المقالة

شيش باني يا باني

الشيشباني (الصورة عن الشبكة)

1

عند العشاء نجتمع على وليمة طعامها رأس الخروف وأمعائه المجففة المحشوة بقطع صغيرة من الكبد والرئة والكلىَ وبعضا من الأرز وأعشاب، نسميها حشائش أي بقدونس، وشبت، وكرافس وحبق، وكسبر، تقدم في صحن كبير يزاحمه الكسكسي كوجبة لا مناص منها عند المناسبات الدينية، إضافة إلى ذلك طبق من الفاكهة، وقنينة من الشراب الغازي، ولابد أن خاتمة الوليمة السنوية هذه، من كاس شاي أحمر تغطيه رغوته البيضاء كتاج للكوب الصغير.

هكذا توارثنا الاحتفال برأس عامانا الهجري كمسلمين، وليس كما يحتفل النصارى بعيد رأس السنة وهي ذكرى ميلاد النبي عيسى ابن مريم عليهما السلام.

قبل عشرين عاما في مدينة البندقية عندما كان شعر رأسي طويلا عسلي اللون، والقميص مشجراً، صادف وجودي لمهمة عمل حضور عيد ولأنني اعتقدتُ كمسلم أنني أولى بعيسى من النصارى فقد قررت الاحتفال مع أهالي وسكان فينيسيا الإيطالية فلم أهتم بليلة الخامس والعشرين لانشغالي بالمهمة حيث النصارى في كل بقاع العالم يحتفلون بها يتلون صلواتهم، واكتفيتُ بليلة رأس السنة، أوزع باللغة الانجليزية، هابي نيو يير على الجميع.

لا أعلم كيف يحتفل النصارى بليلة رأس السنة في بيوتهم غير أنني مع الجميع تقريبا حجزتً طاولة بمقعدين في فندق سبعة نجوم، مقعدا لي وثانٍ لامرأة مفترضة على طريق عابر، أفلحتُ في حصاد بهجة على ضوء الشموع، وصوت الموسيقى والرقص وكذلك أناقة الرواد وإشاعة روائح عطورهم في أجواء الصالة، حتى مطلع شمس العام الجديد.

الاحتفال برأس السنة الهجرية يكون في المساجد حيث يكثر الكلام عن هجرة الرسول الكريم وإعادة تفاصيلها وأخذ العظة والعبرة منها، مع الإنشاد بمدح الرسول الكريم وبعض التلاوة لسور القرآن الكريم.

لأمر ما أو لظروف أجهلها، ما من مرة أذكر فيها أننا احتفلنا بعيد رأس السنة، ولا أعياد الميلاد إلا في الآونة الأخيرة، حيث تقام أعياد الميلاد في المنازل وبحضور قليل، وأوعز السبب إلى تقليد الشعوب الأخرى بعد ثورة الاتصالات، فحتى عيد رأس السنة الميلادية نجد من يحتفل به خاصة الشباب حيث يتبادلون التهاني

(هابي نيو يير).

كغيرنا لنا احتفالات دينية، ولعل أهمها المولد أي ذكرى ميلاد الرسول محمد (صلعم) حيث نبدأ فطورنا بالعصيدة، إما بزيت الزيتون وخلاصة ثمار النخيل (الرُب) وإما بالعسل وسمن الغنم خاصة، حتى يأتي المساء ونشعل القناديل ونغني أهزوجة الميلاد:

(هذا قنديل وقنديل، يشعل من المغرب لليل 

 هذا قنديلك يا حواء يشعل من المغرب لتوا

هذا قنديل وقنديل فاطمة جابت خليل

وبعد تطوافنا في الشارع الكبير والأزقة الضيق، نضع القناديل على أغلب الأضرحة وهي كثيرة جداً لدينا.

 عيد الفطر أكثر بهجة لنا حيث نرتدي الملابس الجديدة وخلال التزاور نحصل على بعض القطع المعدنية نوفرها نضعها في المحصلة الفخارية، وعيد الأضحى نفرح بشواء اللحم، أما ليلة نصف شعبان فقد ارتبط بالصوم الكبار كسنة محمدية ولا نختلف عن سائر المسلمين في كل البقاع إلا ببعض الفروقات 

وعيت، ذلك منذ الصغر إلا احتفالنا باليوم العاشر من شهر العام الجديد وهو يوم عاشوراْ.

عاشوراء هذه لها أكثر من ذكرى ومناسبة حسب ما أخبرتنا بها الكتب القديمة، لكنها مرتبطة عند شيعة المسلمين بيوم كربلاء حسب اعتقاد الكثير منا، حيث قُتل الحسين ابن الحيدر الخليفة الرابع على ابن أبي طالب وابن فاطمة الزهراء ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أهم مظهر لهذا الاحتفال، وملمحا له لدينا هو شيشباني.

نتجمع نحن الصبية ونُلبسُ أحدنا لباساُ من ليف النخيل نزينه ببعض أزهار الشجر ويصير مظهره كمهرج بشكل مخيف بما يقارب شكل الشيطان تقريبا حسبما صورته الأمهات لنا، نسلك كلنا أزقة الحي يسوقنا أمامنا أحدنا، والشيشباني يتوسطنا، ونحن نردد

(شيش باني ياباني، هذا حال الشيباني

هذا حاله وأحواله، ربي يقوي مزاله

شيش باني بالليفة، هذا حوشك يا خليفة.

شيش باني فوق حصان سقد يا مولى الدكان

شيش باني فوق جمل سقد يا مولى المحل

شيش باني بالفول أمه جابته بهلول

شيش باني بالقرعة أمه جابت ما ترعى

شيش باني بالتمرة حلي حوشك يا تبرة

شيش باني بولحية حلي حوشك يابية

شيش باني بالخوصة حلي حوشك يا عروسة

شيش باني بالمشاي حلي حوشك ياحناي

واللي ما تعطيش الفول راجلها يولي مهبول

2

الوالدة أطال الله عمرها كانت تحرص على ملئ بطوننا بطعام وجبة العشاء، مؤكدة أن الملاك السماوي يهبط علينا ونحن نيام، ومن يجد معدته فارغة سيظل طوال العام جائعاً لا يستسيغ طعاماً، أما من ملأ معدته حتى التخمة فلن يقربه الجوع أبد ولن يشعر به طيلة العام.

لهذا دون أخوتي التهم كل ما تقدمه الوالدة من طعام، حتى أثقل بطني، أتثاقل إلى الفراش وأنام مفسحا المجال الأحلام والكوابيس أيضاً.

جمهرة كبيرة من الصبيان نجوب الحي وشيشباني يقفز في الهواء، ونحن بين مصفق، وضارب للدف نصدر جملة نغمية متجانسة مع أهزوجتنا، نقف عند عتبة هذا البيت لننصرف إلى غيره.

بيت الحاجة منوبة كان أول محطة لنا، خرجت على أصواتنا متبسمة لنا راقصة تناول أحدنا كيس فول، وأرغفة خبز وقنينة زيت صغيرة.

منوبة هي الأفقر بين سكان حينا البسيط ولابد أن ما مدته لنا هو كل ما لديها من طعام غير أنها امرأة كريمة تجود بما يجود به عليها بعض أهل الحي ولا تريد من الدنيا سوا حسن الخاتمة.

منها تحولنا إلى بيت آخر، وآخر دون هدف لنا غير البهجة، ولا ندرك معنى هذه الذكرى فكل ما يهمنا هو المتعة وجمع العطايا الفقيرة من حبوب وبقول وقنائن زيت صغيرة نبادلها بورقات نقدية لشخص يجول الأزقة على حمار صغير علمتً عند شبابي أن يهودي يبيعها بس أعلى ويضعها في صندوق دعم المشروع الصهيوني، كما أدركتً معني، الكدس، وهو بيت المقدس الذي يخصص له الثلث ممن يجمعه من مال حيث يكون الثلث الثاني لمعيشته والثلث الأخير لادخاره.

عند الليل تمعنتُ في (الشيش باني) فلم أفلح، حتى استغرقني النوم وهاجمتني الكوابيس.

3

يحسب البعض أن الشيش باني كان قديما يقصد به تصوير الحالة التي كان عليها الأسرى الإيطاليين الذين أُسروا من قبل البحارة الطرابلسيون أبان العهد العثماني والقرهمانلي من 1510 إلى 1911 , حيث كان يسمح لهؤلاء الأسرى بتقبل الصدقات من المسلمين سكان المدينة مما جعل الأسرى يرقصون

ويمرحون، فرحين بما حظوا من رحمة وعطف، وهم في حالة يرثى لها، حفاة، عراة، ملابسهم ممزقة، ذقونهم مرسلة، وأظافرهم طويلة مهملة، فكان ذلك عاملا رئيسيا لأن يقوم الأطفال بتقليد الأسرى في طريقة رقصاتهم ومحاكاتهم.

(اتشيشي .. باني) وهما كلمتان ايطاليتان.. الأولى (اتشيشي) ومعناها (الحمص) والثانية (باني) ومعناها الخبز حيث مزجت في بعضها فأصبحت تنطق ب(شيش باني أي خبز بالحمص.

 أما شَيْصَبَاني عند الشيعة هو تجسيد للشيطان من نسل إبليس وليس صفة تشبيه لذكر النمل كما يزعم البعض وسوف يظهر آخر الزمان على شكل حِسّي متمثل في صورة بشر. يظهر فجأة كقائد عسكري في الكوفة بالعراق فيقتل أئمة المسلمين والمؤمنين وفعالياتهم، يفسد الأرض والزرع ثم يخرج له السفياني من الشام ليقتله باعتباره منافساً وليس خصماً له.

الآن بعد عقود عدة وأنا أتذكر يوم عاشوراء وأكوام الفول عند الأسواق وعلى طرفي الشوارع حيث نبتاعها من بائعيها لتكون حاضرة عن وجبة العشاء كصحن ملازم لصحن الطعام وكذلك خروجنا في جماعات طفولية والشيش باني يتوسطنا بشكله الغريب الذي يشبه الشيطان كما صوروه لنا أرباب أسرنا ، أتذكر تلك الطيبة التي فطروا عليها أهالينا وكأن المدينة كلها ليست إلا أسرة واحدة يعيش أفرادها في كل الديار ، وأتذكر تلك البساطة التي في العيش ، والأحلام الصغيرة المسنودة بسماحة في التعامل والرغبة في الحياة، والحيوية الجمعوية التي جعلت من البهجة سمة للجميع ، أذكر حالنا اليوم .

اليوم لم نعد كما كنا عليه.

صار شيش باني يتلبس أغلبنا، وكأننا كل يوم في كربلاء إذا كان الأمر يتعلق بالشيعة، وأننا نحاكي الأسرى الإيطاليين إذا كان الأمر يتعلق بمحاكاة الآخر.

لصديقي قلتُ له أننا نعيش الحزن على ما فقدنا، ونعيش الأسر معا.

أنا كذلك صرت أسيرا لمتطلبات شركة الزواج، ولكي أثبتُ أنني في غاية النجاح لابد لي من توفير الحاجات الأساسية للأسرة ومن أجل ذلك ليس لي إل أن أكون عبداً وان أجيب بنعم فقط لأن لا تصد أبواب سد الحاجات والكماليات، وأن أذعن في أسري جيداً كي أعيش.

لهذا منذ ذلك شيش باني وأنا أرقص مع الراقصين أصرخ:

شيش باني يا باني …..

أنتقل مع من معي من بيت إلى آخر لأحصل على بعضاً من الفول أبادله بعد جمعه آخر الليل بقطع معدنية أنفقها على عيالي وأنا أصرخ في نفسي:

شيش باني يا باني يا أمي، هذا حالي يا ربي

شيش باني أبصر كيف، يا خوفي من حد السيف

شيش باني يا فالح خير مزالي طايح

شيش باني يا باني ولدي يولد شيباني

4

أفاقت زوجتي على صراخي وأنا أردد أهزوجة شيش بابني يا باني وأيقظتني بهزها لجسدي الذي أثقلت بطنه العشاء العاشوري الدسم، وتجمع أطفالي حولي وأنا أفيق، ووالدتهم تصرفهم عني ليكملوا نومهم معلنة لهم أنني كنت احلم فقط، ولم أبح لها أنني كنتُ أعيش كابوساً يهاجمني منذ تعرفتُ إلى شيش باني ولعبتُ لعبته الخبيثة، ولكي أصرفها عن حالتي هذه رددتُ لها.

شيش باني يا باني ….

فسألتني بخبث الأنثى:

*ماذا تعني.

فأجبتُ بكل ثقة:

• هيا نلعب لعبة شيش باني على نحو آخر وتخصنا فقط.

لم تجب وأطفأت ضوء الغرفة لنغرق في الظلام والصمت معاً إلا من أزيز السرير.

مقالات ذات علاقة

أخف الضررين

عائشة الأصفر

القَارة الافريقية مَنسوبَة لأفريقش

المشرف العام

بوصلة الصراع العالمي

علي بوخريص

اترك تعليق