المعيار هو الكفاءة الذاتية والمعرفة العلمية، وإلا لا داعيَ لكل تلك اللوائح والتنظيمات ولا داعيَ حتى للدستور إذا وضعنا كل تلك “المقدسات” تحت أقدامنا فنكون أول من نهينها بتجاوزها، والدوس عليها بأقدام لا تعرف إلا (نمرة) قدم المسؤول الأمني، ووضعها تحت نعال مصالحنا الشخصية. وليعلم الجميع بدءا من الرئيس ورئيس الوزارة والوزير- وزير التربية والتعليم أن هذه الحالة إن لم نقف في وجهها ستؤدي إلى إشعال النار في يوم ما، فالعدالة العدالة أيها المسؤولون، ويكفي ما نحن فيه من ذل الاحتلال وهمجيته المسعورة، وعلينا أن نقوي اللبنة الأساسية الحافظة لهذا المجتمع، فكلها- والله- لو أمعنا النظر إن تمت بحكمة ومعقولية وتطبيق القانون ستجد مجتمعا قويا وراسخا قادرا على الوقوف في وجه العتاة والطغاة. وأما إذا كان الأمر مقصودا كسياسة عامة لخراب المجتمع وتغلغل الاحتلال فينا فهي لعمري كارثة وطنية وخيانة عظمى يستحق من عمل عليها الإعدام شنقا في الساحات العامة، وآمل ألا يكون الأمر كذلك، وإن لم يكن كذلك، فعلينا أن نحترم القانون قبل أن نصل إلى محطة اللاعودة، وحينها لا ينفع إلا البتر والثورة.