كانت ليبيا احد مواقع ولادة فن الرسم والحفر والتنصيب والتلوين، هذا ما تؤكده الكثير من البحوث التاريخية والحفريات الاثرية، فلاتزال اثار تلك المنجزات قائمة الى الآن عبر ممرات وداخل كهوف الصحراء الليبية حتى بإمكاننا اعتبار هذه الصحراء احد اهم متاحف فنون ما قبل التاريخ حيث يعود تاريخ تلك الاعمال الى ما يزيد عن العشرة آلاف عام، ويقسم الباحثون تلك الاعمال الى مراحل تؤرخ لتطور تلك الفنون واضمحلالها من الحفر الى الرسم الى التلوين من مراحل تصوير الحيوانات الى تصوير الحياة اليومية.
لا شيء يشير الى ان المرأة لم تساهم في تلك الاعمال ويشير بعض الباحثين الى لوحات التفاصيل اليومية كترقيص الاطفال وصباغة الشعر ربما تكون اعمالا لفنانات من ذلك العصر.
مساهمة المرأة الليبية في الفنون التشكيلية برزت بعد اضمحلال الفنون الصخرية وبعد سيادة التصحر في الشمال الافريقي والاستقرار في الواحات وبناء البيوت كبديل للكهف وتحول سطح اللوحة من جدران الكهف الى البسط والملابس وجدران البيوت، لتحفظ المرأة الليبية وتطور فنون ما قبل التاريخ محافظة على غالبية ايقوناتها ورموزها ” المثلثات والغزلان وخميسة الجرمنت ” وغيرها من ايقونات ورثتها من فنون ما قبل التاريخ الصخرية ولا زالت تحافظ عليها الى حد الآن
في اواخر العهد العثماني وبدايات مشروع التجديد والنهضة عرفت ليبيا الفن التشكيلي بمفهومه الحديث، ودخلت اللوحة بأسطحها الجديدة الى ليبيا عن طريق بعض التجارب القليلة والبسيطة وتطورت التجربة في العهد الايطالي واصبحت اللوحة تزين بعض الاسطح كجدران المنازل والادارات الحكومية ودخل الليبيون في مغامرة التشكيل في تلك الفترة ولو على خجل وعبر كل تلك التجارب التشكيلية الليبية ظلت المرأة بعيدة عن ممارسة هذا الفن وواصلت فنها التقليدي المتوارث اعني السجاد بأنواعه.
في التجربة التشكيلية الليبية الحديثة والتي بدأت تتشكل بعد الاستقلال لم تظهر فيها مساهمات للمرأة وظلت المرأة موضوعا اثيرا للرسامين حيث يرسم الرسام المرأة الريفية الليبية كموضوع هوية ورمز للوطن والتراث دون ان تقتحم المرأة هذا المجال ليظل حكرا على الرسامين من الرجال الذين حولوا المرأة في غالبية اعمالهم الى ايقونة للتعبير عن كل شيء الا عن نفسها.
كان انطلاق المرأة الفنانة التشكيلية الليبية قد بدأ فعلا وبشكل لافت بعد افتتاح كلية الفنون التي خرجت اعدادا كبيرة من الرسامات الليبيات، اللاتي واصلن رحلة بعض الرائدات في هذا الفن.
اللافت للنظر في غالبية تجارب الفنانات الليبيات هو القفزة النوعية السريعة التي قفزتها اعمال الفنانات الليبيات سريعا نحو التعبير الحر والمتحدي لكل ظروف التخلف والقمع الاجتماعين والجرأة في التعبير عن الذات وعن المجتمع وتلك ظاهرة ليبية لافتة حيث تصدت الفنانة الليبية للتعبير عن مطامح الحرية والجمال رغم كل الكوابح الاجتماعية مثلها ا في ذلك كمثل الشاعرات الليبيات اللواتي اخترقن وبصوت جريء الكثير من التابوهات الاجتماعية.
ان تجارب واعمال فنانات رائدات كفتحية الجروشي ثم نجلاء الفيتوري وخلود الزوي ونجلاء الشفتري وغيرهن قدمت لنا اعمالا تصدت وبقوة للكثير من التابوهات وقدمتها بأعمال تضج بالمعاناة والتمرد.
وواصلت فنانات ليبيات اخريات التمسك بالهوية والتراث كعفاف الصومالي التي تبدو اعمالها استرجاع وحنين لمدينة تضيع مهددة بالخراب والاندثار.
ربما بالإمكان القول ان مسيرة مغامرة التشكيليات الليبيات انقسمت الى تيارين اثنين الاول وهو المسيطر ويسود فيه روح التمرد والتعبير عن الذات النسوية وسط مجتمع ذكوري وتبرز فيه تجارب فتحية الجروشي ونجلاء الفيتوري في بداياتها وخلود الزوي ونجلاء الشفتري وسعاد اللبة في تجاربها الاخيرة بإيطاليا ويبدو هذا التيار الاكثر قلقا ومغامرات تشكيلية وتجريب بحثا عن الذات وعن الادوات المناسبة لتدشين ثورة ليست فنية فقط بل اجتماعية اولا.
ان الرجل المتسلط والجسد المنهك والذي تصحو في روح وتحاول التنفس والصراع بين هاتين القيمتين الاجتماعيتين تظهر دراما عنيفة في لوحات تلك الفنانات، لا يظهر الجسد الانثوي الا مقموعا ولكن متمردا ومشوها في غالبية تلك الاعمال، ان صراع “الخط” و “الدائرة” يبدو عنيفا في تلك الاعمال.
تتفاعل تجارب هذا التيار مع تيار الحداثة بمفهومها العربي لتبدو قضايا القمع والحرية، الروح والجسد، المجتمع والفرد اهم روافد هذا التيار.
اما التيار الثاني وهو تيار تبدو الهوية اهم قضاياه , اعني الهوية الليبية وايقوناتها وما تعبر عنه من مخاوف وتهديد بالزوال ويظهر ذلك عبر رسم المرأة الليبية في تفاصيل حياتها الليبية الخالصة من لباسها وجلستها والوانها محاطة بأيقونات ليبية ورموز تعود الى تاريخ بعيد , وتمثله تجارب عفاف الصومالي بشكل واضح الكثير من التجارب الجديدة الشابة من طالبات وخريجات كلية الفنون , وتظهر المرأة الليبية في هذه الاعمال كأيقونة للبلاد والهوية والتراث ومقاومة لذوبان الهوية في الهويات الدخيلة وتمجيدا للخصوصية الليبية .
تجارب الفنانات الليبيات في النحت واعمال الخزف تبدو متميزة ومختلفة وتعتبر تجارب هادية قانة مهمة للغاية ويغامر في اعمال هادية الفن بإعادة صياغة الحياة والكائنات بمزيج مدروس بين الاصالة والتحديث وبين المشاعر والعقل، بين المعرفة والواقع، بينما تبدو تجربة ميسون عبدالحفيظ بحثا عن المختلف والتعبير عن ذات تعيش مغتربة وسط مجتمعها.
ان تجارب التشكيليات الليبيات ترصد وتعبر عن كل هموم المرأة وتطلعاتها واحلامها وامالها ولقد لاحظت في الفترة الاخيرة اقتراب التيارين والتقائهما في مسالة الهوية والعودة الى ايقونات الهوية من قبل فنانات مثلن التيار الاول خاصة في اعمال نجلاء الفيتوري ونجلاء الشفتري الاخيرة حيث يتداخل الموروث بالحديث.
هذه ليست الملاحظات خرجت بها من تجارب اطلعت عليها وهناك بالتأكيد تجارب فنانات ليبيات اخريات خاصة الجديدة لم اطلع عليها بشكل جيد بكل اسف، لتظل تجربة التشكيليات الليبيات ثرية وبحاجة للدراسة بشكل متمهل وفاحص.