قصة

خريف العمر.. حياة ثانية

عصام غنيم

من أعمال التشكيلي الليبي خالد بن سلمه

الوقت صلاة الفجر في مسجد الحي.

السكينة تلف المكان، والأضواء الخافتة لا يمكن لها إلا أن تكون كذلك لتنسجم مع الجو الروحاني السائد.

كان ذلك في أواسط ثمانينيات القرن الماضي، كنت ترى المسجد في صلاة الفجر يكاد يخلو من المصلين باستثناء الشيوخ كبار السن، وبالكاد ترى شابا يافعا يقدم لأداء الصلاة في هذا الوقت.

ليس هذا اتهاما صريحا لهم، ولكن يجب أن نلتمس لهم العذر، حيث كانت صلاة الفجر في تلك الفترة لشاب في مقتبل العمر تهمة كفيلة بأن تودي به خلف الشمس كما كان يتداول، خاصة لو كان من أصحاب اللحى.

كنت قد افترشت ركنا في زاوية المسجد ، ربما سترا لي من بعض التهم التي ممكن أن تطالني كما أسلفت، فوجودي في هذا الركن المظلم ربما يعمي عني أعين المتربصين.

هاهاها!!!

كم كنت غرا، لم أكن أعلم أنهم بالتأكيد رصدوني بمجرد خروجي من بيتي في هذا الوقت، ولكن عنفوان الشباب ونزعتنا القتالية كشباب والتي تستمرئ الإذعان قدر المستطاع تجعلنا نخلِّف وراءنا أكباد أمهاتنا تغلي بعد أن أعيتها الحيل من صدنا عن الخروج للصلاة في هذا الوقت خوفا من بطش النظام في تلك الحقبة المظلمة من حيتنا.

كل ما أرجوه الآن أن تكون نياتنا تلك خالصة لله وليس فورة الشباب كما يقال.

ها أنا أرى إمام مسجدنا وهو يتهادى بثقل على درج باب المسجد.

يلقي السلام بصوت عالِ يتردد صداه في جنبات المسجد ، ثم ييمم وجهه شطر محراب المسجد، ويلقي بمسبحته الثقيلة ذات الحبات الكبيرة، والتي يزين شاهدها الرئيسي كتلة زرقاء من الصوف ، ويشرع في صلاة النافلة.

كنت أتعجب لماذا العجائز دائما يفضلون المسابح ذات الحبات الكبيرة، فكما الشيخ كذلك أمي رحمها الله كانت لا تحب المسابح التي كنت مهووسا باقتنائها وحريصا بأن أنتقي منها الأنيق والصغير في نفس الوقت، حتى يتسنى لي أن أضعها في جيبي دون عناء.

كانت مسبحة أمي مميزة ذات حبات صفراء مائلة للخضار قليلا، وتشع بريقا خافتا في الظلام.

الأن وبعد مضي كل ذلك الوقت صرت ممن يقتني المسابح الكبيرة دون الإلتفات لتلك الأناقة المنشودة، لقد عرفت السبب!

إنه حصاد السنين.

حيث يصعب على أنامل الكبار تحسس الحبات الصغيرة للمسبحة كنتيجة طبيعية لضعف مستقبلات الحساسية في أطراف الأنامل، وهذا يتطلب جهدا إضافيا وتركيزا عدديا بالتأكيد يخرجك من دائرة الخشوع والتسبيح فتفقد لذة المناجاة وتنشغل بالعد مخافة أن تمر بعض الحبات سهوا.

استشعرت الآن تلك اللحظات ولكن بنظرة تختلف تماما، أشعر الآن أني أعيش الحياة التي عاشتها أمي وكذلك أبي.

أري المواقف تمر علي في مشاهداتي اليومية سواء من بعض أبنائي، أو ممن أقابلهم من أطقال الحي حيث أسكن، وربما من الأطفال مرتادي المساجد، فأتخيل نفسي عندما كنت في مثل سنهم وأقارن بين شعوري في تلك الأيام مع ما أشعر به الآن، فعلا أنا الأن أعيش حياة ثانية ولكنها بفضل الله مفعمة وربما حكيمة عما كانت عليه قبلا، وتراني استمتع بها أكثر.

فها هو اليوم بجانبي صبي صغير كان يصلي معنا صلاة العشاء، وما إن ابتدر الإمام في تلاوة السورة بعد الفاتحة ليتفاجأ الصبي بجانبي أنها سورة (القدر) فشرع يردد مع الشيخ وجاهرا بصوته فخورا بنفسه أنه يحفظها كما الشيخ، كان عنقه يتطاول وهو يصدح بها، وكم كان يتمنى لو أنه استطاع إسكات الإمام ليعلم كل من في المسجد أنه يحفظ تلك السورة المياركة.

هذا التصرف على كل ما فيه من تشويش للمصلين ربما، أسعدني وبدرت مني ابتسامة مخفية لأني استشعرت شيئا مما يحس به ، ولقد كنت في شبابي استشيط غضبا وربما نهرته لو كنت بجانبه.

فعلا أنا الآن أعيش حياة ثانية.

إنه خريف العمر.

إنه وقت ترتيب الأوراق من جديد.

وللحديث بقية،،،

مقالات ذات علاقة

أمام المدرسة

إبراهيم حميدان

فَزَّاعِيَّاتٌ ( 1 ) – قصصٌ قصيرةٌ جدًّا

جمعة الفاخري

تــيـــزان*

عزة المقهور

اترك تعليق