استلهمت رواية (صندوق الرمل) للأستاذة (عائشة إبراهيم) حكايتها من صور تاريخنا الوطني ضد الاحتلال الايطالي، وقد أبانت عن جهدٍ مُضنٍ في تتبع واطلاعٍ تاريخي وزمني للحياة في إيطاليا لم تتوقف عند أفكار “دانتي” وأطروحات منهج “المستقبلية” أو أسماء الشوارع والأزقة والمدن والأمكنة وأكلات المطابخ أو عناوين الصحف والفنانات الشهيرات…
بل ذهبت بعيداً حتى فتحت خزانة الأرشيف الإيطالي وانتقت منه نصوص رسائل الجنود الايطاليين إلى أمهاتهم وزوجاتهم وعشيقاتهم، كما استمعت إلى أنغام الأناشيد الحماسية الصادحة بالدعم والتحفيز والتشجيع لخوض النزهة البحرية كما زعم العسكريون الإيطاليون الغزاة بقيادة (كارلو كانيفا) وهم يرددون نشيدهم الحماسي، التي تحولت بفعل معارك المجاهدين القتالية وتضحيات الشهداء إلى مقبرة لإيطاليا الفاشية في “صندوق الرمل”:
(أُمَّاه صلّي ولا تبكي
بل اضحَكِي وتأمَّلِي
ألاَ تعلمينَ أنَّ إيطاليا تدعوني
وأنا ذاهبٌ إلى طرابلس فرحاً مسروراً
لأبذلَ دَمِي في سبيلِ سحقِ الأمةِ الملعونة
ولأقاتلَ الديانةَ الإسلامية.
سأقاتلُ بكُلِّ قُوتي لمحو القرآن
ليس للمجدِ مَنْ لم يَمُتْ لإيطاليا
تحمّسِي أيتُها الأمُ
وَإِنْ سألكَ أحدٌ عن عدمِ حِدَادِكِ عليّ
فأجيبيه: ماتَ في سبيلِ مُحَاربَةِ الإسلام)
(2)
ظلت شخصية بطل الرواية الجندي الايطالي الشاب (ساندرو كومباريتي) تتجاذبها لحظات جلد الذات وإدانة المغامرة الفاشلة لإيطاليا مع جنوحه لممارسة دوره الإجرامي البشع في تناقضٍ صريح، تتفاعل فيه مشاعره الإنسانية بكل تصادم وحيرة وقلق نفسي كبير، مع شخصيته الاعتبارية غير المنعزلة عن مجتمعه الايطالي الفاشيستي، بل هو رمز الخسة والنذالة والغايات والأهداف الاستعمارية الاستيطانية، وفي المقابل ظهرت “حليمة” رمزاً للأرض، ولليبيا، وللإنسان، وللبراءة، والضحية التي عصفت الحرب بأحلام زواجها من “بشير” وغيّرت مجريات حياتها كلياً، ولذلك فإننا بكل حرقة نسمع صوت “حليمة” ضمن أصوات الأسئلة الجماعية المدوية في فضاءات سجن “غاييطا” الثكنة المخصصة كمستوطنة عقابية للسجناء الليبيين، تتعالى مدوية ومنددة بجنود “الكابريري” فتستفز العقل الإنساني والمجتمع الدولي والمحتل الإيطالي:
(لماذا نحن هنا؟
لسنا أسرى حرب، لقد أخرجونا من بيوتنا.
نريد العودة إلى وطننا)
(3)
تناغم التنقل بين الأمكنة والأزمنة والشخصيات أثناء السرد بامتياز هارموني في رواية (صندوق الرمل) الرائعة التي أكدت أن كتابة التاريخ بلغة أدبية ترتقي بتوثيق أحداثه، فتزيدها رسوخاً، في الباطن الفكري والعاطفي لدى المتلقي، وقد استطاعت الأديبة عائشة إبراهيم أن تأسرنا بكل حميمية وشوق لمتابعة أحداث الرواية رغم ما فيها من مرارة ودم وقسوة واستعمار وخذلان. لقد برعت الكاتبة بكل جدارة في استنطاق الزمن الماضوي في ايطاليا وليبيا، مستعينة بالكثير من الشواهد العمرانية والشخصيات والأحداث الحقيقية وحتى التواريخ الدقيقة لتقدم لنا عملاً يستحق الكثير من القراءات العميقة والاحتفاء به على الدوام لأنه صفحة من صفحات التضحيات الإنسانية بكل تبايناتها على هذه الأرض الطيبة.
لم يكن حليب الفتاة الليبية البريئة “حليمة” الذي تبيعه مع شقيقها الأصغر “حمد” على حمارها الهزيل مجرد سائل “أبيض” لذيذ انسكب على بقاع الأرض الهانئة لحظة هجوم مسلح عدواني غادر على بيت الأسرة الآمن، بل كان رابطاً لونياً يمتزج مع الدم “الأحمر” المهدور على ثرى الرمل “الأصفر” الطاهر يحمل الكثير من الدلالات. ولم تكن ضواحي “المنشية” و”الشط” و”الهاني” و”بومليانة” ذات حضور فوتوغرافي جامد في النص الروائي، بل كانت فضاءات حركية متفاعلة تنبض بكل أحداثها وشخصياتها وهي تمارس طقوس حياتها البسيطة الهادئة حتى تهاطلت على حين غرة قذائف الغزو وحمم الموت وسقطت على صندوق الرمل مخلفة الكثير من الدمار والخراب والشهداء. ولم تكن الحوارات الثنائية والمونولوجية الداخلية عبثية تهدر الوقت وتحبّر أوراق الرواية بقدر ما تضمنته من شهادات توثيقية ومعلوماتية تاريخية وزيادة التشويق للتعلق المستمر بالسرد ومتابعة مجرياته ومفاجآته المدهشة.
(4)
لم تكتفي رواية (صندوق الرمل) بما أثارته من أسئلة علنية صريحة على صفحاتها، بل حرّكت العديد من الأسئلة الراكدة المكبوتة والصامتة حول أبرز شخصيات الرواية وهما (ساندرو) الجندي الإيطالي الشاب، والفتاة الليبية البسيطة (حليمة) أو (مستورة) كما سجلتها بعض الوثائق التاريخية الايطالية لحظة وصولها إلى منفاها بجزيرة (أوستيكا) الإيطالية. تلك الأسئلة التي استمرت في التوالد ولم تتوقف حولهما، لتزيدنا تعلقاً أكثر بالنص والتفكر في أركان نسيجه الخلاب والغوص في أحداثه بكل ما فيها من واقعية حقيقية وافتراضية تخيلية انصهرت في ثنايا النصّ فأبرزت مهارة فائقة للروائية في إبداع عمل روائي يمثل إضافة مهمة للكتابة التاريخية والأدبية في ليبيا.
ولذلك فإنّ الرواية لم تنتهي أو تتوقف بخاتمة صفحتها الأخيرة، بل بقيت أجواؤها تلاحقنا وتسكننا كلما اتجهنا صوب التاريخ وقلّبنا صفحات المعاناة الإنسانية منذ بداية الغزو الايطالي الفاشستي للأراضي الليبية الآمنة، وترويع الأهالي، وإعدام الشباب، وترحيل الآلاف ونفيهم بالجزر الإيطالية النائية. وحتى إن كان سطرها الأخير يقول (وحده “حمد” كان يكبر .. يكبر .. يسير نحو المنشيّة .. يزرع أرض السانية ويسقي الأشجار) فإنها لم تجعل ذلك المشهد صورة نمطية جوفاء، لأن الكاتبة بثت في شخصية الطفل الصغير (حمد) شقيق (حليمة) الأصغر رسالة دلالية مستمرة ومتواصلة عبر الأجيال، ومحركاً لرسم العديد من التصورات والتساؤلات والاحتمالات، وصياغة توقعات عديدة خارج النص إلاّ أنها تبقى منبثقة من خلاله وفي إطاره وسياقات سرده. إن (حمد) لم يكن بالمشهد الدلالي للرواية شخصية ثانوية صغيرة أو كرتونية غير ناطقة، بل جسد أيقونةً للطفولة الشاملة النقية، والضحية الإنسانية البريئة، والأمل المرتجى، والمستقبل المنتظر الذي يعول عليه في التخلص من إرث الماضي واستنهاض الإنسان والبلاد. وهذه الشخصية الطفولية بكل رمزيتها بعثت في الفضاء الروائي حركية استشفافية حالمة لِمَا بعد انتهاء الرواية، وهذا بلا شك دليل على حيوية الرواية وقوة فاعليتها في التأثير الكبير على القارئ برؤيتها البعيدة، وقدرتها على استشفاف المستقبل واستيطان وجدان القارئ وإدارة محركات فكره ووخزه بالأسئلة المثيرة والمشاكسة، وبالتالي فإننا حتى وإن لم نسمع صوت (حمد) علنياً وبشكل مباشر في حوارات أو مناقشات داخل متن الرواية فإن حضوره الرمزي وصورته أبلغ من كل ذلك، وهو الذي يجعلنا نؤكد أنه بعد انتهاء الرواية ستظل شخصيته ماثلة في رؤى مستقبلية تنسج حياة قادمة نتوق لمعرفة تفاصيلها في ذهن كل قارئ، ومآلاتها لربط الماضي البغيض بالغد الآتي ونتابعه في تنبؤاتنا وخيالاتنا وهو يتخلق في رحمٍ يمزج الحاضر مع الآتي وبخيوط قاتمة من ماضي بغيض.
إنّ (حمد) لم يكن خيالاً فارغاً وظرفياً عارضاً حديثاً بل سكن بشخصيته المستوطنة وجداننا الإنساني والوطني، ولم تغب صورته عن حياتنا حتى قبل أن نعرفه أو يتخلق في (صندوق الرمل)، فها هو يرافقني ويظهر خلال شهر ديسمبر 1999م في خيالي حين كنتُ أتنقل بين (بروجيا) و(مونسيليتشي) والعاصمة (روما) في ربوع إيطاليا، برفقة زميلي (عمر دوفان) الذي أيقظ اسمه الأول في كياني وعقلي الباطن شخصية بطلنا التاريخي (عمر المختار) فهيمنت على خطواتي وتأملاتي أثناء جولاتي وسط الشوارع والأمكنة الإيطالية، مثلما كانت صورة (حمد) تسكنني من قبل أن ألتقيها في (صندوق الرمل) وتتوغل في كياني وأنا أخاطب ذاك “الإيطالي النظيف” كما رسمته في نصّي (نداءاتٌ وراءَ الشاطئ الرابع) متسائلاً:
(مَنْ قَتَلَ جَدِّي؟
وَهَلْ ثِيَابُكَ الأَنِيقَةُ
حِّيكَتْ بِخُيُوطِ شَمّسِ بِلاَدِي؟
وَهَلْ أَبْوَابُ مَدِينَتِكَ الْعَرِيقَةْ
مِنْ جُذُوعِ نَخِيلِ أَرْضِنَا؟
وَهَلْ ابْتِسَامَةُ عَيْنَيْكَ الْجَمِيلةْ
مِنْ آلاَمِ وَمُعَانَاةِ جَدَّاتِنَا؟
مَنْ يُجِيبُنَا أَيُّهَا الإِيطَاليُ النَّظِيفْ؟
فَأَنْتَ سَمَاؤُكَ دَائِماً تُمْطِرْ
وَأَنَا قَمَرُ بِلاَدِي حَزِينْ
يَنْتَظِرُ عَوْدَةَ جَدِّي)
(5)
لم يكن الحوار ترفاً زائداً أو تقنية بهرجة ديكور واكسسوارات في (صندوق الرمل) بل ظل معبراً ومكملاً لكل صورها السردية ودلالاتها البعيدة والقريبة. لقد قرّب الحوار أحداث الرواية في ذهن القارئ وجعله يتماهى فيها ويتعاطف معها بكل قوة، خاصة عندما يتعلق بالوطن بجميع أبعاده الجغرافية الواسعة الممتدة من الشرق إلى الغرب والجبال والسهول:
(- كيف حال الأهل؟
– أنت من طبرق؟
– البيضاء؟
– كيف الأهل في مصراته؟
– جاي من ترهونة.
– أنا من يفرن.
– من العزيزية.
– كيف جملة ورفلة كلهم؟)
(6)
ظل الفضاء البانورامي في (صندوق الرمل) زخراً بالعديد من المشاهد والشخصيات الإنسانية التي من أبرزها شخصية الطباخة الأثيوبية (هلالة) بتحايلها على الشرطي الإيطالي عند زيادتها قطع الخبز، وتوفير الشراب الساخن للمنفيين الليبيين المرضى، وما مثله صنيعها ذلك من تعاطف إنساني مع السجناء الليبيين في المعتقل الإيطالي ليعكس المشترك الإنساني الذي يتجاوز العقيدة الدينية والجنسية العرقية والمكان الجغرافي.
أما التقنيات الفنية في السرد فلم تقتصر على فن (القصة داخل القصة) من خلال الحكايات المتبادلة بين السجناء والسجينات، أو الوصف الخلاب للأمكنة حد استنطاقها من خلاله، وهيئات الشخصيات الليبية والايطالية، أو الحوارات الثنائية الممتعة ومونولوجاتها الداخلية الصامتة، بل توفرت بهذه الرواية الكثير من التعالقات الجنسية الأدبية والفنية الأخرى والتي من بينها أدبيات الموروث الشعبي الذي زرعته المبدعة عائشة إبراهيم في ثنايا النص، تقريباً لواقعيته وتعزيزاً لأحداثه وتجسيداً وتوثيقاً لمعاناة المنفيين الليبيين بالجزر الايطالية، وحتى إن كان استحضار أغاني الرحى المتداولة بين السجينات المنفيات (يا بنت داري على خوك .. خير من ولد من حزامك.. يعزك إن كان ضاموك.. ويشرط عليهم إحسانك)، والشعر الشعبي لم يكن غزيراً في (صندوق الرمل) حيث اقتصر على تضمين الرواية جزءاً من قصيدة الشاعر الشعبي (فضيل الشلماني) أحد المعتقلين الليبيين في سجن “فافينانا”، ولكنه اتسم بقوة تأثيره في هذا النصّ المختار الذي يبث فيه الشاعر المعتقل معاناته القاسية وحزنه ومرارة السجن وبؤس الحياة ويبوح بكل ذلك لطائرٍ صغير ربما حط عند شباك زنزانته، أو أفرد جناحيه محلقاً في الهواء أمام ناظريه، فخاطبه منادياً كما نقلته وترنمت بها (سليمة البنغازية) ليتداوله السجناء إثر ذلك:
(يا طير يا طاير يا حايم في السما
ياللي خلقلك ربنا جنحان
تعال نشكيلك على حال ما جرى
راني غريب وأنت من الحبّان
يا طير يا مشكاي روّح لوطنّا
وصّل سلامي والسلام أمان
كان ينشدوا على الحال في حالة كدر
مرايف عليهم خاطري ولهان)
(7)
(الطلياني قتل أمي وسيقتلني) هكذا تؤكد (حليمة) وهي تنقل بتذكرها تلك الحادثة تأصيل الجرم الشنيع من الماضي وربطه بحاضرها المؤلم البغيض في استمرارية زمنية تتابعية، لينبعث سؤال (سليمة البنغازية) حول ما يحمله المستقبل بمعناه البعيد ورمزيته الدلالية (ماذا سيكون مصير الولد من بعدك؟ من له غيرك؟)، وهو بلا شك سؤال يحمل رؤىً عميقة وبعيدة، لم يسعى (باولو فاليرا) الصحفي الإيطالي الوحيد الذي تمكن من زيارة السجينات الليبيات في مستوطنات العقاب الإيطالية والتحدث إليهن قبل أن يختفين إلى الأبد، للتفكير فيه ومحاولة إثارته والإجابة عليه في مقالاته حول تلك الجريمة الإنسانية الشنيعة!
ولكن ها هي رواية (صندوق الرمل) التي نعدها عملاً إبداعياً إنسانياً ووطنياً بامتياز تخلّقت فكرته في ذهن الروائية عائشة إبراهيم إيماناً بدور الأدب في توطين التاريخ بلغة ترتقي بالأحداث وتسمو بصورها التعبيرية وجمالياتها الفنية ممزوجة بالخيال الخلاب والسرد المتقن في سياقاته وموضوعه وحركية شخصياته، تثير تلك الأسئلة وتعيد صياغة الأحداث بروح منفتحة تتجاوز آلام الماضي لتنشد التفاعل الإيجابي معها، ونفض ركام الزمن على صفحات التاريخ ليشرق وجه الحقيقة وإن كانت قاسية ومريرة وظالمة للإنسان والوطن. كما تعد (صندوق الرمل) في جانب آخر تعبيراً أدبياً رائعاً عن العشق لهذا الوطن الذي نسعى جميعاً للدفع به إلى صفوف الإبداع المتقدمة، للتأكيد على أنه أرض الحضارة والتاريخ والأدب وليس مجرد موقع جغرافي وساحة للنزاعات والتحارب، وما تألق وترشح رواية (صندوق الرمل) للكاتبة عائشة إبراهيم مؤخراً لجائزة البوكر للرواية العربية إلاّ تأكيد على كل ذلك.