قصة (الكرة) المنشورة ضمن مجموعة (امرأة على حافة العالم) كتبتها القاصة عزة المقهور سنة 2020م تقليداً للراحل والدها الذي نشر قصة بنفس العنوان (الكرة) في مجموعته (14 قصة من مدينتي) الصادرة سنة 1965م، أي أن المسافة الزمنية بين القصتين هي خمسة وخمسون عاماً.
في ورقتي المعنونة (بعضُ المحطات قبل محطات: قراءة سريعة في “امرأة على حافة العالم”) المقدمة للندوة التي نظمتها السقيفة الليبية بالتعاون مع بوابة ليبيا المستقبل للإعلام والثقافة بالتعاون الأسبوع الماضي في تونس عقدتُ مقارنة بين القصتين، من حيث المضمون وتقنية السرد، دون الغوص في التحليل الفني بشكل كبير.
واليوم اخترتُ نشر القصتين متتاليتين لإتاحتهما معاً أمام القراء، مبتدئاَ بقصة الأديب الراحل كامل حسن المقهور، ثم قصة ابنته المحامية عزة كامل المقهور التي تخاطبه في رسالتها بمناسبة ذكرى ميلاده نشرتها بتاريخ 3 يناير 2021م تقول فيها:
(سأخبرك بأمر آملة أن تستحسنه، لكني مترددة. أتذكر قصتك القصيرة “الكرة”؟
كتبتُ قصةً بذات العنوان… لا تقلق، دعني أكمل لك.. أراك تقول “إيه علينا عاد”!.. لا لا هي تجربةٌ فحسب، صحيح أنني خرجتُ عن قواعد القصة، لكنني أحببتُ بهذا التمازج أن أعيد ذاك الحقيقي الذي كان بيننا.. أنا ابنتك وجزءٌ منك، لكنني امتزجتُ بك يومَ عَمِلتُ معك بمكتب المحاماة.. عشرُ سنواتٍ وأنا منكبة إلى جوارك تعلمني الحرفَ والكلمةَ والقاطعةَ والفاصلةَ.. ثم تعلمني أصول المرافعة.. والتعامل مع البشر.. والاستقبال الحسن والرحمة لمن ذل بعد عزة، والعفو لمن أساء إن لجأ إليك طالبا متكأ وعوناً…إذاً دعني أحاولُ، حسناً ها أنا أرى قسماتِ الرضى على وجهك الحنون.. اليوم قصةُ “الكرة” هي قصتُنا.. ما بين الظهرة وقرجي في زمنين مختلفين.)
أولاً: قصة (الكرة) للأديب الراحل كامل حسن المقهور
كان ذلك في أواخر أيام الربيع .. في نفس الوقت الذي يتجمع فيه الصغار في (الوسعاية) قريباً من الطريق المار بين الجبانتين .. قبل أن يمتد الشارع الكبير المرصوف الذي يصل الحي بالمدينة .. في نفس الوقت الذي يرجع فيه الكبار .. أناس كبار .. ولكنهم ضعاف .. متعبون .. عيونهم هامدة .. أرجلهم ثقيلة .. وخطواتهم حائرة .. وفي أيديهم أشياء .. أرغفة خبز .. خضر من السوق .. وثيابهم ملطخة بآثار العمل.
في نفس الوقت بعد مواعيد الكتاب حيث يجلس الفقيه أمام الجامع يشاهد الشيوخ يلعبون (الخربقة) وينتظر أفول الشمس ليأمر بالآذان. وكان الصغار يخرجون من البيوت كالجرذان وفي أيديهم كسرات من الخبز، يتجمعون في (الوسعاية) .. ويملؤونها ضجة .. ويقسمون أنفسهم إلى فرقتين يلعبون الكرة. فرقتان تضمان جميع الصغار إلاّ عبدالله .. فقد كان يجلس على حائط الجبّانة يتابع الكرة بعينيه اللامعتين .. ويتحرك جسده مع تحركات اللاعبين .. ويصفق عندما يحرز أحدهم هدفاً .. ويبتسم في ألم حينما يحسن أحدهم اللعب .. ولكنه كان دائماً يجلس في نفس المكان دون أن تتاح له فرصة اللعب.
وعندما يتقدم النهار .. ويبدأ الشيوخ في الخروج من الجامع .. ويهرب بعض الصغار إلى البيوت .. ولا يبقى في (الوسعاية) إلاّ نفر قليل .. كان عبدالله ينزل من مكانه على الحائط .. ويبدأ في الدوران حول (الوسعاية) .. وأحياناً يتحسس الكرة برجله .. أو يأخذها بين يديه ثم يرميها إلى أحد اللاعبين .. وأحياناً يلاحقها عندما تبعد عن (الوسعاية) إلى أخر الطريق المار بين الجبّانتين ويطاردها حتى الشارع الكبير ثم يرجع بها وهو يلهث .. ويعطيها وهو يبتسم لأحد اللاعبين.
وقد يحتاج أحد الفريقين إلى لاعب .. وتمتد الأنظار إلى عبدالله .. فيبتسم ابتسامته المملؤة ألماً .. ويظل يحرك رجليه والجميع يتشاورون ..
– لا ما يلعبش معانا ..
ويرتفع صوت أخر رقيق يعرفه عبدالله جيداً ..
– ولد الفاسدة … أمي قالت لي ما تلعبش معاه.
ويطول التشاور أحياناً .. وتصل إلى أذن عبدالله كلمات عميقة حتى تصل إلى قلبه فتجرحه، فلابد أنهم يكرهونه .. ليس هم فقط، بل وأمهاتهم أيضاً، النسوة اللاتي يأمرن صغارهن بعدم اللعب معه، وكأنه أجرب .. أو أي شيء أخر، وتصله الأصوات مرة أخرى ..
– أنا قلت ما يلعبش معانا .. كان يلعب أنا نبطل ..
– العبوا ناقصين.
ويصعد عبدالله إلى مكانه القديم فوق حائط الجبّانة .. وعلى شفتيه ابتسامة أليمة .. وحبات من الدموع يمنعه كبرياؤه من ذرفها أمام الصغار .. حتى يطغى الفريق الأكثر عدداً في اللعب ويحرز هدفاً أو إثنين .. وعندئذ يتنازل صاحب الصوت الرقيق .. ابن الحاج .. وهو دائماً صاحب الكرة ..
– خلو ولد الفاسدة .. يلعب معانا .. لكن اليوم بس !!
ويحمى اللعب .. ويبدأ عبدالله ببذل أقصى ما يمكن من جهد .. ولكنه كان يحرص دائماً على أن يرمي الكرة ناحية صاحب الصوت الرقيق حتى يرضى عنه، لكن الأخر كان دائماً يقول:
– باصي باهي .. يا ولد الفاسدة !
كلمات قبيحة .. كانت دائماً تلصق بأمه .. حتى النسوة كن دائماً يشرن إليه ويقلن في غير حياء هذه الكلمة. ولم يكن يصدق هذا الكلام، فهو يحب أمه، ويراها جميلة .. صغيرة .. على وجهها أصباغ لا تحلم بها نساء الحي .. وتعيش بعيداً عن جوهن الموبوء المملوء مشاحنات، وعن التراب، والجامع المتهدم، والبيوت المنخفضة اللاصقة بالأرض. وكان يحبها جداً على الرغم من أنها لا تسكن معه .. ولا مع جدته حيث يعيش، ولم يكن يتصور أبداً أن هذه الإنسانة الرحيمة الجميلة يمكن أن تكون ما يدعونه في الحي، إنه يكرههم لذلك .. إنه يكره حتى شارعهم .. حتى أطفالهم .. ولكنه لا يعلم على وجه الدقة لِمَ يعيش معهم ولا يعيش مع أمه.
لقد قال لها مرة عندما زارها ..
– أمي .. نبي نعيش معاك .. أنا عييت من العيشة بعيد.
فابتسمت له ابتسامة حزينة، ووضعت يدها على رأسه، ولاعبت بشعره، ثم قالت:
– مش توا .. يا عبدالله … لما نكمل الخدمة نعيشوا مع بعض .. في حوش ملكنا في المدينة.
وكان دائماً يسألها ..
– شن تخدمي … يام ..
فتبتسم ابتسامتها الحزينة وتلاعبه وهي تقول:
– خدمة تجيب فلوس .. ياسر من أيام الهم .. قولي وين تبي الحوش .. !!
ويعيش معها أسعد لحظات حياته يحلم بالسكن الجديد .. ويلون لها الحجرات ويبتسم وهي تصف الأشياء الجديدة التي سيملكها .. والملابس .. واللعب .. والكرة التي لم يشاهدها أبداً صغار الحي .. وأشياء .. وأشياء .. حتى تقول له:
– خلاص يا عبدالله .. أنا ماشية للخدمة ..
فيرد في رغبة وعيناه تلمعان ..
– نمشي معاك .. إنشاء الله تربحي ..
فتبتسم له ابتسامتها الحزينة .. وهي تقول ..
– لا مش اليوم .. مرة ثانية ..
حتى الأمس حيث كانت أخر زيارة، وكان وجهها شاحباً .. معروقاً وليس عليه أصباغ، وكان معها امرأة غليظة تمسك بها في قوة. وعندما ضمته إلى صدرها أحس لأول مرة بالدموع تبلل ثيابه، وقد دفنت رأسها في صدره .. فابتسم لها .. ورفع رأسها إلى فوق ..
– تبكي؟ .. علاش .. قولي لي … علاش !؟
فمسحت دموعها .. وأخرجت له كرة كبيرة لم يرها الحي أبداً .. وقالت له وهي تودعه ..
– خلاص يا عبدالله .. كملت الخدمة .. بعد أيام نسكنوا مع بعض …
وبينما هي تحضنه قالت المرأة اللابسة البياض ..
– حرام عليك .. الله لا توريه هم .. أوه ..
وفي ذلك اليوم من أيام الربيع في الوسعاية، وقف الصغار جميعاً يشاهدون عبدالله يلعب وحيداً بكرته الكبيرة. ولم يكن عبدالله يجد لذة في اللعب وحيداً .. ولم يجد الأطفال لذة في اللعب بالكرة الصغيرة .. فاقتربوا منه يقلبون الكرة الملونة .. ويشاهدونه وهو يلعب حتى تجرأ أحدهم ..
– نلعبوا معاك يا عبدالله ..
فابتسم عبدالله ابتسامة المرح ولمعت عيناه وقال:
– إلعبوا كلكم إلاّ ولد الفاسدة هذا ما يلعبش معانا .. أمي قالتلي ما تلعبش معاه ..
وحينما هجم عليه إبن الحاج .. وقف الجميع دونه يدافعون عن عبدالله.
ثانياً: قصة (الكرة) للمحامية عزة كامل المقهور
إلى أبِ تهليل وتكبير.. الصديق/ محمد بن لامين
لم يكن بيننا وبينهم سوى كرة… خضراء بحجم قبضة اليد.. مجهدة وتعبة ومنهكة.. تحتمل الصفعات المتتالية، وحين تهرب وهي تتدحرج وتختبئ سرعان ما تلتقطها اليد وتعنفها مجددا.
تشرع “المدينة الرياضية” واجهتها على شارع رئيسي إسفلتي واسع قليل الحركة في منطقة “قرجي”، واجهتها مشوهة كأغلب المباني العامة بالمدينة. تشعر بأن المبنى ولد من رحم متعسر، ولادة أشبه بالقيصرية، كأنه كان يتنفس على الورق ثم اختنق على الأرض.
يعلو مدخل المبنى يافطة بلاستيكية على شكل قوس غير محكم الزوايا، تجلس تحتها مجموعة من الرجال يرتدون الزي الليبي، يداعب أحدهم بقدمه خفه الملقى بجوار كرسيه البلاستيكي الأبيض، يمدد آخر قدميه ويسترخي بجسده على الكرسي حتى يكاد أن ينزلق منه، وذاك يمسك ويضغط بيده على قدمه الممددة كطفل على فخده.. ظاهرهم أنهم مستغرقون، حالمون بعيون مفتوحة، لكن ما إن تمر السيارة عبر القوس حتى يعتدلوا في جلساتهم وينتبهوا إلى السائقين وهم يرتشفون المارة بعيونهم باستمتاع…
ترتمي المدينة على الشاطئ حانقة من قيظ الصيف، تنز عرقا بسبب الرطوبة المنبعثة من سطح البحر الذي يوشوش لها دون توقف حتى سئمت منه.
يبدو كل شيء رتيبا وفي غاية الانسجام في آن واحد.. المبنى المهمل، السور غير المطلي، الواجهة ذات البوابة الصدئة، والقوس ذي الاعوجاج واليافطة التي فقدت أغلب حروفها، الوجوه اللامبالية، والأرجل المسترخية، والسيارات التي تقتحم المبنى ببطء ثم تبحث عن مكان تلتهب فيه تحت الشمس المحرقة…
بعد تجاوز المدخل ببضعة أمتار، تظهر فتحة على الطريق إلى اليمين تؤدي إلى باب حديدي لسور مهمل آخر يحمل آثار صفعات الهواء المحملة بالغبار وتسرب سيلان المطر على ظهره حتى انتفخ طلائه وتقشر وسقط مغشيا عليه إلى جواره.
ما إن نتجاوز الباب الحديدي كزرافات مغلفة في أزياء مختلفة، حتى يظهر لنا حشد من الرجال في وسط الملعب، يقودهم مدرب متمرس، يتحرك بمرونة وكأنه يقود أوركسترا من الذكور، يتبعون تعليماته ويؤدون الحركات الرياضية بشكل جماعي متناسق، فيما يحشذ المدرب الهمم ويعلي من التحدي وهم يستجيبون له ويتفاعلون معه… تشعر وكأن الأرض تهتز في بقعتهم، يقفزون ثم يطرحون أجسادهم أرضا، يرفعون أذرعهم، فيما نحن على طرف المضمار نتبادل شعورا بالحسرة، إذ لا نملك من هذه الأرض التي يفترشونها ومدربهم إلا شريطا داخل السور المهمل نتبعه برتابة، وفي كل خطوة نثير التراب الجاف من حولنا، وكأن الأرض عجوز تلهث.
ندور كالحملان الوديعة التي تسلك ذات الطريق، تنغرس أقدامنا في التراب.. مجهدات وقد تعامدت الشمس على رؤوسنا.. بينما جمع الرجال ومدربهم يكسرون التحدي بضجيج مفرح يشعرنا بنقيصة ويعليهم بدرجات…
كل هذا الدوران المجهد لا يحقق تحديا ولا هدفا… ما أن نلهث حتى نتوقف ونترك المكان.. لا نختلف في تكرار دوراننا عن ذلك السور ولا الباب الحديدي الصدئ…
كنا نشبه “عبد الله” في قصة “الكرة” وهو يدور في “الوسعاية” بين “الجبابين”، يرى أولاد “مقطع الحجر” بحي الظهرة يلعبون الكرة ويرفضون أن يلعب معهم، ذاك الشعور بالدونية.. بأن تبتسم للآخرين وهم يحرزون الأهداف وهو يشاهد ولا يشاركهم، لكنه يوم أحضرت له أمه التي يعيرانه بها ويطلقون عليها أقذع الأوصاف كرة جميلة وملونة تهافت عليه الأطفال يتزاحمون لكي يلعبوا معه..كانت الكرة فارقة في العلاقة بينهم وبينه..كرة في حي الظهرة في الستينيات، غيرت علاقات الشارع، وبعد أن كان عبد الله (( يبدأ في الدوران حول “الوسعاي”ة وأحيانا يتحسس الكرة برجل، أو يأخذها بين يديه ثم يرميها إلى أحد اللاعبين.. أحيانا يلاحقها عندما تبعد عن “الوسعاية” إلى آخر الطريق المار بين الجبانتين، ويطاردها حتّى الشارع الكبير ثم يرجع بها وهو يلهث.. ويعطيها وهو يبتسم لأحد اللاعبين)) جاء إليه الأولاد مترددون وهو يلعب بكرته الكبيرة التي أهدته إياها أمه التي لطالما عيروه بها وتوددوا إليه وهم يتزاحمون من حوله كالجراء التي تهز ذيلها فرحا “نلعبوا معاك ياعبد الله“؟…
كان لابد أن نجد كرة ما… أن نخرج إلى ما وراء السور القبيح، ألا نشعر بتلك النقيصة كلما صاح الرجال فخرا بقبول التحدي وانجازه، بينما نحن ما نزال ندور كالحملان…
للمدينة الرياضية جزء خلفي، يختبأ خلف أشجار الأوكالبتوس الشاهقة المتهدلة كعاشقة لا تمل الرقص مع الريح أو نسيمه سيان… جذعها ثابت وصلب، يميل إلى البياض يذكر نفسه أن بذوره شمالية أتي بها الإيطاليون الذين اعتقدوا أنهم باقون، فغادروا فيما بقيت ونمت وترعرعت بيننا وظللت علينا…
هناك امتدت أربعة ملاعب للتنس الأرضي. كان اكتشافا باذخا.. شباب يتدرب ورجال يلعبون وأصوات هامسة بين وشوشات شجر الأوكالبتوس.. مكان لا يمت بمحيطه بصلة.. جماعات تعرف بعضها، يحملون على ظهورهم غلالات نظيفة وبناطيل قصيرة، يشبهون “عبد الله” وهو يحمل كرته مزهوا بها…
يحول بيننا وبين الملاعب سياج معدني متشابك يبدأ وينتهي ببابٍ واحدٍ متطرف للدخول إلى الملاعب والخروج منها…
يجلس بالقرب من الباب جمعٌ من الرجال.. يسترخون على الكراسي البلاستيكية.. لكنهم على عكس رجال البوابة الرئيسية، يتصرفون وكأنهم مالكون للمكان الفسيح الهادئ دون بوابة…
جلسنا على المدرج الحديدي.. نشاهد المباريات التي تدور على أرضية الملاعب الخضراء.. نحرك رؤوسنا كبندول الساعة نتابع الكرة التي تتقاذف بتناغم، يتبادلونها بضربة يد، تفلت وتهرب منهم أحيانا فيعودون بها ويعاقبونها على هربها…. في جلستنا البعيدة تلك، كان حالنا كعبد الله في قصة “الكرة” ((يجلس على حائط “الجبانة” يتابع الكرة بعينيه اللامعتين.. ويتحرك جسده مع تحركات اللاعبين.. ويصفق عندما يحرز أحدهم هدفا.. ويبتسم في ألم حينما يحسن أحدهم اللعب.. ولكنه كان دائما يجلس في نفس المكان دون أن تتاح له فرصة اللعب)).
كان الدوران داخل السور أسهل بكثير.. ما أن ندخل ندور.. باب مشرع وسور…لكن هنا كيف السبيل للدخول.. وقلة من النسوة اللاتي يترددن على هذه البقعة المختبئة جئن من أجل أخذ أولادهن.. والباب الأخضر الضيق المتطرف وحراسه.. والشبك الأخضر.. والكرات والذكور…
تذكرت أن عبد الله أحضرت له أمه الكرة.. وفي حالتي هذه -وأنا أم- جئت لذاتي لألعب، وأن عليّ أن التقط الكرة بنفسي وأن أصفعها أمام الجميع وأحُسن تصويبها وخبطها لتتجاوز الشبكة إلى داخل الخطوط المرسومة لها، وأن استقبلها وأجري نحوها وأستمر في صفعها بذات القوة حين تعود اليّ مجددا.
كرة ككرة عبد الله في القصة ستكون كفيلة بدخول الملعب والتعامل معها…. كرة بقبضة اليد ستكون الفارق!
تبادلت نظرات صامتة ومتحدية مع رفيقتي، تلك النظرات التي يضعفها النطق وتشد من أزرها الحركة. اتفقنا على اقتحام قفص الملعب، وهكذا…اتجهنا نحو الباب الحديدي المشبك بخطوات مسرعة، متأهبتان لأية رد فعل.. ما إن اقتربنا منه حتى هبط صمت عميق على المكان واستقر فوق شجرة الأوكالبتوس التي يتجمع تحتها الرجال.. ولّد الصمت العميق شحنات من النظرات التي احتشدت ولامست ظهرينا المغلفين جيدا بسترة البدلة الرياضية.. اتجهنا نحو الملعب القصي وكان الغروب قد شرع في الهبوط وحفّز الطيور على التحليق حول الملاعب شادية قبل أن تنزوي على أحد أعراف الأوكالبتوس وتنتظر استعادة الشمس لحرارتها.
وهكذا، قبضت على الكرة بيديّ بقوة، كما قبض عليها الطفل “عبد الله” بيديه الاثنتين فرحا.. كانت أكبر حجماً من كرتي كما جاء وصفها في قصة “الكرة”، كانت كرته واحدة كبيرة وملونة، في حين كانت كراتي خضراء، متماسكة، بحجم قبضة اليد. وقفت في منتصف الملعب، قذفت بها إلى الأعلى وهويت عليها بالمضرب، فطارت بسرعة وعبرت الشبكة بنجاح وهوت في المربع الآخر ليصفعها مضرب رفيقتي ويعيدها إليّ.. عدوت وقفزت وتلقفت الكرة وضربتها واستقبلتها وأعدت ضربها.. وما يزال الصمت يلف المكان عدا زقزقة العصافير اللامبالية للجالسين تحت الشجرة على الكراسي البلاستيكية البيضاء يراقبون…
حين جاءنا الأفريقي الحارس على الملاعب ساعيا بعد يومين يطلب عشرة دنانير قيمة إيجار الملعب، سألناه برفق إن كان هذا الرسم يسري على الجميع خاصة الجالسين على الكراسي البيضاء، وإن كان الأمر كذلك فإننا سندفع رسم سنة كاملة مقابل إيصال مختوم بذلك يسلمه إلينا، صمت الأفريقي وأطرق برأسه وكأنه يفكر مرتين ثم غادر دون رد ناحية الجالسين تحت الأوكالبتوس.
في ذلك اليوم احسست بشعور الإقصاء والاستصغار الذي شعر به عبد الله في قصة الكرة ((وتصل إلى أذن عبد الله كلمات عميقة حتى تصل إلى قلبه فتجرحه، فلابد أنهم يكرهونه.. ليس هم فقط، بل وأمهاتهم أيضا، النسوة اللاتي يأمرن صغارهن بعدم اللعب معه، وكأنه أجرب.. أو أي شيء آخر، وتصله الأصوات مرة أخرى…
(أنا قلت ما يلعبش معانا… كان يلعب أنا نبطل)
استمر ترددنا على الملعب بشكل يومي..نجلس على “التريبونا” الصلبة في هدوء وننتظر حتى ينتهي الجميع صغارا وكبارا من الذكور، أو بالأحرى حتى يتعبوا أو يملوا اللعب.. فيهجرون الملاعب منهكين وتهدأ الجلبة إلا من همسات تصلنا عن بعد مختلطة بضحكات مكتومة، حينها نتسلل نحو الملاعب وقد بدأت الشمس تغادرها بعيدا والسماء تسقط غبش مساءاتها.. راضيتان بفسحة الوقت المتبقية لنا…
ممكن تفتح الإنارة من فضلك.. ما عاش نشوفوا في الكورة.
قاومنا الأفريقي.. راوغنا.. كان مأمورا بنظرات تتبعه. لكنه ذات يوم حين استحكم الظلام، أشعل كل المصابيح الكشافة، أنار الملعب فأصبح نهارا.. لعبنا كثيرا في ذلك اليوم وما بعده.
وحين عدنا بعد انقطاع عن الملاعب.. هلل بعض الجالسين على الكراسي البيضاء بنا واستفسروا عن سبب غيابنا، وطلبوا من صبية يتسكعون في الملعب المنزوي أن يتركوه لنا.
“خلولهم الملعب… إنت وياه..“
هي الكرة.. بدورانها وسقوطها وارتفاعها واهتزازها وسكونها.. وصفعاتها وتنططها ونشوبها بالشبكة واختبائها وتفقدها وظهورها والتقاطها والاحتفاظ بها.. هي الكرة التي جعلتنا نقتسم الملاعب جميعها.. هي ذات الكرة التي رطبت قلوب اللاعبين في وسعاية بين “الجبابين” في حي الظهرة في الستينيات في قصة عبد الله، هي ذاتها الكرة التي تدحرجت فيما بيننا وتحت أنظار الجالسين على الكراسي البلاستيكية البيضاء تحت الشجرة يضرسون كلماتهم القاسية حتى ابتلعوها بفعل الكرة التي ضربناها بلا هوادة حتى استجابت فاستجابوا.
((في ذلك اليوم من أيام الربيع في الوسعاية، وقف الصغار جميعا يشاهدون عبد الله يلعب وحيدا بكرته الكبيرة. ولم يكن عبد الله يجد لذة في اللعب وحيدا.. ولم يجد الأطفال لذة في اللعب بالكرة الصغيرة.. فاقتربوا منه يقلبون الكرة الملونة.. ويشاهدونه وهو يلعب حتى تجرأ أحدهم…
– نلعبوا معاك يا عبد الله))