أحلام الكميشي
تجاورت البيوت المبنية من الحجر والطوب مع حياش الحفر التي توارثتها الأجيال عبر القرون في قرية صغيرة لا تختلف عن غيرها من قرى الجبل، وتتشابك أغصان الزيتون المثقلة بالحبات المباركة في كل موسم في سوانيها مقتسمة المساحة مع النخيل والتين والكروم في الجنانات المتناثرة تفصل بينها مسارب ترابية مهدتها أقدام العابرين والدواب حاملةً بصمات الزمن في ثناياها، وحفيف أوراق الأشجار كلما هب النسيم يتناغم مع خرير جداول الماء المنسابة بين الشراكات، تسقي مزروعات يجلس أصحابها القرفصاء ينزعون الحشائش الضارة في صمت ويفتحون أو يغلقون ممرات المياه حسب الحاجة، وفي الأفق، صوت الصبية يركضون بين الحقول خلف أغنامهم ذهابًا وعودة من المرعى، يختلط الثغاء مع خوار البقرات ونهيق الحمير ونباح الكلاب وزقزقة الطيور، وترتفع عاليًا أعمدة الدخان تنشر رائحة الخبز الشهي ممزوجًا برائحة الرتم والشيح والزعتر المحترق في كل تنور، كل ذلك وأكثر هو لوحة تشكيلية ناطقة اسمها قرية (زعفرانة).
وفي هذه القرية، حوش حفر مرعب ظل مهجورًا أكثر من عشر سنوات، يتحاشى الأهالي الاقتراب منه أو المرور بجواره فرادى خاصة خلال القيلولة ويتجنبونه كليًا بعد صلاة المغرب حتى يؤذن الفجر، وإن اضطروا أسرعوا الخطى دون أن يلتفتوا صوبه كي لا تصيبهم اللعنة، لم يكن بيتًا عاديًا، فقد عُرف بين الأهالي باسم (حوش الجنية).
يعود بناء حوش الجنية إلى الجد السادس للعائلة التي تناوبت أجيالها على السكن فيه، وفي منتصف الأربعينيات من القرن العشرين كان يضم ثلاث عائلات تعيش فيه وتتقاسم حجراته ومنافعه رغم شبح الجفاف وندرة الأمطار ما دفع بعض القرويين للهجرة، لكن عائلات “الفيتوري” و”إبراهيم” و”التايب” بدأوا في مغادرة الحوش واحدة تلو الأخرى بعد مقتل “الساكتة” زوجة “الفيتوري” على يد رفيقتها الجنية “مبروكة” في إحدى الليالي.
غادر الشقيقان “الفيتوري” و”إبراهيم” بعائلتيهما والمواشي إلى تونس حيث استقر بهم المقام في (تطاوين)، وطاب لهم العيش مع عائلة “بن يوسف” التي سبقتهم إلى هناك هربًا من الإيطاليين الذين أعدموا اثنين من رجالها وصادروا أملاكهما، تزوج “الفيتوري” من التونسية “قمرة” وساعدته في تربية أولاده وأنجبت منه “زينب”، وكبر الأيتام في الغربة، وتزوجت “آمنة” وكانت شديدة الشبه بأمها “الساكتة” من رجل ليبي تبعد قريته عن (زعفرانة) مسيرة يوم وليلة وعادت معه لاحقًا لقريته، أما شقيقها “ضو” فتزوج من “صليحة” ابنة أخ “قمرة”، وظل معها في تونس كما هو حال شقيقه “علي” وأختهما، وتوفي “الفيتوري” وشقيقه “إبراهيم” وزوجته هناك.
بعد منتصف الخمسينيات تقريبًا، عاد بعض المهاجرين لقراهم، فيما تابع آخرون طريقهم نحو طرابلس وضواحيها، وانضموا لعمال المزارع أو استأجر بعضهم كوخًا في (كامبو) يغادره كل صباح صوب (البورت) يكدح حتى المغيب ثم يعود أدراجه في بعض الليالي وحيدًا يترنح إذ يرفض جيرانه مرافقته في رحلة العودة عبر الطريق الذي تقع فيه خمارة “دبوش”.
قبل وفاة “إبراهيم” وزوجته تزوجت ابنته الوحيدة “سليمة” في تونس من شاب من قرية قريبة من (زعفرانة) يعمل حدادًا باليومية وليس له من متاع الدنيا شيء، لكنه كان زوجًا ليبيًا وعُملة نادرة في الغربة، وعند عودتهما للبلاد لم يقدر “بلقاسم بوصبع” أن يعود لقريته بسبب ثأر قديم لم تطفئ ناره بعد، فرافق “سليمة” للإقامة في حجرة والدها في (حوش الجنية) وليكن ما يكون، وبعد مدة عاد عمها “امحمد التايب” ليقيم مع زوجته في حجرة مجاورة، وحدها الحجرة المخيفة ظلت مغلقة لا يقترب منها أحد.
فما هي قصتها؟ وماذا حدث قبل سنوات؟