1
تَنْبُعُ أهميةُ الظواهر الثقافية في المجتمع مِن قُدرتها على توليد فلسفة أخلاقية تعمل على نقدِ السلوكيات الناتجة عن صناعة المُسلَّمات الافتراضية، وتجاوزِ الوَعْي الزائف القائم على ابتكار اليقين المَصْلَحِي، الذي يَنْتُج بِفِعْل سياسة الأمر الواقع بعيدًا عن قواعد المنهج العِلْمي. والإشكاليةُ في البناء الاجتماعي تتجلَّى في اعتبارِ تَرَاكُمِ الأفكار الزَّمَنِي مِعْيَارًا للحقيقة، واعتبارِ تكاثُر الأحداث التاريخي حُجَّةً قائمةً بذاتها.
في حِين أنَّ المعرفة القائمة على الأدلة المنطقية هي مِعيار الحقيقة، ولَيس الزَّمَن. وحُضُورُ الأخلاق في العلاقات الاجتماعية هي الحُجَّة القائمة بذاتها، ولَيس التاريخ. والزمنُ في تحوُّلاته التاريخية وانعكاساته الجُغرافية لا يَمنح شرعيةَ الوجود للإنسان، بَلْ إنَّ الإنسان يَمنح شرعيةَ الوجود لِنَفْسِه إذا امتلكَ عناصرَ الإبداع الفكري، وساهمَ في إنقاذ مُجتمعه مِن الضغوطات النفسيَّة والأزمات الحياتيَّة.
وإذا لَم يَكُن الإنسانُ مُنْقِذًا للمَعنى الوجودي مِن الأنظمة الاستهلاكية، فهو سِلْعَة استهلاكية فاقدةٌ للإنسانية، وعاجزةٌ عن الحُضُور الفَعَّال في الواقع المادي المَحسوس، وغَير قادرة على إيجاد رابطة عقلانية بين الذات والعَالَم. وإذا لَم يَكُن الإنسانُ حارسًا للمُجتمع والطبيعة، فهو عِبْء ثقيل على العلاقات الاجتماعية وعناصر الطبيعة. وهذا يُؤَدِّي إلى التَّشَظِّي في الهُوِيَّة الوجودية، والتَّمَزُّقِ في المَرجعية المعرفية.
2
مَعنى العلاقاتِ الاجتماعية لا يُولَد في الفراغ، ولا يتكوَّن في العَدَم، وإنَّما يُولَد في النظام الرمزي اللغوي، ويتكوَّن في المنظومة الأخلاقية المُؤسَّسة على الوَعْي الحقيقي، والمُؤسِّسة لأنساق المعرفة، باعتبارها عناصر فاعلة في المُجتمع، ولَيْسَتْ عناصرَ خاضعة للفِعْل.
والمعرفةُ إذا امتلكت الفاعليَّةَ في هُوِيَّة المجتمع، فإنَّ الأفكار ستنفتح على فهم جديد للطبيعة واللغة، ويَنشأ تاريخ جديد للإنسان بِوَصْفِه تجسيدًا للحُلْم والحضارة، ولَيس جسدًا خاضعًا لضياعِ الحُلْم وتمزُّقِ الحضارة. وبالتالي، يَستعيد مَعنى الوجودِ حَيَوِيَّتَه في مُواجهة عمليَّة الهُروب إلى الماضي، وتستعيد فلسفةُ التاريخِ مَركزيتها في الظواهر الثقافية، بِوَصْفِها مشاريع للخَلاص، وتحريرِ الأحلام مِن قَبْضَة التاريخ، وتَحويلها إلى رموز لُغوية، والعمل على تأويلها بما يَضمَن تحقيق المصلحة الفرديَّة والجماعيَّة، ضَمن زمن جديد يَفتح الذاكرةَ الإنسانية على آفاق جديدة.
3
البحثُ عن الحقيقة لَن يُصبح نشاطًا فلسفيًّا واقعيًّا، إلا إذا امتلكت الذاكرةُ الإنسانيةُ أدواتِ المنهج الاجتماعي وآلياتِ التأويل اللغوي. والوَعْيُ بالحقيقة لا يَكمُن فيها، وإنَّما في الطريق إليها، لأنَّ الوَعْي وسيلة لا غاية، كما أنَّ الطريق إلى البَيت لَيس هو البَيت. والوَعْيُ يَكشِف جَوْهَرَ الذات، وماهيَّةَ التاريخ، ولا يَخترعهما.
والوَعْيُ يَنقل النظامَ الرمزي اللغوي مِن بُنية السُّلطة إلى فضاء المَعنى، لكنَّ الوَعْي لا يَخترع المَعنى، لأنَّ مَعَاني الأشياء سابقة على الوَعْي بها. وعلى الرَّغْم مِن أنَّ الحقيقة تَمتلك هُوِيَّتَهَا الذاتية وسُلطتها التاريخية ومرجعيتها الأخلاقية، إلا أنَّها تظلُّ مُفتقرة إلى اللغة، لأنَّ اللغة هي الجِهَة التي تَمنح الشرعيةَ للحقيقة، ولا تستطيع الحقيقةُ أن تتكرَّس كنسق معرفي ونظام حياتي وظاهرة ثقافية إلا ضِمن فضاء اللغة. ولا يَخفَى أنَّ لغة الحقيقة تختلف عن حقيقة اللغة، وأيضًا، هناك فرق واضح بين تاريخ اللغة واللغة.
4
الظواهرُ الثقافية هي قواعد البناء الاجتماعي، وهذه القواعدُ لَيْسَتْ مُتعاليةً على الواقع، وإنَّما هي صِناعة لواقع جديد على تماس مُبَاشِر معَ فلسفةِ الذاتِ والموضوعِ (المنظومة الفكرية المُكوَّنة مِن الإنسان وعلاقاته الاجتماعية، والمُكوِّنة لِمُستويات الوَعْي التي تعمل على تشخيص الحاضر، ولَيس الهُروب إلى الماضي).
والبناءُ الاجتماعي المُتماسك لا يَعني تكوينَ رؤية واحدة ومُوحِّدة لعناصر المُجتمع، وإنَّما يَعْني فَتْحَ فضاء الفكر الإنساني على كُلِّ الاحتمالات والاجتهادات، وتوظيفها من أجل رؤية مُشكلات المُجتمع مِن كُلِّ الزوايا، وإيجاد حُلُول عمليَّة لها في ضَوْء التَّنَوُّع والتَّعَدُّد، ولَيس الفَوضى والتناحر. والحُلُولُ إذا تَعَدَّدَتْ تَكَرَّسَتْ. وهذا يَحْمِي المُجتمعَ مِن الانغلاقِ على ذاته، والتَّقَوْقُعِ على تاريخه.
والجديرُ بالذِّكْر أنَّ العلاقات الاجتماعية هي صناعة وابتكار، بِقَدْر ما هي تفكير وتأويل، وهذا يَعني أنَّ الفِكْر لا ينفصل عن امتداده في الذهن والواقع، وأنَّ المنهج الاجتماعي لا ينفصل عن المرجعية الفكرية. والتغييرُ الإيجابي لا يتكرَّس _ نظامًا ومنظومةً _ إلا إذا تَحَرَّرَ الفِكْرُ مِن قُيود الأحكام المُسْبَقَة، وتَمَّ فَهْمُ عناصر المُجتمع كما هي على الأرض، ولَيس كما يُراد لها أن تكون في الذهن.
شومُهمةُ الحقيقة تتجلَّى في نقل المَعنى اللغوي مِن الفِعل الإنساني إلى البناء الاجتماعي، ومُهمةُ البناء الاجتماعي تتجلَّى في نقل الظواهر الثقافية مِن تأصيل رُوح الإبداع إلى تأسيس تغيير الواقع.
2 تعليقات
كان الفلاسفة يفسرون الواقع ولكن فلاسفة الفكر العلمي الجدلي يفسرون الواقع ويغيرونه على أسس مادية ملموسة من صيرورة الواقع وحلقة الوصل بين النظرية والممارسة فكل الاحترام الى ابن وطني الغالي ابراهيم ابو عوّاد
نشكر مرورك الكريم