الذكرى الـ13 لرحيل الكاتب الليبي محمد أحمد الزوي
كان المطر يهطل غزيراً بالخارج …
وكنت أدلف إلى أروقة استوديوهات شركة كولومبيا بأثينا ..
نبهتني مرافقتي إلى ضرورة الهمس أثناء الحديث لأن ثيودوراكس يجري تجاربه في الاستوديو رقم (١) وقد يسجل اليوم.
ثيودوراكس .. يا له من حظ رائع يضعني أمام هذه المصادفات السعيدة ..
تركت كل شيء، ودلفت إلى حجرة المراقبة في الاستوديو رقم (١) بشركة كولومبيا بأثينا ..
وكان المطر يهطل غزيراً بالخارج ..
رأيته يدخل حجرة التسجيل يقف في مواجهة الفرقة الموسيقية ..
طويلاً كان ..
تحس أن قامته تصل إلى السحاب تماماً ..
الشعر الأبيض يزين فوديه
يداه طويلتان وأصابعه أطول ..
هذا هو ثيودوراكس الفنان اليوناني العظيم الذي كانت موسيقاه حرباً ضارية على الفاشية اليونانية …
التفت إلى مرافقتي الفتاة اليونانية الجميلة .. كانت بجانبي لكنها ليست معي .. تسبح مع ثيودوراكس صانع موسيقا الشعب وصائغ الروح الیونانیة .
وكان المطر يهطل غزيراً بالخارج ..
لقد فشلت الفاشية بكل ضراوتها ووحشيتها وأساليبها الجهنمية أمام ٹیو دور ا کس .
نجحت في شيء واحد ان تبعده عن الأرض اليونانية ..
لكن روح الشعب اليوناني كانت معه في المنفى .. كان الشعب معه في رحلة العذاب والغربة …
وكان هو يعرف دوره جيداً ..
لم يعد” مظاهرة …
لم يتقدم مسيرة …
لم يوزع منشوراً ..
لم يكتب مقالاً تحريضياً …
لم يفعل كل ذلك .. ولكنه أبدع موسيقا تصور روح الشعب اليوناني الذي يرفض بتكوينه وتاريخه العميق وحضارته الكبيرة أي شكل من أشكال الفاشية ..
وكانت موسيقاه تنتقل كالبرق لتتحول رصاصاً يستقر في القلب الفاشى المتغطرس ..
كانت موسيقاه تتردد في كل مكان من عالمنا .. تخترق الحدود والحصار والخوذات الحديدية والإجراءات الصارمة لتصل إلى القلب اليوناني ..
كان الطلبة يتحدون السلطة الفاشية .. ويعزفون موسيقاه في ساحات الجامعة .
وكانت شركات الاسطوانات تطبع موسيقاه سراً وتقدمها للشعب ..
كان ثيودورا كس في كل بيت وقلب يوناني ..
وكان المطر يهطل غزيراً بالخارج …
لم يهادن الفاشية على حساب معتقداته وشعبه ..
لم يسقط أمام الإغراءات التي يسيل لها اللعاب ..
ظل ثيودوراكس الفنان الذي تلتهب موسيقاه بروح الشعب الأصيل ..
الفنان الذي يؤمن بالديمقراطية والتقدم والسلام ..
الفنان الذي تخرج أنغامه من القلب مباشرة لتجمع حولها كل القلوب ..
ظل (زوربا) الانسان البسيط الذي يؤمن بأن الحياة ملك للبسطاء ..
ظل بطل (زد) اليساري الذي يدفع عمره ثمناً لمبادئه ودفاعاً عن حرية الشعب وحقه في الحياة ..
ظل ثيودوراكس صافياً ونقياً في المحنة والمنفى كما كان في الأيام العادية ..
وكان المطر يهطل غزيراً بالخارج ..
بدأت الفرقة الموسيقية في العزف .. وبدأ ثيودوراكس يقودها ..
شعره الأبيض يتماوج في حركة موسيقية بديعة ..
يداه ترتفعان ، تنخفضان .. تقتربان تبتعدان ، تتلاصقان ، ترتعشان ترتعدان ..
جسده يهتز بقوة ونشوة ..
لا تشعر أنه يقف على أرض حجرة التسجيل .. إنه يسبح في عالم لا نراه .. لكنه بالتأكيد عالم البسطاء والفقراء والمناضلين الذي يستلهم حياتهم ويصوغ منها موسيقاه الرائعة العظيمة المعبرة الأخاذة، النفاذة،
الساحرة ..
والعازفون لا ينظرون إلى النوتات الموسيقية أمامهم .. ولكنهم معه يسبحون في ذلك العالم الخصيب يكل ما هو جميل ورائع ونبيل وخلاق ..
وكان المطر يهطل غزيراً بالخارج ..
ثمة دمعة ترقرقت في عيني الصبية اليونانية مرافقتي .. ورأيتها تنحدر على خدها المشوب بحمرة جميلة .. تنحدر كرة فضية صافية ونقية ..
تمنيت أن أشرب تلك الدمعة المنحدرة على الحد المشوب بالحمرة الجميلة فهي دمعة صادقة من قلب لم تلوثه بشاعة الحياة بعد …
آه ما احوجني إلى لحظة صدق .. إلى دمعة صدق ..
ما زال ثيودوراكس يرحل داخل عوالم البسطاء والفقراء صناع الحياة .. وموسيقاه تأسرني وتأخذني إلى بعيد .. تنقلني إلى وطن الحب والعشق والعذاب …… تعيدني طفلاً يتقافز في الأزقة الضيقة المتربة ..
تربطني بالأرض وعطرها النفاذ الذي يملأ الرئة بالحيوية والشاب ..
تشدني إلى تلك العوالم السفلية حيث لا أقنعة ولا زيف ولا خداع …
آه يا وطن الحب والعشق والعذاب ..
لماذا تقذفني في المنافي البعيدة بحثاً عن الأصالة في كل شيء، والأصالة موجودة في أعماقك أنت ..
آه يا وطن الحب والعشق والعذاب .. ؟
لماذا ترحلين من أرض إلى أرض بحثاً عن الصدق .. والصدق في أرضك أنت ..
آه يا وطن الحب والعشق والعذاب ..
لماذا تجبر أبناءك على المنفى وهم يحملون حب الدنيا كلها من أجلك ؟
وكان المطر يهطل غزيراً بالخارج ..
انتهى تدفق الموسيقا ..
وتوقف جسد ثيودوراكس عن الحركة المنتشية .. ومسحت الصبية الاغريقية دمعها .. وتوقف سيل الخواطر الذي ينزف بداخلي ..
وخرجت مسرعاً ..
احتوتني شوارع أثينا الواسعة ..
وكان المطر يهطل غزيراً بالخارج ..
أثينا 1976م
محمد الزوي (هوامش على تذكرة سفر) الشركة العامة للنشر والتوزيع والإعلان، طرابلس، يوليو 1978م.