طيوب البراح

قمّيلة

هدى محمود

صورة من أعمال المصورة سارا كمال
صورة من أعمال المصورة سارا كمال

أمي طبيبة نساء وولادة تشارك في جرائم الإنجاب كل يوم…

  • مش عارفة علاش تولّدي فيهن هاذينا النساوين وتركبي في ذنوب أخرى ع روحك!! مش مكفياتك جريمتك فيا وفي خوتي؟
  • أنا اللي مش عارفة كنهن الكتابات اللي تقري فيهن ما دارنلك فايدة وطمرة!

كنت دائمًا أستفزها عمدًا بجمل أعنيها أو لا أعنيها فقط لأجعلها تغضب.. وكانت تغضب لكنها تعاقبني بالتجاهل وأعاقبها أنا بعدم الانصياع ثم نزداد نفورًا يومًا بعد يوم.. لفتتُّ انتباهها مرة إلى أنني قد قرأت خبرًا عن أحد الذين قاموا برفع دعوى قضائية ضد والديه يتهمهم بإنجابه له دون إذنه.. لا أدري إن كانت تعلم أن كل ما أقوم به هو محاولة للنكز علّها تنتبه إلى وجودي..

أما أبي فهو تاجر أرواح يعمل جرّاحًا في مركز طرابلس الطبي إضافة إلى ثلاث مستشفيات خاصة تكمل هوسه بتجميع المال.. الطب لديه تجارة تمخض عنها التبلد والبرود. وعلى رغم انه جرَّاح مقتدر داوى جراح كثير من الناس إلا أنه لم يداوي يومًا جرحي الغائر الذي سببه لي لقب العائلة الذي يشعرني دائمًا بالإحراج والخزي.

“سارة علي قمّيلة”… قال أستاذنا الدكتور الذي شرع في تلاوة أسماء الطلبة لإذلالنا بالدرجات. لكنه توقف عند اسمي ثم وصله بضحكة مهينة قبل أن يتطوع ليشرح لزملائي في المدرّج المكتظ أن “قمّيلة” تصغير لكلمة “قملة” التي تعني حشرة تعيش في الرأس المكتظ بالشعر.. وليكتمل المشهد المهين لم يفُتْهُ طبعا التعريج على أن لوجود القمل علاقة بالإهمال وانعدام النظافة الشخصية.. في تلك اللحظة كنت قد تمنيت فعلًا لو أنني أصبح قملة أو كائنًا بحجم قملة وأغيب عن أنظار زملائي الذين بدأوا في التنمر عليَّ بنظراتهم وتعليقاتهم السخيفة:

  • “عليك و ع المشط الرقيق يحوّل القمل”.
  • “لالا مافي زي القاز عومي واغسلي هاهاها!”

كدت أنفجر لحظتها.. كم تمنيت أن تنشق الأرض وتبلعني وتبلع كل عائلتي وذكرياتي وتاريخي.. خجلت خجلت حتى شعرت بثقل كتفَيَّ.. وبأنني لم أعد أرغب في أن أبقى دقيقة واحدة في الكلية. بل في أن أعيش دقيقة واحدة في هذا العالم.. بكيت بألم وذلّ.. كنت قد عدت إلى البيت وانفجرت في وجه أبي “ألا يوجد أي لقب آخر في هذا الكون إلا هذه الحشرة المقززة؟!”.. لماذا كان عليَّ أن أتحمل هذا الحمل السخيف.. تمنيت لو أنني ولدت في الصين أو في دولة أوروبية أو في أي مجتمع لا تعرف لغته معنى كلمة “قمّيلة”.. كان لا بد من أن أجد أحدا ما يواسيني ويُنسيني هذا الألم لأن عائلتي تجاهلتْ ثقل الهموم التي ليس آخرها لقب العائلة المحرج.. تجاهلتْ مثلما تجاهلتْ كل المشاكل التي مررت بها منذ الطفولة حتى الآن.. تذكرت كيف أنني كنت أجمع الأدوية من الصيدلية المنزلية وأضعها في درج واحد أمام أمي التي لم تكلف نفسها أكثر من هذا السؤال:

  • شنو هواية جديدة هادي تجميع الأدوية؟
  • لا مش هواية بس مرات يستحقلهن حد يلقاهن!

لم تفهم أمي قط أن هذه أيضا محاولة للنكز وأنها يمكن أن تكون سبيل من يريدون تسجيل خروج من اللعبة.. لا أفهم قلة انتباهها وتجاهلها لكل رسائلي.. كنت أحتاج إلى تمرير العديد من الرسائل.. وكنت واقفة في المطبخ أقلي البيض حين أخبرنا شقيقي همام بحزن بأن أم صديقه وُجدت منتحرة في الغرفة بعد ولادتها.. وأضاف:

  • مسكينة عيال عمه مدايريلها كتيبة..!
  • لا كتيبه و لا حاجة.. نحنا شعب كل شي نحذفوه للسحر.. هادي عندها اكتئاب ما بعد الحمل. بس يا وليدي الجهل مصيبة..

فقاطعت حديثهم مؤكدة على عبارة أمي بأن الاكتئاب حقا يؤدي إلى الانتحار… صمتتُّ بمكر.. ثم خرجت..

تجاهلت أمي كالعادة. وكان عليَّ هذه المرة أن أعمد إلى تسجيل موقف أكثر حدّة.. لكنهم هذه المرة طاروا بي إلى المشفى بسرعة.. كانت أول مرة انتظر فيها اهتمام والديَّ ويأتيني بهذه السرعة.. وما زلت أذكر ذلك الهلع وأنا نصف منتبهة والدماء تسيل من معصمي وكيف وصلنا إلى المشفى. ولم أعد أذكر شيئا بعدها سوى لحظة استيقاظي في الفراش وسط غرفتي الحبيبة حيث انتمى.. لا مكان يحتويني مثل غرفتي.. كنت مستلقية على السرير وكان يبدو أنني قضيت وقتا هنا.. تلفت عن يميني فلم أجد سوى صديقتي الحميمة ساكنة بجواري كعادتها.. كانت مرآتي التي دائمًا ما كنت أحدثها بلهجة سورية أو لبنانية وأخترع ملايين السيناريوات ونضحك.. أحيانًا أرقص أمامها وهي ترقص معي أيضًا بصورة معكوسة وتضحك عندما أضحك أيضا بصورة معكوسة.. مرآتي تغني معي حين أمسك فرشاة الشعر كأنها مكبر صوت.. لقد التقطت صورا كثيرة معها.. مرآتي صديقتي الوحيدة المخلصة لي التي تؤنس وحدتي في هذا العالم.

نهضت عن السرير.. اقتربت من المرآة.. تأملت الرباط الذي بمعصمي الأيمن وضغطته على أنفي لأشمَّ  رائحة اليود ثم أحسست بألم خفيف وشيء من الأكلان.. فككت الرباط لأختلس نظرة إلى الجرح المربوط بخياطة طبية بشعة.. أرجعت الشاش وحينها كنت قد انتبهت إلى أن البيت هادئ جدًا.. كان علي في النهاية أن أخرج من الغرفة لأتفقد المنزل وأكتشف أنني وحيدة كالعادة.. انصرف الجميع إلى شؤونهم.. أبي، أمي.. حسام وهشام وهمام.. ما بال هذه العائلة؟ ألا توجد في قلوبهم رأفة؟ لِـمَ كل هذا التجاهل؟ كان عليهم أن يضلوا بجانبي ويرعوني في هذا الظرف الصعب..! هل ثمة استهتار بعد هذا الاستهتار..! أم أنهم عرفوا أنه من يرد أن يغادر الحياة حقا لن يختار جرح شرايينه بهذه الطريقة المهزوزة. أو أن يبتلع كمية مضحكة من الأدوية التي يجمعها على مرأى عائلته.. نعم… هذه طرق من يتخبطون من الوحدة وليس همهم الرحيل بل البقاء ونيل الاهتمام.. من أراد الرحيل حقا سيفعل هذا بطريقة جادة لا إمكان عودة فيها.. طريقة ليست فيها فرصة ضئيلة للنجاة.. عائلتي تفهم هذا جيدًا.. كنت وحيدة لكنني كنت على وشك الكتابة لأحدهم.. صديق قد تعرفت عليه منذ فترة في الفضاء الأزرق الذي رأيت فيه وسيلتي لأبلغ غايتي وأعيش حياتي التي أريدها لا كالتي يريد الآخرون.. كان صديقا كاتبًا متحررًا ومثقفًا ومختلفًا عن العوام. لكنه كان القشة التي قسمت ظهري حين تذكرت ما قاله لي ذات يوم: “لا شيء يزعجني في الفتاة أكثر من أنها تريد من الشاب أن يكون حائط مبكى لها”.. تذكرت هذه الجملة فتراجعت مباشرة عن إرسال أي شيء.. لكنني نشرت هذه العبارة على صفحتي “يجب أن نموت لنعيش..!”.. ثم خرجت من فيس بوك.. أنا منبوذة وكريهة الآن.. عبء على هذا الكون.. قمّيله تنهش فروة رأس الحياة تقف أمام خيارين. إما أن تغادر هذا العالم السخيف التي أُرغِمَت على دخوله أو أن تغير لقب عائلتها.

غيرت لقب عائلتي.. أو بالأحرى قررت أن امتنع عن كتابة اللقب القديم وأن استعيض عنه باسم جد جدّي (امحمد).. غير أن هذه الفكرة لم تمنحني بؤرة النور التي كنت أنشد وسط هذا الظلام.. استلقيت على الفراش.. فتحت الدرج المجاور فوجدت كل الأدوية في مكانها.. “أوف.. استهتار هذه العائلة لا يحتمل.!”..

في وقت متأخر كانت عائلتي قد عادت إلى البيت. وكنت قد تظاهرت بالنوم حين جاءني صوت والدي الذي نادى على أمي بحزن “تعالي يا مريم يهديك الله معش تعذبي روحك أكثر!”.. وسمعت صوت بكاء أمي في غرفتها.. وددتُ أن أنهض لأصرخ في وجهها “إن كنت قلقة حقًا إلى هذا الحد لماذا تركتني كل هذا الوقت.. ولماذا لم تفرغي الدرج من الأدوية.. أم هل عليَّ أن أبلعها كلَّها لتعلمي أنها  “مش هواية بس مرات يستحقلهن حد يلقاهن..!”.”.. كنت في قمة غلياني. وقد أقسمت بأن لا أكثرت مرة أخرى وبأنني هذه المرة سأعاقبهم جميعًا بما يليق بإهمالهم.. لن أضرب عن الطعام ثانية. لن أنام على طول اليوم.. هذه المرة سأنام نومة تصفع كل برودهم.. لقد أُقحمت في هذه الحياة دون مشورتي. وسأخرج دون مشورة أحد.. لابد أن أستعد لهذا الحدث بطقس مهيب وبقوة.. فتحت باب الغرفة وخرجت واثقة.. مشيت على طول الممر إلى الحمام الذي لم أجد فيه فرشاة أسناني.. فتحت الباب. ناديت أمي كأنَّ شيئا لم يحدث “ماما.. أين فرشاة أسناني..؟ كم أتمنى أن أضع شيئا في هذا البيت وأجده في مكانه..!”.. مرت أمي من أمامي كأنها لم تسمعني.. بل كأنها لم ترني.. أغلقتُ باب الحمام بغضب حتى كدت أن أحطمه.. قضيت قرابة ساعة في الحمام.. ساعة بحثت فيها عن السكينة والهدوء.. وعند خروجي كنت قد انتبهت إلى أن الدرج كان مفتوحا كأنَّ أحدهم قد عبث بالأدوية.. ثم تفاجأت بشقيقي “همام” نائمًا في فراشي. أو لم أنتبه مَنْ مِن أشقائي هو القابع تحت الغطاء.. لم يحدث أن فعلها أحدهم ولم يكن لي من فرصة لتخمين من ينام هناك.. هل من الممكن أن تكون أمي.؟. اقتربت فكانت الصاعقة.. مستحيل..!!! لقد كنتُ أن النائمة في الفراش.. كنتُ أنا أنا.. أنا بكل حقيقتي.. أنا أنظر إلى نفسي الآن وأنا جاثمة في الفراش دون حراك أو أنفاس.. صرخت حتى تجرحت حنجرتي.. خبشت خديَّ وأدميت وجهي.. لم أكن أعني مغادرة هذا العالم.. صدقوني.. كنت فقط أريد لفت انتباه عائلتي.. كنت وحيدة وأريد بعض الاهتمام.. كيف لجرعة أدوية تافهة أن تخرجني من هذي الحياة.. أي ظلم هذا..؟ أي عالم هذا الذي تدخله مرغمًا وتغادره مرغمًا..! بدأت أسمع عبارات تصلني من داخل أعماقي لأصوات أناس أعرفهم.. “ادعولها بالمغفرة..”.. “سارة علي قمّيلة.. الله يرحمها ويسامحها.. كانت كيف النسمة..!”.. يسامحني..!؟ لكن ماذا فعلت..؟! تطوف في أعماقي مناشير فيس بوك حول انتحار شخص ما.. خلفية بيضاء وعبارات دينية حول أن “المنتحر كافر يخلده الله في الجحيم..”. لكن هل يعذب الله المظلومين؟!!.. كيف أموت دون حل هذا الخلاف مع أمي.. إنها تحبني.. وأنا أحبها.. أحب عائلتي.. لكنني لا أحب طريقتهم في هذا الحب.. هذا كل ما هنالك.. ارجعني يا الله.. أنا سارة.. سارة علي قمّيلة التي تنهش فروة رأس الحياة.. إنها التي كانت تقف أمام خيارين.. إما أن تغادر هذا العالم السخيف التي أُرغِمَت على دخوله.. أو أن تغير لقب عائلتها.

……………

طرابلس.. 2019

مقالات ذات علاقة

شبيهكم أَنتُم!

المشرف العام

حب على أرض أويا

المشرف العام

رحمة

المشرف العام

اترك تعليق