“الفرد الليبي يتناقض مع مجتمعه لأنّه ينطلق من فكرة مؤداها أنّه بالذات مركز العالم وأنّ الدنيا تدور حوله.. لكن مجتمعه يتناقض معه أيضاً لأنّه بدوره يعتبر نفسه مركز الأرض”
البحث عن أهداف:
في زمن خرافةٍ تقع بين الجد والتنكيت، خرافةُ الدولة ” الحديثة العصرية الدستورية “، فترة حقبة الاستقلال الليبية في ساعات اهتزازها، كتب المُفكر الليبي الصادق النيهوم، بأسلوب مباشر واضح وصريح ؛ وبصوت من الفكر المُتمرد المحفز و النير والمستفز والخارج على الأعراف مقالاً بعنوان:” البحث عن أهداف” لا تكاد كل كلمة فيه تخرج عن مخاطبة كل شرائح المجتمع الليبي بحثاً عن إجابة لتساؤلات كثيرة حيث كان يرسم، في ذهنه وفي مقاله، مشهداً جاداً ضاحكاً، لنبش طبيعة تركيبة المجتمع الليبي، في محاولة للتقدم خطوة في اتجاه إقامة نوع من التوازن بين ما نتخيله ويخالط الخرافة وبين ما نراه واقعاً ملموساً. من خلال طريقته المباشرة في عرض أفكاره تظهر كل فكرة وهي تحمل في ثناياها نقداً رائع المغزى دقيقاً واضحاً في كل عبارة. ومع جرأة النيهوم المعتادة وتسميته للأشياء بأسمائها جاء المقال برؤية مختلفة للمجتمع ولفهم ” الفرد الليبي ” وفي نسق جديد من النقد للقيم والواقع الليبي في تلك الحقبة. لا ريب، فمن ذلك المنطلق لا شك أن النيهوم يستطيع أن يحاورنا في مسائل وقضايا تهمنا الآن.
واقعٌ متآكل قديماً وعقوق الزمن الحاضر:
في هذا المقال تقف مع المعنى المتنوع والموقف النقدي من سلبيات المجتمع الليبي إذ يأتي عنوان المقال مصاغاً بهدف ثقافي شديد الصلة بقوانين المجتمع ومعرفةً بواقعٍ ليبيي مُتآكل آواخر الستينات من جهة، كما يميل من جهة أخرى ميلاً جلياً إلى اكتسائه بمضمونٍ عميقً المغزى اجتماعياً وثقافياً شاملاً يتصدى فيه النيهوم لقراءة الواقع الليبي حينها بالتعاطي الجدي و الإنتقاد الصريح المباشر في جُملٍ ذات سياقات متعددة بمزيج عجيب من رشاقة الأسلوب وحرارة النقد، حيث لم تكن تلك القرأءة حالة عابرة بل شكّلت انتقاداً قاسياً يستثير التبصربل ويثيرالقلق بأحكامه النقدية في تلك الحقبة وفي عقوق الزمن الحاضر، كتب ذلك وكأنه يدعو لتنبيه السامع بأنّه يحاورنا في مسائل تهمنا الآن وتشغلنا قد تدفعنا لمناقشة الذات الليبية بدخول نقدي متنور، دون تزييف للوعي أو خداع الذات، أكثر بلورة وصراحة، إلى معالم ذهنية المجتمع الليبي و ” الشخصية الليبية ” من حيث خصوصياتها ومدى تماهيها مع نرجسيتها الصادمة. فموقف النيهوم كان أساسه الإنحياز إلى المعرفة والتفكير النقدي وإلى حق الناس في التفكير. تمحورت أفكاره في المقال حول: الفرد بالمجتمع، معادلة المعرفة والجهل، سمات النقاش والعناد، التقاطع بي الحقية والخرافة، إضافة إلى طرح للأسئلة غير المألوفة.
بلدٌ غير متحضر:
لاحظ النيهوم وبثقة تامة منذ وقت مبكر تلك الهوة التي تفصل ليبيا عن دولٍ أخرى متطورة ولم ينزع في قدرته الدافعة للنقد ككاتبٍ ساخرٍ متمكن من أدواته المعرفية نحو أكثر مما يمليه عليه الواقع حينها وما رآه وعايشه في الشارع الليبي، ففي هذا الباب بعيداً عن الغموض كتب:
” أنا أعيش في بلد نامٍ. أعني في بلد غير متحضر.. أعرف أنّ تطورنا المادي لا يمكن مقارنته بتطور بلد آخر في أيّ قارة متحضرة وأننا نقف على بعد بضعة قرون من العصر الحالي.. أعني أننا نعيش في منتصف القرن الثامن عشر تقريباً “.
بأطراف الأصابع:
وبطول النظر في الأمور المتعلقة بالمجتمع والفرد يزيل النيهوم بوضوح غمامات الغبش والعناد عن عيون المجتمع انطلاقاً من فهمه الأعمق لتلك الحقبة التي كانت تسبح في نهرٍ كثير التماسيح، منطلقاً من أسس ملموسة لا خرافة فيها ولا غبش حيث يقول: ” هذه الحقائق الباردة أستطيع أن المسها بأطراف أصابعي في معظم نشاطاتنا الخاصة من ارتباك أنظمة المواصلات إلى تربية الأطفال” والتفصيل فيها قد يُمكننا أن نفهم بأنّنا كُنا نعيش ونقيم ” في بلدٍ غير متحضر ” في زمنٍ غابرٍ في قرنٍ مخيب للآمال يلقي بضلاله على هذه الأيام، فليس ذلك عجيباً تماماً، فالمعنى في ذلك كان مشغلة النيهوم وعلى المرء أن يلتفت إلى أحقية اختلافه مع من لا يتفق معه على كل حال. لقد لعب النيهوم على أوتار تلك الحقبة بأصالة حقيقية جادة وقاصدة حيث أبدع بقوة عجيبة ونبرة صدق علّه يسلم المجتمع من النّدامة وقد بدات تظهر عليه بوادر الخطر وعلى البلاد بشكل عام.
نهج أراء النيهوم:
نستبين في عبارة “بلد غير متحضر” محاربة للغفوة ودعوة للصحوة و تنبيهًاً للخطر الذي يتعرض له البلد حينها وهكذا كان في حملة التجديد تلك كثير من التمعن والتفحص و بسلطة كلمات النيهوم المهذبة الرصينة والتي لا نستطيع أن نفهمها بمعزل عن عبارات أخرى ستأتي لاحقاً واضحة تعكس فكرة التّأمل في الواقع المحسوس، ففي كلمات النيهوم حينها وفي سيرها الآني عبر العقود الماضية تكاد تذكرنا أنّ سلطة الخرافة في عبارة ” دولة حديثة عصرية دستورية” وسلطة الواقع في عبارة ” بلدٍ غير متحضرٍ ” تتشابكان على نحوٍ لا انكار فيه ولا شكّ ينبغي الاعتراف بها، حتى لا نضل عن تأويل واقع ليبيا آواخر الستينات وسط شواغلنا الحاضرة بمأمن من التبرير العقيم.
على وجه الضبط مع الذهنية الليبية:
والنيهوم بذكائه العالي الفذ كان يدرك بأنّ ما يقوله غير الذي أعتدنا على التفكير فيه واِلإطمئنان العمياني له إذ كنا حينها فرحين مبهورين مُستأنسين بما كانوا ساساتنا فرحين به، بل ولا نميل حتى مقدار شبرٍ للذي يقوله النيهوم أو ينبهنا عنه من أنّ البلد ” غير متحضر”، فكان يعرف أننا سنجيبه بفيضٍ من الغضب و من عدم الإغتباط بالذي يكتبه عنا، بل ونشمئز منه وننفر من معانيه وذلك شغفا مناً ومن باب الدفاع عن الذات الواهمة الحالمة – تكراراً ومراراُ – فنقول له: إذا أعجبك كلامك فلا تنسى بأنّ ليبيا كان لها ظروفها الخاصة ولا تُقارن بدول أخرى، دون أن نلتفت، كما أراد من المجتمع أن يفعل، إلى خطر ما كانت تجدف إليه ليبيا حينها، في مسارٍ متعثر، وإلى أين يمكن أن تجدف الآن في عزّ الفوضى، فيقول النيهوم ساخراً وبجسارة مفتوحة:” إذا قرّر المرء أن يجر أحد الليبين إلى نقاش هذه النقطة فسوف يدهشه أن يسمع اعترافه المسطح بأنه لا يستطيع أن يقارن ظروفه بظروف إي انسان يعيش في بلد متحضر.. سوف يدهشه أن يسمع أنّ الرجل الليبي يعرف مكانه على وجه الضبط”.
أحد الليبيين:
بقدرة اِبداعية ورؤية عميقة كان النيهوم يُدرك ويعرف أننا لا نريد أن نبذل جهداً يسيراً على الأقل حتى نستطيع أن نملك أدوات كافية لقهر كلماته وعباراته، ففي كلمة ” نقاش ” قوة كبيرة لفتح أبواب التفكير الناقد والولوج إلى الأفق الأوسع، فليس غريباً ما كان يريده النيهوم من ” أحد الليبين” أن يتأمل في الصورة التي رسمها دون يلتجئ هذا ” الأحد” إلى الدفاعات التبريرية الجاهزة العتيقة فاقدة الصلاحية والتي قد يميل المرء بأنْ يسميها دعاية تلائم أذهاننا المتشبثة بالحقائق المطلقة والزهو الخرافي. فما كان النيهوم سواء كائن إنساني شغوف بالتحرر مما يعيق المجتمع الليبي من التقدم والتطور.
على بعد بضعة قرون:
نقرأ في شؤون كلمات النيهوم بفضيلتها البارزة عن سمة الذهنية الليبية أيّ عن ” الاعتراف المسطح ” بأنّه لا وجه للمقارنة في الظروف التاريخية بين ليبيا وبين العيش في بلد متحضر بمقاييس ذلك البلد، ما يحمل تبريراً عند ” الرجل الليبي” ينمّ عن مغالة ذهنية متحذلقة مفادها المباشر:” أنّ الرجل الليبي يعرف مكانه على وجه الضبط”.، بينما لم يكن يدري مسارات الهلكة والتأخر الحضاري في معنى الكلمة وما تشير إليه ومعنى الإنكار فيها، ففي الجدل الكامن في كلمات النيهوم يأتي الخبر الصادم إذ يقول: ” اننا نقف على بعد بضعة قرون من العصر الحالي”. يصرح بذلك كالضوء الباهر الذي يومض على غرة بمأمن عن الوهم العقيم. كيف يمكن لبلدٍ بعد الإستقلال و بعد منتصف القرن العشرين كان في مقدوره أنْ يقف على بعد بضعة قرون من ذلك القرن؟ تصريحٌ فيه ضرورة الإنفتاح على العصر والولوج في عالم التحضر.
ماذا عن المستوى الخلقي؟
فكلما تفردت أفكار النيهوم أو تباينت أو ازدادت تعقيداً فإنّ لها سحر في نزع غبار الواقع عن بنية المجتمع الليبي. تأمل في أسئلة النيهوم التي لا تنتهي والتي لكثرة العناد عندنا لا تعيش في الذهن بحال. يقترن سؤال النيهوم بالتحدي فيسال مُستشرفاً آفاق التحول في المجتمع الليبي حتى لا يتحول إلى بركة آسنة: ” السؤال هنا.. هل نحن قادرون على تقبل تلك الحقيقة لو قال لنا أحد ما: إنّ مستوانا الخلقي أيضاً أقل تطوراً. “.. فالمرء لا يستطيع أن يساير منطق الاختلاف دائماً المجبول بالعناد، وسؤال النيهوم لا يخلو من الفطنة فلم يتردد فكر النيهوم في وضع الجميع في هذه الورطة التاريخية فالضمير المتكلم ” نحن” يعني أنّ النيهوم لا يستثني أحداً بما في ذلك أقرانه ومريديه ومن اتبعه منهم فضلاً عن أيّ صفوة تدعي احتكارها للعلم والمعرفة والفهم، فالكل اشباح وجود.. حكومات ومثقفين. فلا يكتفي النيهوم بذلك، ففي هذا السؤال استنفاراً للتمرد وللصحوة بعد الإغفاء. أنّ الضمير نحن لا يستقيم إلا في إطار من النقد رغم حركته الصعبة المتناقضة التي لا يمكن تجنبها ففيها نوعاً من مساءلة الضمير.
غرورنا.. والمعرفة الواعية:
يتابع النيهوم بخبرته الكامنة فيما يفكر فيه بالقول: ” سؤال يثير القلق.. فأنا أعرف بالتجربة أنّ نقاش النقاط الحساسة أمر لا يحبه كل الناس. خصوصاً إذا اعتمد النقاش على طرح الأسئلة المحرجة، ولكن الذي يهمني أكثر من سواه أن ذلك السؤال يستطيع أن يفتح امامنا – عبر غرورنا- طريقاً حقيقياً إلى مزيد من المعرفة الواعية.. مزيد من الإدراك لمكاننا في واقع العالم.. هنا.. على الأرض.. في هذا العصر وحده”.، فالموضوع الأساسي الذي يقع في دائرة اهتمام النيهوم هو الأرتقاء بمستوى وعي الناس والمجتمع بأسره عبر فتح المزيد ” من المعرفة الواعية”. القاعدة العامة يقول النيهوم:” أننا شعب شبه أمي ” ثم يتابع موضحاً ما يعني بذلك تجنباً لسوء الفهم: ” الأمية ليست هي العجز عن القراءة فحسب بل العجز عن إيجاد الأهداف ايضا “. رأيٌّ يعالج تحرير الوعي من العجز عن رؤية مكمن الداء.
ماذا يعني النيهوم بالاخلاق؟
يقول النيهوم: ” هل نحن – خُلقيا- أقل تطوراً كما أننا – ماديا- أقل تطوراً؟ ” ثمّ يضيف في تسلسل سهل بسيط مُجيباً عن سؤاله نيابة عنا: ” والاجابة تتطلب أولاً ما أعنيه بالأخلاق. انا لا أزعم هنا أنكم قطيع من اللصوص والقتلة والكذابين اللا أخلاقيين، فالواقع أنه ليس ثمة شعب في العالم يستطيع أن يكون كذلك.. ” يكسر النيهوم الفنطازية وأيّة مزاعم تتنافى مع محصلة التأمل العقلي فيعلن بحزم: ” ولكن الذي أعنيه: هل يعيش شعب ليبيا الآن (1968) انحرافاً ثقافياً في تفهم ظروفه العامة؟ هل يتصرف الفرد في ليبيا طبقاً لمقتضيات ضميره؟ وما مدى نصيب ذلك الضمير من الحياة؟ “.. لنتأمل إن كان الشعب الليبي يعيش ” انحرافاً ثقافياً في تفهم الظروف العامة ” ومازال يعيشه؟ ثقافة من؟ هكذا تتجسد لنا نبرة السؤال الجاد بهذه الثقة العالية فما مدى نصيب ضمير الفرد الليبي من الحياة؟ سؤال سابقٌ للزمان يشغله الهم السياسي والاجتماعي والثقافي. سؤالٌ معبرٌ ودالٌّ عن الواقع الإجتماعي والنفسي للفرد الليبي و”الشخصية ألليبية” في زمن حقبة الإستقلال التي لم تتمكن من الحفاظ على سلطانها، وفي زمننا هذا بشكل عام ومن بعض الوجوه.
احتمال الصراع القادم:
سرعان ما تجد انتقاده للمجتمع الليبي لا يعدو أن يكون أصداء لذهنية المجتمع ذاته فينبه إلى أنّ: ” ميزة النمو الحضاري أنّه يبدأ على الدوام وسط معركة محددة بين ما يحدث في الواقع وبين ما يجب أن يحدث.. ” فثمة صراع قادم وليس تحول على السطح كما كان دأب حقبة الإستقلال حيث تبدأ لدى النيهوم مسألة التدليل عن معنى الأخلاق في هذا السياق حيث يعلن: ” هنا تبدأ منطقة الأخلاق.. الشجاعة لمواجهة الواقع، الأمانة في إدراكه.. الصدق في تقدير امكانيات الفرد.. والصبر على احتمال الصراع القادم عبر كل لحظة قادمة “. يؤكد النيهوم على أنّ الشعب الليبي يملك ” نصيبه من الفضائل، ولكن المرء لا يستطيع أن يزعم أنّ ذلك النصيب قد نما أكثر من بقية الوحدات الثقافية والحضارية الأخر، إنّ مستوانا الخلقي مثل بقية مستوياتنا ما يزال مُتأخراً رغم كل النوايا الطيبة”. الحياة شاقة ولا تخلو من العوائق والواقع بَيّْن يتطلب الشجاعة لمواجهته و ” الأمانة في إدراكه ” يعني أنّ المجتمع أمام مفترق طرق اجتماعية وسياسية وثقافية ومعرفية على نحو يوجب الشجاعة لمراجعة لكل ما في حوزتنا للمشاركة في تجديد مصير البلد.
بناءً على السابق.. ماذا عن أمر العلاج؟:
يقول النيهوم في آخر المقال: ” بقي بعد ذلك أمر العلاج.. وأنا أتمنى أن أضع هذه المهمة ايضاً على عنق الدولة أو البلدية الموقرة… ولكن الواقع يفرض نفسه بطريقة أخرى فالشعوب لا يتم اصلاحها في الورشة المجاورة.. ولا يتم إصلاحها بقصائد الهجاء في الجريدة الرسمية”، يتابع بالقول في مراجعة أسس ثقافتنا إنّ: ” الإصلاح – على اساس علمي – لابد أن يبدأ بالدراسة. بتحديد الأهداف المطروحة الآن (1968) أمام شعب ليبيا، وتقدير أبعادها بطريقة موضوعية مقسمة بالحياد.. فالواقع أنّ أخلاق مواطنينا ترتبط ارتباطاً كاملاً بنوع تلك الاهداف.. وقد نقرر حتى الآن (1968) أنّ ليبيا تريد أن تحقق (أيّ لم تحقق بعد) مستوى حياة أفضل.. وفسّر المواطنون ذلك بأنه مستوى حياة مادي أفضل.. وبنوا فوقه معظم مقوماتهم الأخلاقية “
ويسأل النيهوم.. فهل هذا هو هدفنا؟:
“هل هدفنا أن نحقق مستوى حياة مادي أفضل بغض النظر عن بقية المستويات؟ وما أثمن المعايير والوسائل في طلب التقدم والتحضر ” ولمواجهة ” أيّ تحديات متنوعة مفروضة يقول: ” نحن شعب نصف جائع.. أجل.. أنا أعرف هذه الحقيقة، ولكني اعتقدت أنّ الخبز وحده لا يكفي… فإذا كان الأمر كذلك.. فأعطوا ليبيا أهدافاً أخرى، أعطوها فرصة لكي تجد نفسها قبل أن تتوه في أكوام الخبز”.. أو ما هو أسوأ من ذلك. من الجلي أن النيهوم يشير إلى أنّ الأفعال وبالذات في أمر السياسة وإدارة البلاد تقاس بنتائجها و بالأهداف التي تسهم في تحقيقها. النتيجة مصب العمل وغايته ومنتهاه على ضوء المعرفة والتدبير العقلاني.
زمن النيهوم وزماننا:
زمن النيهوم كان زمناً مختلفاً، زمان الأمية بمختلف أنماطها، وزمن التخبط السياسي والإداري، فكان عليه أن يقوم بدَوْر خلخلة الذهن الاجتماعي الليبي بل والسياسي، وكان يرى أنّ ليبيا تسبح في وادٍ من الاستهتار السياسي، فكان النيهوم في قلقٍ على البلد، فلم يكن أمامه إلا أن يتخذ موقف المتحدي للجميع. وتزامن زمنه مع هبوط عام للحياة السياسية ولدور الساسة والحكومات التقليدية وما ظهر في البلاد من فساد مالي وتخيط وذهول وضبابية وعواصف تترامى على البلاد من كلّ حدب وصوب. وظل في ذلك الزمن يبحث بعقلية مستنيرة، في مختلف الموضوعات، ولم يقتصر على الإعلان عن موقفه النقدي العصري، بل كان ساعياً إلى زحزحة طرق التفكير عند الناس، ينتقد، ويستفز، كان مستقلاُ فكرياً ومعرفياً فلم يقع فريسة الإغواء الأيديولوجي المنتشر حينها، كان يكتب ناقداً ليحمي المجتمع من الركود والتيه في عالم الخرافات، وحاول مراراً جذب إنتباه واهتمام السلطات التشريعية والتنفيذية وصفوة المثقفين إلى أهمية الرقي بالبنية الإجتماعية من أجل البحث عن أسباب التطور والازدهار ولكن: ” لا حياة لمن تنادي”.
بعد ما يقرب من سنتين:
بعد فترة وجيزة يعود النيهوم بمقالّ نُشر في 4 مارس 1971م بعنوان: ” وجهة نظر.. في مشكلة ملحة ” يتناول فيه مشكلة أُفهوم ” الجهل ” على نحو لم يجاريه فيه أحد حتى من كُتاب ومثقفي البلدان الأخرى، مقالٌ يصلح لكل الأزمان وأزعم أنّه كأنما يتكلم عن الواقع الليبي الراهن تحت وطأة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي. والمقال صُمم على نحو عبقري في خمسة أجزاء.
وعبر نهج ذلك المقال نقرأ بعض الفقرات:
“إننا نعيش هنا فوق الأرض، ونستمد منها قوة أطفالنا ونستمد منها أيضاً مقاييسنا للجهل والمعرفة على حد سواء، الحياة وحدها هي مقاسنا الصحيح، فإذا كان بوسعك أن تفيدها وتجعلها أكثر بهجة فأنت تعرف، وإذا لم يكن بوسعك أنْ تفعل من أجلنا شيئاً سوى أن تزيد متاعبنا وتشوه طموحنا فأنت تجهل ذلك سواء كنت تحسن القراءة أو لاتحسنها”
“إننا لا نجمع الأشياء لكي نكومها عبثاً في كوم واحد بل لكي نؤدي بها غرضاً حياتياً خاصاً”
“السفينة قد تطفو فوق الماء بمجب قانون طبيعي لكنها تبحر في اتجاه الشرق أو الغرب بموجب إرادة البحارة” و: ” السفينة لن تبحر في الإتجاه الأقرب إلى الهدف بل ستبحرفي الإتجاه الذي يعتقد البحارة أنه أقرب إلى الهدف “
“وإذا كان البحارة لا يعرفون خطة السير بالضبط فإنهم عادة يخسرون كثيراً من وقتهم في الدوران “
“قدرة السفينة على مواجهة متاعب الرحلة لا تتوقف فقط على متانة بنائها بل ايضاً على نوع الحلول التي يختارها البحارة”… ” إن مجموعة من الرجال عديمي المعرفة بسلوك البحر يستطيعون أن يتسببوا في إغراق مركبهم أكثر مما يتسبب في إغراقه طوربيد”
“إن المركب لا تغرق لأنّ بحاراً واحداً يرغب في إغراقها بل لأن بقية البحارة مستعدون لقبول فكرته الخاطئة بإعتبارها غاية الصواب”
“إنّ ليبيا لا تعاني من مشكلة الجهل لأنّ معظم مواطنينا لا يعرفون القراءة بل لأن معظم مواطنينا – سواء يعرفون القراءة أو لا يعرفونها- يمتلكون أكثر مما يجب من الأفكار الخاطئة.. إننا نعيش موقفاً فكرياً مليئاً بالتاقض والفجوات”
“الفرد الليبي يتناقض مع مجتمعه لأنّه ينطلق من من فكرة مؤداها أنّه بالذات مركز العالم وأنّ الدنيا تدور حوله.. لكن مجتمعه يتناقض معه أيضاً لأنّه بدوره يعتبر نفسه مركز الأرض”