لم يتخل الفنان الليبي عمر جهان عن هويته، رغم تنوع تجربته وتنقله بين المدن كتنقله بين المدارس التشكيلية، واطلاعه على حيز كبير من سير الفنانين السابقين، بل طوّع كل ذلك لينقل هويته الليبية من خياله وعالم الأفكار إلى فضاء اللوحة الذي يتحول بضربات ريشته وألوانه إلى فضاء يحمل رسائل غير مباشرة.
عمر جهان فنان منفرد في خطابه التشكيلي بتجربة فنية مدركة للمنجز المعاصر ومدعومة بثقافة عالية، تلك التجربة التي تخلع عن الأشياء قبحها ورداءتها وتضفي عليها جمالها وحيويتها؛ فهو بالإضافة إلى الرسم والتلوين على الخامات المعروفة مثل القماش والورق يحول الأشياء المهملة والمتروكة التي لم ينتبه إليها أحد، مثل استخدام الحديد والصفيح وإعادة تدوير العديد من الأشياء الجاهزة، إلى أعمال فنية بديعة.
وكان له دور كبير في ترسيخ ذائقة فنية رفيعة بين جيل جديد من الفنانين الذين جاءوا بعده، والتأكيد على فكرة الفنان الذي يمكن أن يشارك بعض أفكاره بالكتابة كامتداد لحالة الرسم أو أن يكون الناقد التشكيلي القادم من داخل رحم التشكيل نفسه.
بحث متواصل
تعرفت إلى الفنان عمر جهان عن قرب عندما زرت القاهرة في أكتوبر 1999 واستضافني في محترفه الذي هو شقة في وسط القاهرة بمنطقة الدقي رفقة الفنان عادل الفورتية، وكانت تلك الشقة ممتلئة بالأعمال الفنية التي رسمها الفنان في فترات سابقة على مدى سنوات طويلة منذ أن احتضنت القاهرة تجاربه الفنية من منتصف سبعينات القرن الماضي إلى تلك الأيام التي كانت على حافة الألفية الثالثة في مدينة كُتب فيها جزء كبير من تاريخ البشرية بأسرها.
وتنوعت هذه الأعمال المنجزة في شكل رسومات ولوحات على القماش والورق المقوى والمنحوتات والأعمال المركبة من بقايا الصفيح والبلاستيك والمواد المختلفة الأخرى. وما إن تتنقل بنظرك بين جميع الأعمال الموجودة في المكان حتى تشعر بالفارق الكبير الذي يفصل المراحل المختلفة وحسب تصنيف الفنان لإنتاجه الفني كمجموعات جاءت خلال سنوات طويلة من العزلة والعمل والبحث الجاد، مثل عناوين معارضه السابقة: السكون المشمس والتحولات وإشارات وشواهد وكهفيات الجبر والشمع والأقنعة ومجموعة بورتريه الحجرة وموتيفات عابرة ومجموعة أبوغريب وقطوف. وتنوعت حسب الطرح الذي كان الفنان يسعى إلى إظهاره في العمل الفني المنجز وكذلك المواد المستعملة التي تكون أيضا عاملا مهما في تغيير ملامح الأعمال واختلاف أصواتها وطريقة تعبيرها.
والملاحظ أن الفنان ما إن يدخل في مرحلة حتى يغادرها دون رجعة ليبحث عما هو جديد، فكأنه يطارد أجواء لونية معيّنة في كل منطقة تطؤها قدماه، بمساحات النور المنتشرة في زوايا اللوحة ومناطق أخرى هي الظل شديد العتمة بلونه الأسود القاتم كان دائما يترسب في أسفل لوحاته منذ أن بدأت في الظهور مجموعات بورتريه الحجرة كأنها تعبير عن سيرة في الظل منذ سنوات يعتريها الكثير من القلق والخوف بعيدا عن الأهل والوطن.
وفي الكثير من تكويناته المعروفة بتشريحه الرشيق للأجساد الهشة بعباءاتها المملوءة بالرياح والتي تتزحزح نحو مصيرها المجهول، بهروبها نحو هذه الزوايا المضيئة أو انزياحها القسري نحو تلك المناطق المعتمة والحيوانات والثيران المرسومة على سطوح الكهوف أو الكائنات القابعة داخل حجرات الماضي السحيق، أو تلك الكائنات المعذبة والمنهكة والمهانة في سجون الاحتلال الأميركي للعراق، كل هذه العناصر وأكثر تكون مسرحا لخيال وأفكار الفنان عمر جهان ولغموضها وعدم مباشرة الطرح عنده.
وفي أغلب الأحيان يشترك معه المتفرج في إخراج الأفكار والتفاعل معها كمجموعات “كهفيات الحبر والشمع” و”أبوغريب” و”موتيفات عابرة” و”لوبيات”.
إن الوصف البصري أو السرد هما المعبّر عن العمل الفني في أغلب أعمال الفنان السابقة في فترة السبعينات، ومع هذا فقد كانت مفرداته تحمل صوتا مختلفا ولها وقع سحري قوي في تلك الفترة، رغم أنها هي كائناته نفسها في بداياتها ونهاياتها وتركيبة بنيتها الداخلية التي عودنا عليها عمر جهان منذ زمن بعيد في كل مراحله الفنية وفي لوحاته ورسوماته المصاحبة للقصائد الشعرية التي كانت تنشر في دواوين الأصدقاء من الشعراء أو في المجلات الأدبية والثقافية المتنوعة.
بدأ الفنان الرسم منذ نهاية الستينات في مدينة لا توجد فيها مؤسسات ثقافية كبيرة، ولم يجد حركة تشكيلية بكل ما تمثله من فنانين ونقاد وصحافة ومعاهد وكليات فنون وقاعات عرض للعمل الفني. كانت المدرسة هي المصدر الوحيد في تعلمه وكذلك الفضاء الذي مكنه من عرض أعماله المنتجة التي كان ينتجها هو وزملاؤه الطلبة. ومن أهم المدرسين الذين تأثر بهم في بداياته وتعلم منهم الدروس الأكاديمية الأولى مثل رسم الوجوه والمنظور والتكوين وشروطه الأستاذ الفنان مصطفى الخمسي المتخرج من إيطاليا، فأتقن الفنان عمر الرسم الواقعي وكان أساسه سرياليا.
ويظهر ذلك جليا في لوحات البدايات الأولى التي رسمها في فترة السبعينات التي أنتج أثناءها أعمالا بديعة لا يخلو بعضها من القصص الأدبية التي أبطالها بورتريهات شخصيات الروايات العالمية. وقد أنتج من خلالها أعمالا ناضجة لا تخلو من رومانسية ولو على استحياء في البعض منها، ولكن روحه القلقة الباحثة عن سر الجمال والحس الوجودي الذي يتملكه جعلا الفنان في حالة بحث مستمر عن أدواته الجديدة والأسلوب الأمثل للتعبير عما يعتمل في داخله وتنقله من مرحلة إلى أخرى، ورغم هذا التنقل لم تختف ملامح تجربته الفريدة على الساحة العربية والمصرية التي كانت تستضيفه في فترات الهجرة والمنفى.
كان عمر جهان قد لعب كرة القدم في فترة الستينات ونجح في ذلك وتفوق كلاعب عرفه جمهور الأهلي المصراتي في ليبيا، بالإضافة إلى هوايته لفن الرسم، انتقل بعد ذلك إلى الدراسة في بنغازي (جامعة قار يونس) ضمن قسم الفلسفة، وكانت هذه فرصة أخرى للاطلاع والتحصيل العلمي والثقافي مع ثلة من الأساتذة والمفكرين والكتاب المصريين، من أهمهم الدكتور عبدالرحمن بدوي والدكتور إبراهيم الدسوقي شتا، وغيرهما من الأسماء المهمة التي كانت من مجموعة هيئة التدريس بالجامعة في ذلك الوقت.
واطلع الفنان خلال دراسته على التجارب الفنية والإنسانية المبدعة في التاريخ بشكل واسع وعميق حيث استوعب معظم هذه التجارب، من أهمها: بيكاسو، دالي، ميرو وفاتح المدرس، جواد سليم، الوشاحي، الجزار، عدلي رزق الله ومائياته، بهجوري، شاكر حسن آل سعيد، رسومات الفراعنة، لوحات الكهوف بتدرارت وتسيلي بجنوب ليبيا والجزائر. لذلك تنقل بين عدة محطات من تاريخ فن الرسم، فرسم الواقعية والتأثيرية والسريالية والتكعيبية والتجريد والتعبيرية التجريدية، لاطلاعه الكبير على هذه التجارب ودراسة ما يحدث على الساحة التشكيلية العالمية والعربية المعاصرة.
كذلك كان عمر جهان من المهتمين بقراءة الأدب والشعر والتصوف فانعكست هذه القراءات على معظم أعماله المنجزة كما جاءت في عناوين اللوحات والمعارض التي أقامها في أتيليه القاهرة وغير ذلك من قاعات العرض في مصر.
يعتمد الفنان على شحذ للذاكرة كما يصف حالة البدء في عملية الرسم عنده، وكذلك الاستنباط الفوري المباشر في تأليف أعماله الفنية، يستمع إلى إيقاعه الداخلي (الإحساس والشعور) ولا يركز على النظريات الأكاديمية والعلمية، فوعيه الباطن هو الذي ينسق ألوانه وأشكاله ويحددها على سطح اللوحة، وأهمية العمل عنده إظهار الحساسية العالية في الأداء وكذلك إظهار الشعور والإحساس فاللون عنده حالة تعبيرية تحمل شحنات عاطفية ووجدانية عميقة.
استمر الفنان ينهل من كهوفه الممتلئة بالقيم والمفردات التشكيلية والإنسانية، فتجربة كهفيات الحبر والشمع من أهم المحطات الفنية للفنان حيث اعتمد في خلق محسناته التشكيلية على تقنية جديدة في الرسم وهي استعمال مواد متنافرة مثل الحبر والشمع على أرضية الورقة مما أضفى معاني تشكيلية جديدة قام بتوزيع مفرداتها المستوحاة من رسم الكهوف في الفراغ الأبيض فأصبحت سابحة في الفضاء متحررة من كل سيطرة (بخلاف ما كان في العمل التقليدي العادي بأن يكون الثقل للوحة في الأسفل وغيرها من القيود التقليدية)، وهي تحمل أنفاس الماضي بكل ما فيه من عفوية وطهرانية لتلتقي مع حداثوية النص التشكيلي المقدم بكل ما فيه من دلالات ورموز (الأجساد الهشة والثيران والطيور والخيول…) والمحسنات الفنية الأخرى مثل نور /عتمة، كتلة /فراغ، سماء /أرض، أبيض/أسود، شر/خير، قوة/ضعف.
شحذ للذاكرة
مساحات النور عند هذا الفنان أصبحت أكثر إشراقا ونصوعا من كل المراحل التي سبقتها والتي كان يركز فيها على المهارة والسعي إلى الكمال في العمل فكان هناك الكثير من الزوائد التي لا تخدم العمل بل تزيد من ثقل وقعه على عين المتفرج فلا يستطيع أن ينتقل خارج هذا السطح الممتلئ بالمهارة والتلوين الجميل فتبقى مخيلته عند سطح اللوحة، عند هذه العوالم والآفاق التي تكونت نتيجة اشتعال دوامات من سديم لون أزرق وكأنها جسد السماء على أرضية اللوحة شديدة العتمة تتخلخل في نسيج الروح لتخلع عنها جمودها في لحظات الخمول النفسي وتعيد إليها إضاءاتها المعهودة.
وفي الكثير من الأحيان تشعر بأن هناك تأكيدا على الهوية الليبية في لوحات عمر جهان باستعماله المفردات الليبية وكذلك الأفريقية بشكل عام مثل الملابس وملامح الوجوه والأقنعة واستخدام الحرف والكتابة العربية والأمازيغية والمفردات المرسومة على جدران الكهوف، لوحات تسيلي، كهوف تدرارات (ليبيا)، ملامس الحصر والحيطان الجيرية، العباءات المملوءة بالرياح والذكريات، فتجدها في أعماله لوبيات وكهفيات الحبر والشمع وموتيفات عابرة والكثير من الأشكال المتمثلة في الملابس الرجالية والنسائية والزخارف التي كانت تستعمل في الكليم والسجاد والصناعات التقليدية المحلية.
وعمل جهان الفني لا ينحصر في معان لمواضيع مباشرة، بل هو جسر يفضي إلى غابة من المفردات التي تقود إلى معان كثيرة والتي تتشكل حسب قدرة المتلقي وخبرته وذائقته البصرية، وذلك لأن الفنان لا يشتغل على المساحات المضاءة أو الاختباء وراء المحسنات التشكيلية المعروفة والمتفق عليها من قِبل الجميع، بقدر ما هو مهتم بمناطق الظل الأكثر جدلية والتي تضفي على لوحاته فصاحة تشكيلية وسحرا لا يوصف.
يبقى الفنان في تجاربه الفريدة منذ أن استقر في منفى الحجرة، كانت غرفة وحيدة فوق السطوح على إحدى بنايات القاهرة بعد خروجه من ليبيا عندما كانت الصورة قاتمة في تلك الأيام، حيث أنتج أجمل أعماله الفنية من مجموعة “بورتريه الحجرة” إلى “السكون المشمس” و”إشارات وشواهد” قبل ذلك وبعده “كهفيات الحبر والشمع” التي كانت من أهم مراحل الفنان إلى حين العودة إلى البيت (ليبيا) بعد أحداث 2011 حاملا معه آماله وأحلامه التي أثقلها الانتظار في المهجر على مدى سبعة وثلاثين عاما.
هناك استقر جهان في مرحلة جديدة بعنوان “قطوف”، مواسم القُطُوف تعبر عن تساقط أوراق خريف وكولاج للحصر وقطع من السجاد في تكوينات مختلفة يغلب عليها التجريد وملامس الأشياء القديمة المهترئة والبالية مع كتابات ليبية قديمة وعلامات من الحضارات الأولى وفي بعض الأحيان يرسمها على صور قديمة مثل ما تبقى من جذع شجرة مقطوعة أو بيت الفنان القديم، فتصبح جزءا من عمل “القطوف” خافتة في الخلفية ببعض الألوان وأشكال الأوراق المتساقطة في تكوينات تشكيلية مبتكرة وهي بمثابة خلاصة التجارب عنده.
ومن كتابات الفنان عن تجربته في كل الكتيبات المرفقة بمعارضه، كانت من كتاباته هو كإشارة إلى تلك اللوحات المعروضة والحالة التعبيرية الموجودة فيها، نقدم هذه المقتطفات من النص المكتوب والخاص بمعرض كهفيات الحبر والشمع:
“كيف ينفصل الأزرق عن جسد السماء… أعلى تلك الأرض الممهدة المنبسطة، يتهيأ الفنان لسلسلة من الولادات العسيرة، وتنطلق المخيلة من أسرها، أو ضد هذه الشرنقة، أم أبعد من هذه وتلك، هناك فيما وراء تخوم السيطرة التشكيلية، حيث يبتكر مفرداته الجديدة ومناخاته الآتية. مُولدا إياها من رحم الأشياء القديمة التي انطفأت وغارت نجومها. حالات من التيبّس، ودوامات من سديم أزرق لا ينطفئ، مفردات شبحية باردة تتزحزح نحو بؤرة الاشتعال. كيف يُشحن الحيزُ الضيق باللامحدود، رموزا للممكن العادي المألوف، وتجسيدا للمستحيل المحض المباغت”.
“تجاذب وتنافر مد وجزر وضوح خفي وغموض جلي، من ترى يحفر ذلك المسرب المجهول الذي يماثل خطا أحمر يشق ضباب الأدخنة ويفضي إلى عتبة بيتنا، كهفنا القديم”.
“برهة من صمت وتأمل، شحذ للذاكرة واستحضار للقدرات التكتيكية المكتسبة وقبل وبعد إيقاظ الحواس جميعا لقراءة واعية في كتاب الذات والطبيعة، تلك الذات المنفتحة على عوالم الآخرين وشجونهم”.
“كنت وما زلت احتفي بالتوحيدي، نيرودا، ماركيز، الخراط، الكوني، كنت وما زلت أحتفي بأصدقائي المُعتمين وإضاءاتهم الشعرية، كنتُ وما زالت أحتفي بلوحات فان غوغ – آكلة البطاطس، بيكاسو – الجرنيكا، جويا – مذبحة الثالث من مايو، عبدالهادي الجزار – المجنون الأخضر، حامد ندا أوبريت السلام، جاذبية سرى – مجموعة البيت، ضياء العزاوي – إشارات ملحمية، كنت وما زلت أحتفي بتمثال القفزة المستحيلة للنحات والفنان المصري الوشاحي”.
الفنان عمر جهان من مواليد مصراتة ليبيا 1949، حاصل على ليسانس فلسفة وعلم اجتماع في بنغازي سنة 1973، درس الفن بشكل حر في القاهرة 1975، أحد مؤسسي إضاءة 77 وهي جماعة أدبية تضم مجموعة من الشعراء والأدباء والفنانين التشكيليين بالقاهرة 1977، شارك في العديد من المعارض وأقام العديد من المعارض: السكون المشمس 1983، التحولات 1987، صالون الأيتليه – فن الرسم 1988، إشارات وشواهد 1991، كهفيات الحبر والشمع 1992، بورتريه الحجرة 1995، الأقنعة 1996، لوبيات 1998، موتيفات عابرة 2002. أقام في القاهرة منذ 1976 إلى 2011. مؤسس قاعة رمل للفنون مع الفنان عدنان معيتيق والفنان عادل الفورتية وشارك في المعرض العام الليبي سنة 2014 وترأس اللجنة المنظمة له.
صحيفة العرب | السنة 45، العدد: 12630، السبت 17 ديسمبر 2022م.