«رصد الملامح والتعابير هما أفضل وسيلة لتجسيد الواقع»، هكذا يصف الفنان طه الجواشي علاقته بالصوة ورؤيته فن الفوتوغراف.
وربما نجد في هذا التعبير هوامش إطلالة مبكرة للنص البصري عند الجواشي، فاشتغاله في مجال السياحة مكنه من تشخيص ملامح الفن النحتي للحضارات القديمة، وخلص بتجارب السفر والاحتكاك بالسياح إلى تضمين تلك المعرفة في بعض أعماله، والامتلاء من جذور تلك الروح الضاربة في القدم.. وهي حالة من حالات الولادة المتجددة للصورة والمكان بالنظر المستمر إليهما واكتشافهما في كل مرة عبر مستويات معينة للرؤية يترجمها البعد التوثيقي للنص البصري.
وبروافد التقنية والإحساس تنقلنا العدسة لشواهد المسارح والمعابد بتعريض طولي يظهر جمال وفرادة المعمار، ويؤصل لعلاقة الليبيين بفن الفرجة لأزمان تعود لثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد، كما تصوغ رؤية الفنان في خط مواز أنفاسا جامعة بين ترائب الأسلاف والهسيس البشري اللاحق كامتداد لمعادلة الفعل الوجودي في الزمن، الراسي عند فضاءات المدن القديمة، بحيث تعكس جدرانها وأزقتها وتفاصيل بناياتها أثر البعد التاريخي الذي يبقى ملتصقا في الأذهان ومستظلا بالتواصل عبر ممر جبار اسمه الذاكرة.
مثلما يظل التوثيق حاضرا بشكل أو بآخر في أعمال الجواشي فإن للجوانب الجمالية حضورها كذلك، فنرى مثلا قوة اندفاع الفرس وسحابة الغبار البيضاء المتشكلة وراءه شكلت للمصور خلفية أعطته فرصة تحديد جسد الفرس، كما أن سحابة الغبار صنعت امتدادا مع بياض رداء الفارس، وأبرزت جمال الإيقاع الحركي للجواد.
نرى أيضا في صورة أخرى ابتسامة البدوي المستند إلى عصاه رفقة المهاري، حيث شكل اللون الأزرق للباس الطرف المقابل للون الجمال والكثبان معا، كما أن وضعية الالتقاط تمنحك الشعور ببعدها عن فضول العدسة.
ولا يبتعد طه عن سحر الصحراء إلا ليعود مقتنصا روعة الغروب للحصول على صورة ظلية يجسمها خط الأفق الذي يمثل ظاهريا نقطة التماس بين قرص الشمس والأرض، يرسم انطباعا في مخيلة المتلقي بأن الجمل والرجل والقرص يصطفون على خط واحد.
وبالوقوف مرة أخرى على ما يمكن تسميته توافقات اللون والحركة، نرى أضواء السيارات قد شكلت مع وهج المصابيح موجات وظفائر لونية، وعالما من الأطياف المنساح في الشوارع والأزقة، تلك العجائن تمتاح من جوهر التقاطة بصرية للذائقة وتوظيف جيد للتكنولوجيا.
البورتريه حكاية أخرى في أعمال الجواشي فهو تفاعل ثنائي بين الأسلوب والفكرة، إذ يصل من خلال الأول إلى المنحى الموضوعي للعمل عبر استنطاق دلالاته، فصورة الطفل وهو يخط بقلمه على اللوحة أو الشيخ وهو يقرأ ما تيسر من القرآن أو حتى إيحاءات العيون، يتم التعريف بها وفق رؤية الفنان عند تلك الثنائية.
ولا ينفصل عن هذا التضمين الموجود في حالة بورتريه الطبيعة كعالم من التداخلات والحركة المتواصلة والأشكال المتعددة والمختلفة لكائناتها ومظاهر الحياة فيها، التي تقودك إلى دواخل محيطها، ولكن يظل سؤال الفنان لنفسه أي اللحظات يمكن تثبيتها ووفق أي فكرة؟
بوابة الوسط | السبت 12 سبتمبر 2020