ساجدة أنعم
في حين أنهما جالسان على طاولة العشاء المنيرة بالشموع، وتتوسطها وردة فواحة مغمورة في قدر مليء بالماء، ومن المذياع تصدح نغمات أم كلثوم العظيمة فتطربهما بكل نشوة.
قال لها بفؤاد طروب:
“كالأيام الخوالي!”
فأجابته بابتسامة محبة كعادتها حينما تكون متفقة معه، وتنأى خيالها بعيدا جدا، لما قبل الخمسين عاما، لأول لقاء بينهما، عندما كانت في زيارة لخالتها في بلدة بعيدة عن بلدتها ورأته هناك وهو لا يزال يافعا وصبيا جالس يتبادل أطراف الأحاديث مع ابن خالتها، نظرا لبعضهما نظرة طويلة وعميقة وكأنها استمرت لسنوات عديدة وما فرق عينهما إلا صوت والدتها وهي تنادي باسمها، فخرجت راكضة من دون أن تلقي التحية حتى.
قالت له:
“أتذكر أول قبلة لنا؟”
رد عليها بابتسامة عريضة قائلا:
“وهل باستطاعة ذاكرتي نسيان تورد خديك من الحياء حينها؟”
قالت له بلوم وعتاب:
“لربما تكون قد نسيت كما نسيت أنني أكره أن تسبقني بخطوتين أو ثلاث وأكون أنا وراءك عندما نمشي.”
رد عليها ممازحا:
“ماذا أفعل يا عزيزتي، فأنت بطيئة كالحزونة وأنا لازلت شابا أمشي بسرعة الحصان.”
ضحكت هي بشدة وأردفت قائلة:
“حصان يشتكي ليلا بسبب آلام الظهر المبرحة وتورم الرجلين.”
قال لها:
“ولكن مازال قلب الحصان يخفق بالصبابة فرحا في كل مرة تبتسمين فيها.”
أنزلت عيناها خجلا وتوردا خداها المنكمشين من أثر التجاعيد حياء وكأنها صبية في الثامنة عشر من عمرها، تغزل بها أحد أولاد الجيران وهي تعبر الطريق.
وهو نظر لتلك الربكة بكل حب، فهو مازال يحب خجلها المفرط حتى بعد هذا العمر الداني من الشيخوخة، فكان لا يزال قلبه يزخر بالهيام اتجاهها.
أخذ بضع دقائق وهو يفكر، كيف استطاعت أن تأسر قلبه بهذا الشكل؟ كيف استطاعت أن تكبل عيناه بنظراتها الوشيجة عن كل نساء العالم، ما كان يظن يوما أنه سيمتنع عن اطالة النظر في الجميلات وعن التغزل في النساء،
ولكن هو متيقن أن كل أشعار الغزل المدججة بكل كلمات الحب الموقدة، لها هي فقط فأمامها كل النساء هوان وكل الأمور سيان، فهي الوحيدة التي تقبلته بكل عيوبه وبكل عاداته السيئة، فصبرت عليها بكل امتهان،
كانت تؤمن دوما أنه هو بيتها ومأمنها، فكل بيوت الأرض سدا أمام احتواء حضنه الدافئ
ترى فيه كل معالم الدنيا وطبيعتها، كل جمالها الساحر وإبداعها، كانت تؤمن بضحكته وتقدس نظرات عيناه.
كان يعرف أنها تمقت ان ينفض سجائره على الأرض، وأن يترك ملابسه ملقاة وسط الغرفة، وبالطبع تكره من ينير الأضواء وهي نائمة، وهو كان يفعل كل ذلك ليغيظها، وفي كل مرة كانت على مضض تصدمه بكتمها وتحملها، وهو متيقن أنها تفعل ذلك لأنها تحبه ولا تحب ساعات العراك بينهما مهما كانت قصيرة،
ولكن هو يعرف أيضا أنها عندما يحين موعد التراضي بينهما فلن تكون بمزاج جيد يكفي لتنير روحه بابتسامتها، فيرجوها قائلا:
“عزيزتي أرجوك لا تكوني شحيحة الابتسام!”
واجها العديد من الصعاب والمحن، والمآسي والألآم، فكم مر من زوابع وعواصف، ولكنها لم تستطع أن تقتلع جذور رباط حبهما الوثيق ولا أن تهز أوراقهم المتغلغلة باللواعج والأشجان.
ولكن تلك العلاقة الطويلة لم تكن باليسيرة، فهي لازالت مستمرة بفضل التضحيات التي يقدمانها، والتسامح والغفران أيضا فهما جزء لا يتجزأ من استمرارية أي علاقة.
وعندما انتهيا من تناول العشاء، قررا الخروج للحديقة القريبة من المنزل، تلك الحديقة التي كانت بيتا للمواعيد الغرامية في كل مرة يقرران الخروج
في ذلك الوقت كانت الحديقة فارغة من الناس، ويكسو الأرض لون العشب الأخضر، وعلى طرفي الطريق يوجد شجيرات مقلمة متفاوتة الطول تترصع فوق وريقاتها بعض قطرات الندى والتي كانت تعكس إنارة الكبس الصغير بجانب كل شجرة،
أخذا يتمشيان شابكاي الأيدي، متكئان على بعض، لا يسمعان سوى صوت أنفاسهما ونسمات الهواء اللطيفة، ينظران لما حولهما، وسيل الذكريات يتدافع بين أعينهما.
قالت له وهي تشير على كرسي شبه مخفي ويتوسط شجرتين كبيرتين:
“أتذكر ما حدث هناك حينها؟”
رد عليها والبسمة تعلو شفتيه:
“بالطبع، وهل هذا الحدث ينسى؟ فقبل ثلاثة وخمسون عاما وتحديدا في ليلة الرابع عشرة من شهر يوليو، سكبنا ما في أضلعنا، واعترفنا بحبنا!”
نظرت له وعيناها تشعان حب وأردفت:
“نعم، سكبنا ما في أضلعنا.”
“تمت”