الكاتب والأديب الليبي عمر أبوالقاسم الككلي كاتب قصة قصيرة من جيل السبعينيات صدرت له أكثر من مجموعة قصصية من بينها «صناعة محلية»، «سجنيات»، «منابت الحنظل»، وكتاب في السيرة الذاتية «أشتات الذاكرة»، وكتاب آخر في النقد الأدبي «تحرشات المبدع.. قراءات في السرد الليبي».
الكتاب الذي نتناوله اليوم «التجريف الثقافي» صدر عن مجموعة الوسط للإعلام العام 2020، ضمن سلسلة «كتاب الوسط» التي يشرف عليها الكاتب أحمد الفيتوري.
جاء الكتاب في 527 صفحة من القطع المتوسط، ضمت عدد 126 مقالاً سبق للكاتب أن نشر معظمها على موقع «الوسط» الإلكتروني، وبعضها الآخر على موقع قناة 218، وعدد قليل منها، نشر في جرائد وفي مواقع إلكترونية أخرى.
جميع المقالات جاءت بعد العام 2011 باستثناء مقالة واحدة نشرت في 2009 في جريدة أويا، وكانت بعنوان «الرؤية القطعية واحتكار الحقيقة»، وسأبدأ بها لأنها تعكس جانبين مهمين اتسمت بهما معظم المقالات التي ضمها هذا الكتاب، وهما الجرأة في الطرح، والطابع الفكري السجالي، وهو ما يمنح الكتاب خصوصيته وتميزه، ففي تقديري قليلة هي الكتب الليبية التي اتسمت بهاتين الميزتين، نظراً لسطوة القمع السياسي والاجتماعي الذي سيطر على واقعنا الثقافي، وهو ما سنتاوله لاحقاً في عرضنا للكتاب الذي يشير المؤلف في مقدمته لذلك الطابع الفكري السجالي لمقالات الكتاب قائلاً:
«يغلب على نسبة كبيرة منها الطابع السجالي»، والسلك الناظم لمعظمها، كما يضيف «هو دفاعها الذي لا ممالأة، ولا شبهة فيه، عن حرية العقيدة، وحرية الفكر، وحرية الرأي، وأن الرأي لا يواجه إلا بالرأي، وبعضها توخى تقديم رأي ومعرفة، وقبل ذلك وأثناءه وبعده، موقف يختص بمواضيع وقضايا ما، كما سعى بعضها إلى طرح تأملات» ص5
أعود إلى مقالة «الرؤية القطعية واحتكار الحقيقة» وهي المقالة التي نشرها الكاتب في جريدة أويا في فبراير من العام 2009 معقباً على ندوة صحفية كان قد عقدها «أحمد إبراهيم منصور» أحد كبار المسؤولين وأحد قيادات اللجان الثورية المقربين من القذافي، وقد نشر النص الحرفي للندوة، حينئذ، على موقع ليبيا اليوم الإلكتروني، حيث يصف الككلي أحمد إبراهيم بأنه احتكر لنفسه خلال تلك الندوة خمسة أشياء: الحقيقة والوطن والوطنية والثورية والدين والقومية العربية، وللتدليل على كلامه يورد الككلي مقتطفات مما كان قد قاله المسؤول الثوري في الندوة الصحفية، ويعلق على ذلك بالقول: «إن رؤية كهذه تتخذ منهاج عمل من قبل تيار سياسي يمسك بزمام السلطة في مجتمع ما تؤدي، دون ريب، إلى التسلط والمظالم. ذلك أنه رؤية تكفيرية (حتى وإن لم يكن الفكر المتبنى دينياً) تكفر الآخر المختلف فتخرجه من دائرة الإنسانية وتهدر دمه» ص168
ويخصص الكاتب أكثر من مقال لموضوع الاستبداد، وهذا ليس بغريب، فالكاتب ينتمي إلى دولة تعرضت لحكم استبدادي دام أربعة عقود، وهو نفسه دفع ثمن الاستبداد باهظاً حين قضى في السجن 10 سنوات نتيجة ضيق ذلك النظام الاستبدادي بكل صاحب رأي، فيقول في مقال بعنوان «ثقافة الاستبداد»:
«الاستبداد متأصل في ثقافتنا وفي تاريخنا ومرحب به شعبيا في معظم الحالات» ص213
وفي مقالته التي حملت عنوان الكتاب «التجريف الثقافي مؤذن بخراب العمران» يؤكد الكاتب أن «النظم الاستبدادية، مهما كانت إنجازاتها المادية ومهما حققت من رخاء عيش للشعب في بعض الفترات، فإنها لا تجر، على المدى الطويل إلا الخراب. فالظلم بمصطلح ابن خلدون «مؤذن بخراب العمران».
ويضيف في فقرة أخرى «أن الانغلاق والقمع الفكري قد يؤديان إلى كوارث اجتماعية (…) أو يجعلان الأمة قطيعاً مطيعاً، لا يفكر ولا يعمل، خوفاً من الخطأ في الكلام، كالذي يمشي في الظلام، يتوقف خوفاً من العثار» ص 223
محور آخر يخصص له الككلي أكثر من مقالة في هذا الكتاب وهو علاقة المثقف بالسلطة، يتناولها كقضية فكرية مجردة، وفي بعض الأحيان يتطرق إلى الواقع الليبي كما في مقالته «مثقفو السلطة وسلطة المثقفين» حيث يقول «… إن الحركة الثقافية في ليبيا لم تأخذ في التبلور إلا مع نهاية عقد الستينيات من القرن الماضي، لكن قيام النظام الاستبدادي الذي بناه معمر القذافي وجه ضربات بالغة العنف للحركة الثقافية الليبية والمثقفين الليبيين».
ويضيف أن النظام الليبي لم يفلح في تكوين مثقفي سلطة من عيار عال، كما جرى في بلدان عربية أخرى في المشرق والمغرب، ويعزو الككلي ذلك إلى أمرين: الاضطراب النفسي الذي اتسم به رأس النظام، وكذلك أن معمر القذافي وزملاءه لم يأتوا من خلال التربي في حزب سياسي له أساس فكري واضح وله مثقفوه ومنظروه كما في سورية وتونس والعراق وغيرها من الدول ص 264.
وفي هذا السياق وضمن الطابع السجالي الذي اتسمت به بعض مقالات الكتاب يتناول الكاتب علاقة الكاتب الراحل الصادق النيهوم بمعمر القذافي في مقاله الذي حمل عنوان «علاقة المثقف بالديكتاتور» الذي جاء تعليقاً على مقالة للكاتب سالم العوكلي نشرت على موقع «الوسط» الالكتروني، يقول الككلي «إن جهود النيهوم في مقالاته في مجلة «الناقد» أوائل التسعينيات انصبت، حسب ملاحظتي، على محاولة تمتين وتعميق «أوتاد إسلامية» لتثبيت «خيمة القذافي السياسية» في الوجدان الليبي ص255 وهو في تقديري رأي وجيه، يستند إلى حجة قوية هي مقالات النيهوم في مجلة الناقد التي كان أغلبها يتمحور حول ما أسماه النيهوم الشورى التي تقوم من خلال لقاءات يوم الجمعة بديلا عن الديموقراطية البرلمانية، وفي واقع الأمر أن النيهوم كان يسوق لديمقراطية المؤتمرات الشعبية وسلطة الشعب التي تبناها القذافي من الناحية الشكلية بينما في واقع الأمر كان يقبض على زمام الأمورفي البلاد، في أسوأ أشكال الحكم الفردي.
أيضاً نقرأ في ذات السياق السجالي أكثر من مقال عن توظيف الدين في السياسة، وفي مقال بعنوان «تسييس الدين، وتديين السياسة» يقول الكاتب في معرض تفريقه بين الزعيم السياسي والزعيم الديني أن «الزعيم السياسي يخوض مباراة تنافسية، قواعد اللعبة فيها محددة معروفة، أما صاحب المرجعية الدينية فيشن حرباً استئصالية لاهوادة فيها» ص14
كما يدخل ضمن الطابع السجالي لبعض مقالات الكتاب، تلك المقالات التي نشرها الكاتب في حينها منحازاً إلى حرية الكلمة والتعبير، ومدافعاً عن الأدباء والكتاب الذين تعرضوا في سنوات سابقة، إلى حملات عدائية لا تخلو من التكفير، وتأليب الجمهور العام ضد أصحابها كما رأينا ما تعرض له كتاب «شمس على نوافذ مغلقة» من حملات إعلامية عدائية، وتهديدات من قبل بعض الأطراف وكذلك الأمر مع مقالات الكاتب خليل الحاسي.
وفي مقالة حملت عنوان «حدود النقد عند غياب الحرية الفكرية» التي ناقش فيها نقد د. بن سالم حميش لكتابات الدكتور محمد أركون، يقترح الككلي الحذر عند تناول نتاج الكتَّاب الذين تصب مؤلفاتهم في مجرى نقد التراث الفكري الإسلامي، كي لا يتحول الناقد إلى «مخلب قط» ضد الكتاب أو الكاتب محل النقد، ويتحول النقاد أو المنقدون، إلى وشاة ومحرضين ضدهم ويشاركوا بذلك، في محاربة الحرية الفكرية.
ويعزو المؤلف هذا الأمر إلى مساحة الحرية الفكرية التي ما انفكت تضيق في العالم العربي، بسبب الأنظمة السياسية القامعة والمحددة لمجال الحرية الفكرية، إضافة إلى تنامي توجه اجتماعي خلال العقود الثلاثة الماضية، «تقوده تيارات دينية متشددة ومتطرفة، تضيق بالحرية الفكرية، وتضيق الخناق عليها، بل وتقتلها من خلال مصادرة الكتب ومقاضاة الكتاب وتصفيتهم جسديا. أي أنها افتكت اختصاصات الدولة القمعية والاستبدادية وغالت فيها، وتغولت على حرية الفكر» ص114
إضافة إلى المقالات الفكرية التي اتخذت طابعاً سجالياً، وقد أشرنا إلى بعضها، يضم الكتاب مقالات أخرى، تتسم بالتأمل في ظواهر ثقافية وأخرى تعكس وجهات نظر في قضايا ثقافية محددة، وفي جميع الأحوال اتسمت مقالات الكتاب بالدقة في الألفاظ والمفردات، ووضوح الرؤية الفكرية، والقدرة الفائقة على المناقشة الهادئة، الموضوعية، لمن أبدى الكاتب اختلافه معهم في الرأي، معتمداً على تقديم الحجة والبرهان والدليل والمعلومة، دون الانزلاق في المهاترات وتسفيه آراء الآخرين، وإلى غير ذلك من الظواهر السلبية التي نلاحظها في حياتنا الثقافية، خاصة خلال المناقشات والمعارك الثقافية على صفحات الجرائد والمواقع الإلكترونية وعلى وسائط التواصل الاجتماعي، وهو ما يزيد من أهمية هذا الكتاب، الذي أعتبره من الكتب القليلة في مجاله، أيضا تميزت المقالات بعمقها الفكري علاوة على التركيز والتكثيف اللغوي الذي تميزت به مقالات الكتاب.