كسر الفنان الليبي جمال الشريف نمطية تجربته بخلق دمى لا تشبه كل ما يطرح في الساحة الليبية، دمى تأتي غريبة بلا ملامح واضحة، لكنها معبّرة عن كل ما عاشه الليبيون خلال عقد من الحرب الطاحنة، وهي دمى تسرد قصصا وحكايات عاشها الفنان المندمج في محيطه وتؤكد فرادته في الوسط التشكيلي الليبي.
تأتي أعمال المعرض الجديد للفنان الليبي جمال الشريف بعنوان” دُمى” -وقد أقيم في فضاء منظمة “براح للثقافة والفنون” بمدينة بنغازي حتى الثلاثين من ديسمبر الحالي- هذه المرة مختلفة بشكل كبير عن تجاربه التي عهدناها طيلة السنوات الخمس والعشرين الماضية، التي كانت في مناطق الواقعية أو ما بين الانطباعية ومدارس التصوير الزيتي الحديث في بداية القرن العشرين والتي أجادها بشكل كبير مع الكثير من الرومانسية الحالمة والرهافة في التعبير والاتقان لمناظر الطبيعة في ليبيا خصوصا الجبل الأخضر وحياة الناس بين أسواق وشوارع عتيقة، وبيوت ومساجد بكل ما فيها من وجوه تحيا في زمانها ومكانها الخاصيْن.
وجاءت هذه الأعمال الأخيرة أشبه بـ”دُمى” مخالفة لكل ما يطرح على الساحة الليبية في الوقت الراهن خصوصا أعمال الأوبجكت الفنية والمنحوتات التي أتقن فهمها الشريف وبالتالي أجاد التعبير بها، فالفنان يمتلك قدرة فنية عالية على التصوير والرسم الواقعي الذي مكنه من صناعة مفرداته من بشر وأشياء أخرى في نصه البصري المقترح على جمهوره في هذا المعرض، مرفقا سينوغرافيا حلقات الضوء الصغير على كل عمل فني بمثابة بصيص الأمل الذي يرافق الليبيين أجمع في حياة كريمة كما كنا نأمل منذ زمن بعيد.
قيمة عالية
الدمى الفنية هي أوبجكتس ذات قيمة فنية عالية وتعتبر أعمالا فنية مثل اللوحات والمنحوتات والأعمال الإنشائية الأخرى والمعمارية، وهي من تصاميم مبتكرة وغالبا تصنع من مواد متعدد ووسائط مختلفة. وفي بعض الأحيان تستعمل مواد نصف مصنعة لإنجاز هذه الأعمال الفنية أو إدخال العاج والبلاستيك والصوف والبوليستر والأكريليك والبي في سي وغيرها.
في القرون الأولى كان يستعمل الذهب والعاج والعقيق والزجاج الروماني، وهي أشياء ثمينة من ناحية مادتها المصنعة مثل الذهب والمجوهرات وغالبا ما يقتنيها الأباطرة والملوك، وقبل ذلك بآلاف السنين كان هناك التقليد الطقوسي والديني عند اليابانيين، حيث توظف الدمى اليابانية في صناعة أبطال ونساء وأطفال بملابس تقليدية يشاركون بها في مهرجانات الدمى المحلية أو في يوم مهرجان الطفل السنوي، وكل هذه المنتجات تبقى ذات قيمة من الناحية الفنية مثل التحف والهدايا المميزة عند هذه الشعوب.
أما الأعمال الفنية “الدمى” أو الأوبجكتس الفنية فقد رُسخت فكرتها الأولى كعمل فني راقِ وكانت أكثر قيمة فنية في تجربة الفنان الفرنسي مارسيل دوشامب بعمله “حاملة القناني” وبعده كان لبيكاسو التأكيد على هذا النوع من الإبداع الإنساني في العديد من أعماله المعروفة بتركيبات الحديد والأشياء الجاهزة الأخرى في إطار المدرسة الدادائية التي تمردت على كل شيء كرد فعل على الحروب التي اجتاحت أوروبا في تلك الفترة.
وكذلك اشتهر الفنان الألماني هانز بيلمر في تلك الأيام بعمل الدمى النسائية كبيرة الحجم التي أنتجها في منتصف الثلاثينات. فقد استعمل العديد من المواد وطور الأرجل بوضع مفاصل كروية تمكّن من الحركة السهلة وأضفى عليها النوع والجنس وغالبا تكون أجسادا نسائية بالحجم الطبيعي في جو غرائبي طقوسي وسريالي في منتصف الثلاثينات من القرن الماضي.
من الأمثلة على هذه الأعمال الرائدة الجديدة في وقتنا الحاضر عمل دمية “أورلاندو” للفنانة الفرنسية المعاصرة جيلينا ايفر. والعمل عبارة عن رأس دمية ما قبل عام 1930، دمية مصنوعة من الراتنج أو صمغ الراتنج الذي يصنع منه الكهرمان، أجزاء من ساعات وتروس قديمة، راتنج والبوليستر، سلك، زنجار أكريليك. تاريخ العمل 2009 أي أنه فكرة تم تجميعها من أزمنة مختلفة في عمل واحد يصنع حالة فريدة من الفن والتعبير الغامض عن المشاعر الإنسانية.
والتجربة الجديدة “دمى” للفنان جمال الشريف بمثابة الخروج من الوحل التشكيلي الليبي بعد أن تراجعت العديد من التجارب الجيدة في الظل وتركت للأيادي العابرة والعابثة التألق في وسط جمهور بعيد عن القيم التشكيلية الحقيقية، أو الجمهور الناشئ الذي يجهل تجارب التشكيل الأولى مثل عوض عبيده والعباني وعبية والبكشيشي واستيته والمغربي وجهان وغيرهم من أصحاب التجارب الرائدة.
كانت الدمى ثيمة طقوس السحر والعبادة والاحتجاج كما كانت للعب والتسلية عن الأطفال منذ الآلاف من السنين في حضارات البشر الأولى، خصوصا في الشرق الأقصى عند اليابانيين، مثل مهرجان الدمى ومهرجان الأطفال الذي تصنع فيه أشكال مبتكرة في كل موسم بأزيائهم التقليدية من شتى الأعمار وبملامح يابانية أصيلة كتأكيد على الهوية الوطنية.
وترتبط تجربة الفنان بواقع ليبيا عبر حياة عشر سنوات من الحروب والتهجير والإرهاب والتهريج، فالفنان جمال رصد بحساسية المكان والزمان واستحضر العديد من مشاهد الدمار ومشاعر الخوف الذي أحاط بالناس خلال كل تلك السنوات، فكانت هذه الدمى أبلغ وسيلة للبوح بما يعتمل في داخله.
اهتمام بالتفاصيل
التزم الفنان جمال الشريف بأن يهتم بالكثير من التفاصيل والتقليد الأكاديمي واستدعاء مهارته في تشريح وصناعة حالة تعبيرية تفوق الوصف باستخدام الدمى في إنشاء أشكال الناس العاديين وهم في حالة الفزع وبتصوير واقعي جدا واهتمام بتشريح دقيق في قصصهم التي ترويها هذه المشاهد وأخرى أقل تركيزا على النقل التشبيهي الواقعي، بل كانت أكثر تعبيرا عن قسوة الصورة فاستعاض عن الواقعية بأشكال تكاد تكون دون ملامح بشرية بل هي أقرب إلى الأشباح والخيالات بخلفيات متموجة وغير مستقرة على حال.
عائلة تركض فزعا وإنسان بجسد مثقوب يكشف عن خرسانة مسلحة في صدره كأنه دمار للبشر والحجر، بقايا جدران أسياخ الحديد وواجهات إسمنتية مهشمة، شظايا من أبواب وشبابيك وأجزاء من بشر، منهم من هو في أرذل العمر يتكئ على خيبات الحاضر والمهرج السياسي الدمية، والرجل الذي يتشح بالخوف في قارب الموت المهاجر في رحلة البحث عن سترة النجاة وصاحب الطبل الخارج من ركام الذكريات والداخل في ملكوت نفسه بعد كل هذه الانتكاسات وبقايا من تكوين مدعم بالحديد والإسمنت والكثير من المواد المختلفة الأخرى، جاءت كنتيجة بحث وعمل لمدة سنتين أو أكثر في مختبر الفنان مع الكثير من العزلة والخبرة والتركيز والمعرفة التشكيلية المعاصرة التي اكتسبها في دراسته وتحصيله العلمي والعملي.
والأعمال المعروضة بعضها أوبجكت يكاد يكون بلا ملامح مع بعض التأثيث في الخلفية بالرسم أو بتجهيزات مصنوعة من مواد مختلفة لتكمل جزءا من مشاهد مقطوعة من ذاكرة الفزع في أوقات الحرب والبعض الآخر كأنه دمى تتخذ من ملامح المقهورين والنازحين والضحايا صورهم الأمثل. وتغمرها أجواء لونية يغلب عليها الأصفر والأزرق كنوع من إضفاء لغة اللون كأنها إيقاعات تزيد من أناقة الأعمال وغرابة النص البصري عنده.
يقول الفنان مقدما لهذا الأعمال “إلى أولئك الذين تأثرت قلوبهم بهذه القطع الفنية، إلى كل إنسان حقًا”. ويضيف في انطباعه عن معرضه الأخير في يوم الافتتاح:
“دمى الحضور الرائع والأجواء الراقية لمعرض دُمى مساء اليوم.. كثير من الأصدقاء والأحباب شرفنا بزيارتهم … فشكرا لهم جميعا وبتوفيق من الله أولا وأخيرا وجدت الأعمال صداها من الزائرين للمعرض فكان الإنصات وباهتمام لهذا البوح وهو أقصى ما نصبو إليه”.
تجدر الإشارة إلى أن جمال أحمد الشريف من مواليد مدينة بنغازي 1970، تخرج في كلية الفنون والإعلام بطرابلس عام 1994، وتحصّل على ماجستير رسم وتصوير من كلية الفنون والإعلام بطرابلس عام 2012، أسس مدرسة دافنشي لتعليم الفنون بقصر المنار بنغازي 2012 – 2015، وشارك في معرض عمان للفنون التشكيلية سنة 2010 وفي معرض خواطر تشكيلية بقصر المنار بنغازي سنة 2012 وفي المعرض العام الليبي بمصراتة سنة 1995.
عمل في مجال تصميم الشعارات والدعاية بين 1996 و2000، وكتب في العديد من الصحف والمجلات عن الفن التشكيلي الليبي، وهو مؤسس دار ليبيا لعرض وبيع الأعمال الفنية الواقعة في باب البحر المدينة القديمة بطرابلس من 2005 إلى 2011. وشغل الفنان خطة رئيس قسم التربية الفنية بكلية التربية – بنغازي 2017 إلى 2021.
صحيفة العرب | السبت 2022/12/31