حسن بوازكارن | المغرب
ركل باب القاعة ودلف كالبهيمة، فقمنا لاستقباله خوفًا لا احتراما، الرعب يدبٌ في أوصالنا، والأبدان ترتعد رعبا وترتعش بردا. صمت مطبق ساد في القاعة. بملابس رثة وعينين معلقتين بمحياه العابس المدور كوجه البومة وبعينيه المخيفتين كعيني الحدأة حادة ومرعبة، رمقنا ليرى من لم يقم له تبجيلا.
كتب عنوان الحصة وتاريخ اليوم، وتهالك بعض الوقت على مقعده دون أن ينبس ببنت شفة، قام يدور بين طوابير الطاولات بخطا حثيثة وصامتة وبضربة فولاذية قوية على قفاي أمرني بالتقدم للسبورة لأمتَحن وقال وهو واقف منتصب أمامي كجندي في الخدمة:
“اكتب…”
قال كلاما كثيرا وكبيرا وغامضا تم أمرني بكتابة شيء لا أعرفه وتحث تأثير الخوف كتبت ما لا أعرفه وما لا يعرفه أحد، فشعرت بدويّ صفعة قوية من يده المسطحة انتهى أزيزها في دواخلي، أسقطتني مخمورا بألم فظيع، فدبّت في عروقي رعشة لا أعرف بدايتها ولا منتهاها، امتزج دمعي الصامت البارد بمخاطي المتدلي وجاهدت للوقوف فلم أستطع، لكن قوة خرافية سحبتني واقفا لم تكن إلا يده التي يبطش بها (أجسادنا الصغيرة)، فوجدت نفسي أمامه مباشرة لا شيء بيننا عدا هواء جامد صلد بارد يمكن تقطعه بالسكين.
عينينه الحادتين مصوبتين ناحيتي إلى صفحة وجهي الذابلة لا حاجز بيننا يقيني شر نظره، لو كانتا سهمين لشقتا بهما صدري نصفين وأرداني قتيلا، أمرني مجددا صارخا في وجهي والرذاذ يتطاير من فاه:
_اكتب أيها الرعديد…!
أمرني مجددا وبلهجة حادة أن أكتب شيء لا أعرف ما هو، لساني الخفيف كقشة جعلني أنبس بكلام كبير، فقلت فيما يشبه التحدي:
_ ماذا اكتب…؟
قهقه مستهزئ من سؤالي وأجاب في الحين آمرا:
_ اكتب قصة، حكاية…اكتب ما يمكن أن يُكتب؟
تعجبت كيف يطلب مني شيء كبير كهذا وأنا لا أعرف نسج الكلمات بالكاد أعرف القراءة وبصعوبة ظاهرة، وإن حدث ونسجتها لن تشي بمعنى ولن تكون جملا ولا نصً متناسقً…
قلت وأنا ألملم شتاتي الظاهر: عَلّمني أولا…ثم أمرني؟
توقف برهة من الزمن الميّت، وكنت أنتظر رده الذي أعرف أنه لن يكون ناعما، رفع يده وهوى بها على مجددا فهو لا يملك إلا يده الطويلة وعقله القصير فأسقطتني مرة أخرى وبفظاعة.
وقال وهو يحك لحيته الخفيفة المبعثرة:
_العصا لمن عصى.
أجهشت باكيا بكاء حميما، وحشرجة توقفت عند حلقي كادت تخنقني، كافحت لأقذف بكلمات ثائرة انفجرت في لحظة غضب من لاشعوري وخرجت متحررة من عتمة دواخلي وقلت وأنا الصغير قيسا بذلك الكلام:
_أما سمِعت وأنت أعلمُ مني بالقاعدة التربوية التي تقول: لا تضربه وأهجره ولا تُطل.
تارت ثائرته، وابتلع ريقه، وحك مؤخرته، وقال ووجهه يتلألأ حمرة غضب:
_أراك ترد على الكلام أيها النجس، وصرت تتجرأ علي، لإن لم تصمت لأشبعنك ضرب مبرحا… لسانك السليط الخبيث هذا سيكون ذات يوم حطب للنار التي ستكتوي بها…فتعقل!
تهالك على مكتبه الخشبي المهترئ وبدأ في النظر إلى وباقي العيون تنتظر مصيري الذي سيقرره في أي لحظة، تركني معلقا بين السماء والأرض وفي مواجهة مباشرة مع مصيري المجهول، وصمت مخيف يحيط بي من كل الجوانب، ودبيب خرافي يسري في جسدي أفقدني القدرة على التركيز والتفاعل الجيد مع المؤثرات الخارجية، أنتظر ذلك الانتظار المميت الذي يجعلك تفقد قيمتك وكينونتك وانسانيتك، كمن ينتظر موعد قبض روحه والانتقال من عالم إلى أخر ولا علم له بتفاصيل ذلك الانتقال.
قطب جبينه، وبلع ريقه، ومسح وجهه علامة الحيرة، وفي لحظة وبحركة خاطفة قام من كرسيه واتجه نحوي هائجا كثور اسباني لمح قطعة قماش حمراء، حينئذ فقدت التواصل الجيد مع العالم حولي، سحبني من ثيابي وألقى بي خارج القاعة ونفض يديه كمن رمى القمامة في الحاوية وأردف قائلا:
_”مكانك ليس هنا…”